يوم 12 شباط/ فبراير القادم تحلّ الذكرى السابعة لاغتيال عماد
مغنية، الذي كان يحتل موقعاً قيادياً عسكرياً لعله الأبرز في «
حزب الله» كما كان، من حيث الصلة السياسية والأمنية مع إيران «والحرس الثوري»، الشخصية الثانية في الحزب بعد الأمين العام حسن نصر الله. وقبل الذكرى بأيام معدودات، نشرت صحيفة «واشنطن بوست» وأسبوعية «نيوزويك» تقريرين يكشفان خفايا العملية، التي نُفّذت في قلب العاصمة السورية دمشق، بتعاون وثيق بين المخابرات المركزية الأمريكية وجهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلي، «الموساد». وإلى جانب تفاصيل تقنية تخصّ تصميم العبوة الناسفة، التي جُرّبت مرّات عديدة في منشأة تابعة للمخابرات المركزية الأمريكية، في نورث كارولاينا؛ ثمة طرافة في سرد «التعقيدات» القانونية التي سبقت إعطاء الإذن الأمريكي بالتنفيذ: إقناع الرئيس السابق جورج بوش الابن، وكذلك وزير العدل، ومدير المخابرات القومية، ومستشار الأمن القومي، مكتب الإرشاد القانوني في وزارة العدل… بأنّ العملية «دفاع عن النفس»، وليست اغتيالاً!
أكثر طرافة أنّ المشرّع الأمريكي، على هذه المستويات وسواها كان، في إقرار العملية، ينتقل من طور سابق شهد حرج واشنطن من عمليات
الاغتيال الإسرائيلية -كما في محاولة اغتيال خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، في العاصمة الأردنية عمّان، خريف 2007-؛ إلى ممارسة أنساق من الاغتيال لا تقلّ انتهاكاً لأيّ وكلّ «شرعية» قانونية، في باكستان والصومال واليمن، وليس ضدّ أجانب من أمثال أسامة بن لادن فقط، بل ضدّ مواطن أمريكي الجنسية مثل أنور العولقي. وفي هذه المناسبة، جدير بالاقتباس كتاب «القتل الكامل: 21 قانوناً لمرتكبي الاغتيال»، الذي صدر مؤخراً بتوقيع روبرت ب. باير، ضابط المخابرات الأمريكية المخضرم الذي تُقتبس سيرته في الفيلم الشهير «سيريانا»؛ حيث يفصّل الرجل القول في أنماط «القوانين» التي توفّرها الاستخبارات الأمريكية لرجالها المكلفين بتنفيذ الاغتيالات، وبينها القانون رقم 9، الذي يقول: «لا تطلق النار على كلّ مَن في الغرفة».
وبالفعل، تطبيقاً لهذا القانون، تسرد رواية اغتيال مغنية أنّ التنفيذ تأجل ذات مرّة، رغم أنّ تفجير العبوة الناسفة كان سيضرب عصفورين بحجر واحد كما يُقال: كان مغنية يقترب من السيارة المفخخة، ولكن كان يسير إلى جانبه… الجنرال قاسم سليمان، قائد مفارز «الحرس الثوري» الإيراني في لبنان وسوريا! لماذا، والصيد بذلك كان سيبدو ثميناً وسميناً حقاً؟ المخابرات المركزية الأمريكية ترفض التعليق على «تقارير صحفية» مثل هذه، ولكن لا تنفيها بالطبع؛ ومارك رغيف، الناطق باسم رئيس الوزراء الإسرائيلي، يقول: «ليس لدينا ما نضيفه حالياً». الثابت، مع ذلك، أنّ مغنية كان يومذاك رجل التنسيق العملياتي المباشر، والأعلى مستوى لأنشطة «الحرس الثوري» الإيراني، منذ تلك الفترة؛ حين كان النظام يسعى مع الولايات المتحدة لترويج أسطورة «المنعة» الداخلية، وبيع خرافة «الاستقرار» السياسي والاقتصادي والأمني.
ذلك التفصيل يعيد إلى الأذهان، أيضاً، فترة الصمت الطويلة التي طبعت ردود أفعال النظام السوري على واقعة الاغتيال؛ التي كانت تشير، في منطق استقرائي بسيط، إلى حرج كبير حتى في اتهام أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية. الأسباب لم تكن تخصّ الحياء من دولة إسرائيل، بالطبع، بل ما يتبع الاتهام من ضرورة تقديم كبش فداء محلي، إذا شاء نظام بشار الأسد أن يزعم أيّ حدّ أدنى من السيطرة الأمنية على مقدّرات البلاد. ولم تكن المعضلة مقتصرة على تدبّر كبش فداء كيفما اتفق، فهذا خيار مقدور عليه وليست مَسْرَحته بالإجراء الصعب أو غير المسبوق؛ بل في أنّ أيّ كبش فداء لا يمكن له إلا أن يدلّ على اختراق بالغ الخطورة، من جهة؛ وأنّ أيّ كبش يقع عليه الاختيار سوف يقود بالضرورة إلى واحد من الرؤوس الكبيرة، وهنا الطامة: أن تُجهز على أحد أكباش ذلك الرأس، أمر يعني المساس بالرأس نفسه في نهاية المطاف!
