من نواحي مدينة حماه السورية، وجّه شاب مغربي تحيّته، عبر مقطع فيديو، يُعرب فيه عن فرحته بسقوط نظام بشار
الأسد، بالقول: "الله فتح علينا، وما النصر إلاّ من عند الله". مقطع جاب مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، وأعاد ملف "المغاربة العالقين في
سوريا" إلى الواجهة.
منذ اندلاع الحرب في سوريا قبل عقد من الزّمن، وجد مئات المغاربة أنفسهم غارقين في خضمّ مأساة توصف بكونها "مركّبة"، بين العيش بأرضٍ اشتعلت حربا تحت أقدامهم، وصعوبات أمنية بالجُملة، تحول بينهم وبين العودة إلى بلدهم.
رحلة العودة للمغرب أشبه بمعجزة بالنسبة إليهم، على الرغم من سقوط نظام بشار الأسد؛ وتعليق وزير الشؤون الخارجية والتعاون الأفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، ناصر بوريطة، الاثنين 9 كانون أول/ ديسمبر الجاري: "المملكة
المغربية تتابع عن كثب التطورات المتسارعة والمهمة التي تشهدها سوريا، وتأمل أن تسهم في تحقيق آمال الشعب السوري في الاستقرار والتنمية".
عدد المغاربة المسجونين أو المحتجزين لدى قوات سوريا الديمقراطية "قسد" يصل إلى 561 شخصا يتوزعون بين 135 رجلا، و103 نساء، و292 من الأطفال المرافقين لأمهاتهم، و31 طفلا يتيما. وفقا لعائلات المغاربة العالقين والمعتقلين في سوريا والعراق.
ترصد "عربي21" خلال هذا التقرير، كل من الصعوبات الأمنية والدّواعي الإنسانية التي يواجهها المغرب، لإعادة المغاربة العالقين في سوريا، عقب سقوط نظام الأسد.
هنا الرباط.. حيث رجاء العائلات
"هؤلاء مواطنون مغاربة، أبناء هذا الوطن العزيز، يعيشون ظروفا لا يتحمّلها بشر، بعد أن تمّ التغرير بهم" بهذه الجملة أعربت عائلات المغاربة العالقين والمعتقلين في سوريا والعراق، عن حزنها من الصعوبات الأمنية التي يواجهها المغاربة الراغبون في العودة من سوريا، عقب سقوط نظام بشار الأسد، قبل أيّام.
العائلات ذاتها، كشفت بعد ساعات من سقوط نظام الأسد، عن "خروج معتقلين مغاربة من سجون النظام السوري، بعد الإفراج عنهم من طرف قوات المعارضة لهيئة تحرير الشام".
فيما لا تملك معلومات إضافية عن مصير باقي المعتقلين المغاربة في المناطق السورية المتفرٍّقة.
وأوضحت العائلات، عبر بلاغ، وصل إلى "عربي21" نسخة منه: "نتوجّه بالنداء العاجل إلى الملك محمد السادس، وإلى كل المسؤولين في المغرب بأن ينظروا بعين الرّحمة إلى الوضع المأساوي الذي يعيشه المغاربة العالقون في سوريا، خاصة النساء والأطفال والمعتقلين".
على مدار سنوات مضت، لم تتراجع العائلات يوما عن رغبتها في إعادة أبنائها وأحفادها القابعين في سوريا، حيث ظلّت تُصدر البيانات، وتنزل في احتجاجات متعدّدة بقلب العاصمة المغربية، الرباط؛ فيما راسلت بالوقت نفسه، وزارات الخارجية والداخلية والعدل، إضافة إلى رئاسة الحكومة، موجّهة لهم نداء مستعجلا بغية إنقاذ أبنائها.
وقالت العائلات، عبر البلاغ نفسه: "إن صرخات هؤلاء المغاربة تصل إلى كل من لديه ضمير حي. نناشدكم أن تجعلوا هذا الملف أولوية قصوى، فإهمالهم أو تأجيل النظر في قضيتهم يعمّق معاناتهم، ويضعنا جميعا أمام مسؤولية أخلاقية ثقيلة".
