(كما قلت الأسبوع الفائت، فإن صاحب اللسان الفالت،
وجيع الزمان، شخص جبان، لأنه صاحب عيال، ويريد تلبيسي تهمة القيل والقال، بعدم الإفصاح عن اسمه الحقيقي، فيكون في مأمن، ويصبح ملغوما طريقي، ولكن بايظة بايظة، ولا تهمني شماتة أبله ظاظا)
قال وجيع الزمان الزفتاني، حدثني أحمد الكشخان:
في سَفْرة لي طال مشيي ونصَبي، وزاد بي تعبي، فقد شدت الشمس حيلَها، وانتصف النهار فمنعت المباني ظلها، وقد بقي على موعد قطار العودة أكثر من ساعة، وأنا رجل لا حظ لي في اللكاعة والصياعة، فأويت إلى زاوية في حارة، لأنعم ببعض الهدوء وأهرب من الحرارة، ودخلت وصليت ركعتين، ثم استندت على الحائط ومددت ساقيَّ المجهدتين.
ولم أدر إلا وعصبة من الجلاوزة قد دهمتني، وصفعات عنيفات قد نبهتني، وركلات (مفتريِّات) أرعبتني، وعشرة أذرع قد سحبتني، وعلى الأرض جرجرتني، وقطعوا لي ثيابي، فصحت من الرعب: يا خرابي، وسمعت من يقول لي يا بن الكلب، ومن يتفنن معي بالركل والضرب!
وقعتَ يا بن الكلاب ما بين ظفري ونابي / وحان حَيْنك توًّا وحل يوم الحساب
وسوف أسقيك كرْعا جهنمي وعذابي / وسوف تعرف حتما معنى سعار الكلاب
ثم صفعني عتل وقال: بتهزر يا روح أمك، والله لأُسيِّحَن دمَّك! تعال يا إرهابي. فأحسست والله ببلل في ثيابي، وانكفأت على رجله أبوسها، فوضع حذاءه على رأسي يدوسها، وكلبشوني وقيدوني، وفي بوكس مغلق ألقوني.
وطارت بي السيارة إلى حيث لا أدري، وأنا في دهشة وحيرة من أمري، وبعد ثوانٍ قليلة، سمعت صوت انفتاح بوابة ثقيلة، ودخلت إلى" جهنم" يا ولداهُ مسحولا، مقيدا كسيرا مذلولا، لأجد صفًّا من الوجوه المتجهمة، والقبضات المكومة، وإذا بكرباج يشرط جلدي، وشومة تكسر زندي، وأقلام تطرقع على قفاي، وضرب على الرأس أظلمت منه عيناي.
لم أدر كم مضى بالمكان علي، لكن بصعوبة بالغة فتحت عيني، فرأيت وجوها حولي تعلوها ابتسامة، وتدعو الله لي بالسلامة، فسألت في رعب: أين أنا؟ وكيف جئت إلى هنا؟ فقالوا: أنت في
العقرب، فاهدأ فعافية الله أقرب!
لماذا؟ أنا والله لست شخصا إرهابيَّا، ولا بلطجيًّا ولا عدوانيًّا، ولست عميلا لإسرائيل، وليس لي في السياسة كثير ولا قليل، ولست والله قاطع طريق، وليس لي من تجار الصنف صديق!
قالوا: ليتك كنت من هؤلاء! إذن لكان اسمك الآن في السماء، ولنلت الأوسمة والنياشين، وسموا باسمك الشوارع والميادين!
ولم ألبث أن جاء عتل قبيح السحنة، يشعرك مجرد مرآه بالمحنة، وقيد يدي من الخلف، ورزعني على وجهي عشرة أكُف، حتى جعلني على كعبي ألفّ، وأدخلني إلى غرفة شبه مظلمة، وكانت عيناي قد اعتادتا الأجواء المعتمة، فوجدت أربعة جعاليص، وقد وقفوا شبه )بلابيص(، فرفعني أحدهم وعلقني ذراعيَّ من الخلف بحلق الباب، فلم تمر ثانية إلا وأنا أصرخ من هول الألم والعذاب، ثم أنزلوني، وعلى سرير حديدي وضعوني، ثم أتوا بسلكي كهرباء ومدُّوهما، وعلى جانبي رأسي علقوهما، وضَغط ابن كلب منهم على الزر، فرأيت روحي من جنبيَّ تفر، وصرخت صرخة يسقط من هولها الطير لو مر، واهتز جسمي وارتجف، وظننت أن دمي في شراييني تخثر ونشف، وقلبوني بين التعليق والكهربة، والركل والصفع والتكويم والشقلبة، وربطوني في الفلكة، حتى عجزت عن الحركة.
وبعد أن أنهوا حفل تعذيبي، ونلت من الإهانة نصيبي، حملوني إلى الزنزانة، وألقوني باستخفاف واستهانة، فاستقبلني زملاء الهمّ يواسونني، ويخففون عني ويهدئونني!
وسألوني: ما تهمتك يا أخانا، حتى ابتلاك الله بما ابتلانا؟ فقلت بصوت منهك ضعيف، هو أقرب من الوعي "للتخريف": كنت أقضي حاجة بالقاهرة، لأعود بعدها لبلدي مباشرة، وكنت قد أجهدني السير والسفر، وأرهقني العرق والحر، فدخلت لأستلقي في الزاوية، وأنا والله لا عليَّ ولا بيَه، فإذا بهم يهجمون ويوسعونني ركلا وصفعا، ولكما ودفعا، وأنتم تعرفون الباقي، وتدرون ما ألاقي!
ثم جرجروني أولئك الديابة، إلى حيث البيه وكيل النيابة! وحمدت الله أن وقفت أمام العدالة، فهي ستنصفني بلا محالة، والبيه النائب العام، رجل عدالة (مش أي كلام)!
لكن راعني أنْ بدا ناعما كَحَية، ببسمة لئيمة تخفي تحتها رزية، ولما وقفوني بين يديه، نظر إليهم -وفي تمثيل – أجحظ عينيه، ثم قال: يا بهايم يا كلاب، ماذا فعلتم بهذا الشاب، بسرعة يا عسكري أحضر له العصير، في كأس مثلج كبير! وأخذ يقول كلاما ناعما حلوا، من السباب والتحقير خلوا، ثم قال:
- بأي تهمة أخذوك؟ وكيف أمسك بك هؤلاء البهايم واعتقلوك؟ قلت: يا باشا.. كنت قد دخلت المسجد، لأريح ظهري وأسند، فإذا بهم....
- اصدقني الكلام، ولا تتلاعب من فضلك، فقد أبلغوني بأمرك، ألم تذهب لمقابلة أبي مرسي عطية، لتنفيذ العملية الإرهابية؟ ألست عضوا في تنظيم العائدين من دشنا؟ المتآمرين على بلدنا وجيشنا؟ ثم صاح: خذوه وأدبوه، واسلخوه وعذبوه، حتى يقر بجريمته، ويبلغ عن خليته!
وأعادوني ثانية إلى (السلخانة)، وكرروا معي السيناريو بدقة وأمانة. وبعد شهور أو سنين، (لست متأكدا على وجه اليقين)، فتحوا لي الباب الكبير، وطلبوا مني أن أفز وأطير، ونصحوني بتفادي صلاة الجماعة، وأن أكون من أهل السمع والطاعة.
وهكذا صرت وجيع الزمان الذي ضاع منه الاسم والعنوان!