تلك كانت حال اللواء آصف شوكت، وكان يومئذ رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، وضابط الأمن الأقوى في حلقة النظام الأضيق، فضلاً عن صفته صهراً للأسد. وكان أمن مغنية الشخصي ثلاثي الحلقات، تشرف عليه حمايات تابعة لإيران مباشرة، ثمّ «حزب الله»، فالاستخبارات السورية؛ وبالتالي فإنّ نجاح عملية الاغتيال هو فشل ذريع لهذه الحلقات كافة، ولشخص شوكت بالذات. وهذه مسلمة بديهية، لم تكن تعني رأس النظام إلا في حقيقة أنّ دقّة التنفيذ الإسرائيلية قد تكون دليلاً على اختراق أمني دراماتيكي، وفضيحة داخل البيت الأسدي ذاته. عدا ذلك، نُسبت إلى أرملة مغنية تصريحات تنطوي على غمز من أجهزة أمن النظام -قولها، إذا صحّ أنها القائلة: «رفض سوريا مشاركة محققين إيرانيين هو الدليل الدامغ على تورط نظام دمشق في قتل عماد»، فضلاً عن تلميحها إلى «الخيانة» و«الغدر»-. كما نشرت وكالة أنباء «فارس» الإيرانية، ثمّ صحيفة «كيهان»، تقارير عن دور سعودي في تنفيذ عملية الاغتيال، وأشارت بأصبع الاتهام إلى رئيس مجلس الأمن القومي السعودي آنذاك، الأمير بندر بن سلطان، نفسه. وأخيراً، راجت تقارير عن إرجاء السلطات السورية إعلان نتائج التحقيقات إلى ما بعد مؤتمر القمّة، وتحديداً في في السادس من نيسان (إبريل) اللاحق، قبل أن يُصدر النظام نفياً رسمياً.
في ملابسات أخرى ذات دلالة، كان نائب وزير الخارجية الإيراني، علي رضا شيخ عطار، قد أعلن أنّ طهران ودمشق شكّلتا لجنة مشتركة للتحقيق في اغتيال مغنية، وذاك كان مطلباً إيرانياً حاسماً، وكان أيضاً رغبة من «حزب الله». لم يقع ذلك التحقيق، بالطبع، ربما لأنّ أي «نبش» جدّي في الملفات كان سيوجّه ضربة شخصية موجعة إلى اللواء الصهر، وإلى جهاز الاستخبارات العسكرية الذي يترأسه، من أعلى الهرم إلى أصغر مفرزة. وكان شوكت قد حرص على إبداء الترفّع عن تنفيذ حملات اعتقال داخلية ضدّ المعارضين السوريين، وترك لجهاز المخابرات العامة (ورئيسه اللواء علي مملوك، شخصياً) القيام بأمثال هذه المهامّ «القذرة»، وتفرّغ في المقابل لأمور عليا تخصّ أمن النظام الخارجي ومصالحه السياسية الإقليمية. والحال أنّ عرقلة تشكيل هيئة تحقيق سورية ـ إيرانية مشتركة وقفت خلفه الأسباب ذاتها التي منعت السلطات السورية من كشف ما توصّلت إليه تحقيقاتها، طيلة سنوات، رغم السخط الشديد الذي كان يتعاظم في أوساط مناصري «حزب الله»، وما تسبب به الصمت من إشاعات وإشاعات مضادّة تطعن في مصداقية النظام.
ذلك كله لا يلغي هامش التشكيك في التسريب، أو في بعض تفاصيله على الأقلّ، اتكاءً على ثلاثة تناقضات بين روايتَيْ «واشنطن بوست» و«نيوزويك»: خلاف حول المسؤولية المباشرة، الصحيفة تنسب التنفيذ إلى «الموساد»، والمجلة تقتبس قولاً لمسؤول أمني أمريكي سابق يفيد أنّ المخابرات المركزية هي الأساس: «كان دور ضابط الموساد يقتصر على الإشارة لنا بأنّ هذا هو مغنية بالفعل»؛ وخلاف حول الضاغط على زناد التفجير، هل كان في تل أبيب حسب الصحيفة، أم في دمشق كما تجزم المجلة؛ وأخيراً، هل كان الضابط الضاغط تابعاً للمخابرات الإسرائيلية حسب الصحيفة، أم الأمريكية طبقاً للمجلة. وتبقى غائبة، وليست ناقصة لأنها لم تُسرد بعد، روايات النظام السوري، وحليفيه «حزب الله» وإيران، عن تفاصيل الاغتيال، من جهة؛ واحتمالات أيّ «ردّ مزلزل» يمكن أن يصدر عن أية جهة معنية بالقصاص من القتلة، من جهة ثانية.
إلا إذا كانت الأقلام حول واقعة الاغتيال تقادمت ورُفعت، ومعها جفّت الصحف!
(نقلاً عن صحيفة القدس)