يعيش المرء حفنة أيام، أو شهر رجب واحداً كما تقول الحكمة العتيقة، فيرى عجباً؛ وراهنوا أنّ غرائب شتى سوف تنتظره إذا تابع ما يكتبه صهاينة من كلّ فجّ ضحل أو عميق، حول
سوريا ما بعد فرار بشار
الأسد وانهيار ركائز نظام “الحركة التصحيحية”، صناعة الأب والوريث، واحدة تلو الأخرى.
وليس الأقلّ نُطقاً بالعجيب أن تقرأ كتابات أقرب إلى “حسافات”، كما قد يقول أشقاؤنا العراقيون، على رحيل طاغية وابن سفاح وسليل عائلة مجرمي حرب عتاة؛ بل لعلّ أصحاب السبق هم أولئك
الصهاينة الذين يتباكون على “تقصير” الديمقراطيات الغربية في حماية نظام ظلّ حارس احتلال الجولان الأمين طوال 50 سنة ونيف.
المفضّل في يقين هذه السطور، حتى الساعة على الأقلّ، صهيوني إسرائيلي يُدعى أرييل بئيري، يعرّف عن نفسه هكذا (نعم، صدّقوا!): “ستراتيجي وباني مؤسسات يكرّس نفسه لمستقبل أفضل لإسرائيل والشعب اليهودي. ويتفانى في حلّ المشاكل التي تواجه الإنسانية”؛ وهو الرئيس التنفيذي لخمس مجموعات عمل واستشارة، وصاحب مدوّنة تتخذ مفردة “المنارة” عنواناً لها. فما الذي يحزنه في رحيل آل الأسد، نظاماً ومافيات وعصابات وقتلة، أي بالجملة والمفرّق كما قد يصحّ القول؟
نقطة أولى هي أنّ العائلة الأسدية، وآخر رجالاتها بشار، كانت تسير حثيثاً نحو تحطيم “كذبة” صنعها الإنكليزي مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج ـ بيكو بموجب الاتفاقية الشهيرة التي خلقت كيانات زائفة مثل العراق وسوريا؛ وهضمت، استطراداً، حقوق أقليات من الكرد واليزيديين والسريان والآشوريين وسكان الأهوار والعلويين والدروز… وكما أخطأ الغرب في العراق قبل 20 سنة، فظنّ أنّ هذا البلد يحتمل إقامة نظام ديمقراطي يتساوى فيه الأفراد، أو أنّ مسمى “العراق” له أيّ معنى فعلي خارج التخيّل أساساً؛ فإنّ الغرب سوف يخطئ مجدداً حين ينتظر من مسمى “سوريا” أيّ حظّ مماثل.
الخبر السيء لأمثال بئيري هو أنّ السوريين، مثل العراقيين، متجذرون في أرضهم منذ قرون، لا عاقل يضعها في مقارنة مع عقود استيطان الصهاينة في فلسطين
تفريع هذه النقطة، وربما عمود ارتكازها، هو أنّ آل الأسد كانوا على وشك ردّ سوريا إلى مكوّناتها الفعلية بعيداً عن مجموع البلد الذي رسمته “كذبة” سايكس وبيكو، أي إلى دويلات لأقليات إثنية ودينية حرمها المشروع الاستعماري الغربي (نعم، صدّقوا هنا أيضاً!) من حقوقها في الاستقلال والسيادة. وفي مناطق سوريا الساحل والوسط والشمال وشرق الفرات والجنوب، كان ممكناً إقامة كيانات تتأسس على مزيج من الأمر الواقع والتقسيم غبر المعلَن؛ ولقد فات هذا الصهيوني، “الستراتيجي” حسب توصيفه لذاته، أن يقتبس مقولة الأسد الفارّ حول “سوريا المفيدة”، لأنها كانت ستضيف إلى رأيه مطمحاً تنفيذياً على الأرض، وعيّنة على مكوّن ديمغرافي وجغرافي ألحق به الاستعمارُ الغبن والإجحاف.
“حسافات”، إذن، بعد الحسابات على اختلاف أصنافها، الجيو ـ سياسية أو التاريخية أو الديمغرافية أو الثقافية أو الأخلاقية؛ لا تغيب عنها، مع ذلك، جرعة تفلسف ركيكة سطحية، تستهدف تبرئة الكيان الصهيوني من مسارات هذه المعادلة؛ غير المنفصلة عن إرث سايكس ــ بيكو، في أوّل المطاف كما في نهايته. فارق دولة الاحتلال، حسب تفلسف بئير، هي التالية (صدّقوا أيضاً، للمرّة الثالثة!): أنها “ولدت حين كانت الجالية اليهودية القاطنة في أرض الأسلاف قد حاربت الجيوش الغازية التي أرادت فرض رؤيتها عن الحدود الاستعمارية”؛ وحيث “شاءت جماعة بشرية الحفاظ على استقلالها داخل كيان سياسي يعكس تاريخها، وثقافتها، وتقاليدها”؛ بالنظر إلى أنها “التعبير الوحيد في المنطقة عن شعب قديم ولد من جديد بعد الغزو”.
الخبر السيئ لأمثال بئيري هو أنّ السوريين، مثل العراقيين، متجذرون في أرضهم منذ قرون، لا عاقل يضعها في مقارنة مع عقود استيطان الصهاينة في فلسطين، وبالتالي فإنّ سقوط نظام آل الأسد يتوجّب أن يستدعي الكثير من الحسابات الإسرائيلية؛ حتى حين لا يجبّ التباكي والحسرات، مع ذلك.