"إنقاذ هؤلاء الأرواح لا يعكس فقط قيم الإنسانية التي يفخر بها بلدنا، بل يؤكد أيضا التزام المغرب بمسؤوليته تجاه كل مواطن ومواطنة، مهما كانت الظروف. نأمل أن تكون هذه المناشدة بداية لتحرك جاد ينهي معاناة هؤلاء المواطنين، ويعيد لهم حقهم في الحياة الكريمة تحت سماء وطنهم" وفقا للبلاغ نفسه.
كيف بدأ كل شيء؟
منذ بدء الأحداث قبل سنوات، توجّه عدد من المغاربة نحو سوريا، وبينما اختلفت أسبابهم، بين راغب في العمل، ومُنضمّ إلى جماعات مسلحة.، فإنهم فجأة، تشابهت معيشتهم، فوجدوا أنفسهم في ما يوصف بـ"الورطة"، بقلب أرض باتت مصيدة يصعبُ الفكاك منها، بحسب وصف عدد منهم، على مرّ السنوات.
مغاربة كُثر، استوعبوا عُمق المأساة، وتراجعوا عن قرارهم بالبقاء في سوريا، فأرادوا العودة إلى المغرب، لكن الصعوبات الأمنية حالت دون ذلك، على الرغم من تواصل بعض منهم مع الجهات الرسمية المغربية.. إلاّ أن الأمر كان "معقّدا ومتشابكا" حتّى للجهات الرسمية نفسها.
الصحافي المغربي المختص في قضايا الهجرة واللجوء، سعيد المرابط، اشتغل لسنوات على قصص لعدد من المغاربة المتواجدين بسوريا، يقول في حديثه لـ"عربي21": "السلطات المغربية تتعامل مع هذا الموضوع بنوع من الغموض".
وأوضح: "المغرب رفض الاعتراف بالعديد من الأطفال، والمقاربة المعتمدة في التعامل، هي مقاربة أمنية؛ تعتمد على التمييز بين عنصرين أساسيين، المقاتلين ونسائهم وأطفالهم".
"المشكل أنهم ليسوا نشطاء حقوقيين، بل مقاتلون وحملة سلاح، وهذا هو ما يجعل عودتهم ذات طابع أمني؛ أما النساء والأطفال، فإن عودتهم تحتاج إرادة سياسية حقيقية، لأنهم في النهاية، ضحايا لواقع لم يختاروه هم" بحسب المرابط.
أطفال بلا هوية..
أشار المختص في قضايا الهجرة واللجوء، في حديثه لـ"عربي21" إلى أن هناك حالة لسيّدة مغربية بتركيا، تنحدر من مدينة فاس، رفضت السلطات المغربية عودتها؛ وعقب أشهر، منحتها بطاقة هويّة، لكنها لم تمنح أطفالها، وهو ما حال دون عودتها بدونهم.
أيضا، قبل سنوات، ذاع صيت أسرة الزبير الحسناوي، وهي واحدة من أسر كثيرة قرّرت يوما السفر لسوريا، ففتحت أمامها أبواب معاناة انتهت بعُسر؛ حيث لم يكن قادرا على إعادة بناته الثلاث للمغرب، وظلّ جاهدا في الأمر، على مدار أربع سنوات.
أسرة الحسناوي، دقّت جميع الأبواب، إلى أن وجّهت الطفلات الثلاث، العالقات آنذاك في تركيا، رسالة إلى الملك المغربي محمد السادس، عبر مقطع فيديو قلن فيه: "أنت ملكنا وأبونا الكبير وكل ما نريده هو العودة إلى بلدنا؛ نحن محرومات من التعليم والتطبيب والحرية، وأمنيتنا العودة إلى المغرب".
وبعد أشهر، قرّرت السلطات المغربية السماح بعودته برفقة زوجته وبناته الثلاث؛ فيما قال الحسناوي في تصريحات صحافية: "ليس لديّ أي مشكل في المساءلة القانونية، لأنني أعي تماما ما قمت به، ولولا بناتي لكُنت عدت قبل زمن بعيد، لكي أبدأ حياتي من جديد".
