على نقيض مما شاع في التقارير الإخبارية، وما نقلته فعلياُ مواكب التشييع، فإنّ
إيران ـ وفق تقديرات أخرى، تنهض على معطيات ملموسة ـ لم تخسر الجنرال محمد علي الله دادي فقط؛ بل فقدت، في الغارة الإسرائيلية ذاتها على قافلة «حزب الله» في القنيطرة السورية، اثنين من كبار ضباط «الحرس الثوري»، العاملين في «فيلق القدس»، والمكلفين بمهامّ بالغة الحساسية على الأراضي اللبنانية والسورية: الجنرال علي طباطبائي (المعروف، أيضاً، باسم «أبو علي رضا»)، ومساعده الجنرال جعفر أسدي.
إغفال هذين الاسمين رسمياً، في الإعلام الإيراني وإعلام «حزب الله» على حد سواء، يشير إلى رغبة مشتركة في تخفيض الدلالة الأهمّ، ربما، وراء الغارة الإسرائيلة: أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لم يعطِ الإذن بتنفيذ الهجوم لأغراض انتخابية، فقط؛ بل كذلك، وأساساً، لكي يرسل إلى طهران رسالة لا غموض فيها البتة. محتوى الإبلاغ بسيط، بقدر ما هو قاطع وحاسم، مفاده أنّ التمهيد لإقامة جبهة ضدّ إسرائيل في
الجولان السوري المحتل، بإدارة مشتركة من «الحرس الثوري» الإيراني و«حزب الله»، ليس خطاً أحمر فحسب؛ بل هو أمر خارج كلّ الخطوط، وتطوّر يجب أن يولد ميتاً على الفور.
مدهش، في المقابل، ذلك الاحتمال الذي يشير إلى أنّ طهران قد تكون افترضت إمكانية سكوت إسرائيل على هذا التغيير الحادّ في قواعد اللعبة، السائدة في بطاح الجولان المحتل منذ اتفاقية سعسع 1973 مع النظام السوري، حيث لا تُطلق طلقة من بندقية صيد؛ وفي الآن ذاته، إمكانية موافقة إسرائيل على إدامة قواعد اللعبة مع «حزب الله»، واستمرار الهدنة على طول الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية. وإلا فكيف للمرء أن يفسّر هذا الاستسهال في إرسال هذا العدد من الضباط الإيرانيين، رفيعي المستوى والمهامّ، إلى منطقة عسكرية ميدانية مفتوحة على المخاطر كافة؛ صحبة رجل مثل محمد أحمد عيسى، المسؤول في «حزب الله» عن عمليات التدخل العسكري الخارجية في سوريا والعراق، والذي يتولى بنفسه قيادة مفارز الحزب التي تقاتل بالنيابة عن النظام في دمشق وريفها؛ وفتى مثل جهاد مغنية، أُريد له -بإشراف شخصي ومباشر من حسن نصر الله، والجنرال قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» الإيراني- أن يكون الخلاصة الرمزية لإعادة بناء أسطورة أبيه، عماد مغنية؟
المضحك، خلف كلّ عنصر مأساوي يمكن أن يكتنف هذه الواقعة، هو أنّ النظام السوري ذاته -زاعم «المقاومة» و«الممانعة»، ضحية «المؤامرة الصهيو ـ إمبريالية»، والحاكم رسمياً على الأرض التي شهدت الغارة الإسرائيلية- لم يكن غائباً كلياً عن الواقعة، فقط؛ بل لاح وكأنّ جميع الأطراف متفقة على أنّ غيابه أمر طبيعي، لا عجب فيه ولا غرابة. وبالفعل، لماذا تُستغرَب هذه الحال، إذا كان النظام قد انساق، في العلاقة مع طهران، إلى تبعية سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية، هي أقرب إلى تسليم المقدّرات كافة؛ كما عهد إلى «حزب الله»، من جانب آخر، بمسؤوليات عسكرية وأمنية يخطط لها، ويتخذ القرار فيها، الجنرال سليماني قبل أركان النظام، وربما دون الرجوع إليهم.
وفي انتظار احتمالات الردّ المضاد على الغارة، سواء من «حزب الله» أو من إيران أو على نحو مشترك بينهما؛ فإنّ ما خفي، وهو أعظم أغلب الظنّ، على نطاق الوجود الإيراني في سوريا، بات جزءاً من لعبة استراتيجية إسرائيلية ـ إيرانية، ذات بنية انفجارية عالية؛ لهيبها، مع ذلك، سوف يحرق الأرض في سوريا ولبنان، قبل إسرائيل وإيران.
(نقلا عن صحيفة القدس العربي)