قضايا وآراء

حديث الصراحة والوضوح مع الرئيس قيس سعيد

أنور الغربي
1300x600
1300x600

قال لي يوما "جون زيقلار" Jean Ziegler الكاتب والمفكر والديبلوماسي السويسري والمقرر الأممي المعروف: "كن كما أنت يحترمك الناس وإن كنت مختلفا... بما أنك اخترت الشأن العام فإنه من المهم أن تكون معاملاتك شفافة وأفكارك واضحة... يراك البعض نقابيا ويساريا ويراك آخرون من اليمين المحافظ ومن رجال الأعمال المهم أن تكون كما أنت ولا تلعب أدوارا لترضية الجميع ولتحقيق ما تصبو إليه.. وإن تطور تفكيرك فلابد من خيط رابط يجعل الانتقال مفهوما لتحافظ على احترام الناس لك وما تحمل من أفكار وقيم وإن كانت مختلفة...". 

منذ بضع سنوات دعي الرجل لإلقاء محاضرة في كلية الطب بسوسة وكان يومها يحمل صفة "موظف سام لدى الأمم المتحدة"، وكان يرأس لجنة برنامج الغذاء العالمي التابع للمنظمة الدولية. اتصل بي وأعلمني بأنه قادم إلى تونس وهو مصر أن يدخل البلاد من أبوابها وأن يقابل رجالها "الصادقين".. لا أخفي أن كلامه أسعدني جدا يومها ولكن كان أهم ما لفت انتباهي في الحديث هو الحديث عن "الرجولة والصدق وتحمل المسؤولية". قيم يحتاجها أي مجتمع وأن زيقلار هو من قامات الفكر اليساري وأحد العمالقة الذين تعتبرهم إسرائيل وأمريكا من ألدّ أعدائها.. وهو يعتبر الوضوح والصدق من أهم الركائز في التواصل والتعامل بين الناس، وهو إلى اليوم يدافع عن أصدقائه حتى من الديكتاتوريين رغم تكلفة دفاعه الباهضة لسمعته ومكانته. ويرى زيقلار أن الصدق هو الأساس وأن الوفاء بالعهود من مرتكزات التعامل بين العقلاء من البشر.

صديق عزيز آخر ـ لا أرى فائدة في ذكر اسمه هنا ـ قال لي منذ أكثر من ربع قرن: لو طلب منك "القسم على الدستور السويسري للحصول على الجنسية فلا تفعل لأنك ربما تضطر يوما أن تغير أو أن تختلف قناعاتك مع بعض بنود الدستور فتكون قد خنت أمانة القسم وخالفت دينك وقناعاتك".. قال لي يومها صديقي هذا وهو كاتب ومفكر معروف في جينيف: "أنا لما دعيت للقسم قلت لهم "أعدكم باحترام الدستور ولا أقسم عليه"... وعند اشتداد الحرب في البوسنة سألته الإدارة المشرفة على ملفات الجنسية عن رأيه في ما يجري وعن امكانية حصول نزاعات شبيهة بين المناطق وجهات النفوذ المختلفة في سويسرا، فقال لهم ما معناه أنا كنت وعدت باحترام دستور البلاد وسأعمل ما أستطيع لحماية البلاد من أي اعتداء أيا كان مصدره.. ومن بعد مكنوه من حقوقه كاملة واحترموا إرادته الخاصة في عدم القسم لأنهم أيقنوا من صدق الرجل... 

وهنا أيضا درس مهم من الإدارة السويسرية غير الجامدة والتي أيقنت بأن الرجل صادق ولن يخون لا قناعاته ولا القيم المشتركة في المجتمع.

 

أصبحت على قناعة بأني لم أفهم الأستاذ قيس سعيد بشكل جيد وأجد نفسي معارضا لسياسات الرئيس في مجال العلاقات الدولية التي ترتكز على نقاط القوة الداخلية وتثمينها وليس ضربها وهرسلة الجميع وإظهار البلاد في صورة مسيئة وأحيانا مخجلة.

 


تذكرت هذه الأمثلة وأنا أراجع شريط الذكريات وما كان يدور بيننا مع الأستاذ قيس سعيد لما دعي للمشاركة كأحد الخبراء والمساهمة في كتابة الدستور وكان أحد المتحمسين للدستور الجديد قبل أن يبدأ بالمراجعات الخاصة به. وطبعا كغيري لم أكن اعرف الأستاذ قيس سعيد قبل الثورة لأنه ببساطة لم يكن أحد الفاعلين في المشهدين الحقوقي أو القانوني، وطبعا لا مجال للحديث عن الجانب السياسي وقتها وبالتالي اعتبرنا أن الثورة تجب ما قبلها وأن الجميع يبني على المشترك على قاعدة الوطن للجميع.

في الحقيقة أتيحت لي فرص للحديث مع الرجل حتى بعد مغادرتنا لقرطاج ولمست فيه الصدق والإخلاص، وهذا كان كافيا لحسم الموقف في مرحلة ما. وكنت مدركا لمحدودية إمكانيات الرجل وعدم وعيه بأهمية المجالات التي سوف تصبح من صلاحياته لاحقا وهي أساسا العلاقات الخارجية وكنت أحرص على إرسال تقييمات المواقف المرتبطة بالسياسات الدولية له وكان أكثر ما يخيفني هو استحواذ الأجندات الخبيثة على الرجل ولكني اليوم أصبحت متخوفا جدا من حجم الأذى الذي ألحقته السياسات المتبعة بمصالح البلاد حاضرا ومستقبلا. 

موضوع التدوينة هو الوضوح والصدق وأنا اليوم أصبحت على قناعة بأني لم أفهم الأستاذ قيس سعيد بشكل جيد وأجد نفسي معارضا لسياسات الرئيس في مجال العلاقات الدولية التي ترتكز على نقاط القوة الداخلية وتثمينها وليس ضربها وهرسلة الجميع وإظهار البلاد في صورة مسيئة وأحيانا مخجلة.

 

لازلت أحترم الاستاذ وأملي أن يغادر وهو محاط بالبعض من المخلصين له لأنه لم يبق له على ما أرى الكثير من الذين كانوا معه واقتنعوا بأفكاره.. أذكر أني قلت له يوما أنا أتخير الناس من حولي وأبني مع الصادقين لأضمن مرتكزات الوطن النظيف غدا ولأضمن أن من يسير في جنازتي يوما سيقولون كان صادقا ونسال الله أن يحشرني مع الصادقين وهذا يكفيني.


التعليقات (0)