ولأكثر من عشر سنوات، أمضى الحسناوي حياته بسوريا، قضى خلالها السجن، مع محاولات عدّة للهروب نحو تركيا، قبل أن يتمكّن من ذلك هو وزوجته وبناته. وفي تركيا، اكتشف من القنصلية المغربية، أن عودته هو وزوجته مسموح بها، ولكن دون بناته الثلاث، كونهنّ ولدن بين سوريا وتركيا، ولا يملكن أي وثائق ثُبوتية.
الحسناوي تخلّص من واقعه الصّعب، قبل سنوات، لكن اليوم، هناك آلاف الأطفال العالقين دون أوراق هوية، بلا وطن، ووطنهنّ الأم رافض لعودتهم، إثر صعوبات أمنية بالجُملة. ليشكّلوا الحلقة الأضعف في هذه المأساة الإنسانية الصّعبة، حيث بات هؤلاء الأطفال عالقين بين هويتين لا يملكون إثباتا لأيّ منهما.
بين القانون والإنسانية..
العلاقات الدبلوماسية بين الرباط ودمشق، قُطعت رسميا، بعد عام من بداية الثورة السورية، خلال تموز/ يوليو 2012، حين أعلمت وزارة الخارجية المغربية، السفير السوري بالمغرب آنذاك، نبيه إسماعيل، أنّه: "غير مرغوب فيه في الرباط". بالمقابل غادرت البعثة الدبلوماسية المغربية من العاصمة دمشق. بعد تبليغها ذلك، رسميا.
وخلال أيار/ مايو الماضي، كان المغرب قد رحّب بعودة سوريا إلى الجامعة العربية، معتبرا أن ذلك يجب أن يمثل شُحنة لإطلاق مسار سياسي يفضي لحل شامل ودائم للأزمة في هذا البلد؛ فيما قال وزير الشؤون الخارجية المغربية، آنذاك: "الخير لا يأتي بالفرقة والانقسام بل بالوحدة والتكامل".
كذلك، استحضر بوريطة، في كلمة له خلال الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب بالقاهرة، بشأن سوريا، الرّوابط التاريخية بين المغرب وسوريا، معبّرا عن أسفه لما طال هذا البلد العريق من محنة وعنف واضطراب طيلة الاثني عشرة سنة الماضية.
اليوم، برحيل نظام بشار الأسد المخلوع، الذي شكّل حجر عثرة لواقع جديد، عادت جُملة من الأسئلة للواجهة: ما مصير آلاف المغاربة الراغبين في العودة لوطنهم؟ وكيف يمكن أن يتعامل المغرب مع هذا الملف الجامع بين المسؤولية الإنسانية والتحديات الأمنية؛ خاصة في ظلّ قطيعة بين البلدين دامت لـ12 عاما؟
وفي تحليله للوضع الجاري، يقول الأستاذ الباحث في العلاقات الدولية، حسن بلوان: "إثر التغيرات الجذرية التي طالت النظام بسوريا، يمكن الحديث عن الملف، بتضافر شرطين أساسيين: الانتقال السلس والسريع لشأن الحكومة السورية الجديدة. وفتح المغرب قنوات الاتصال مع هذه الحكومة؛ التي لن تنسى وقوف المملكة مع الشعب السوري، وتحفظها الدائم على ممارسات نظام الأسد".
ويرى بلوان، في حديثه لـ"عربي21" أنّ "العالقين المغاربة في المخيمات بسوريا، لا بد أن يجدوا طريقهم إلى وطنهم الأم على المدى القريب والمتوسّط، بحكم التعقيدات الأمنية والسياسية والحقوقية التي ترافق هذا الملف، ذي الطبيعة الحسّاسة".
وتابع المحلل السياسي نفسه: "إذا ما تراكمت المجهودات السابقة والحالية، فلا بد من أن يتم طي هذا الملف، والمغرب مستعد لاحتضان المغاربة العالقين والمحتجزين، ومن المؤكد أن يستعدّ دبلوماسيا وقانونيا واجتماعيا لذلك".
لطي الملف.. مشوار عسير
تماشيا مع مقتضيات القانون الدولي الإنساني، ظلّت عشرات النّساء المحتجزات في مراكز الاعتقال بسوريا، وهنَّ في الغالب زوجات قادة ومقاتلين، خلال عام 2020، يطالبن بضمان عودتهنَّ للمغرب، خوفا من "بطش التنظيمات المتطرّفة".
آنذاك، أكّدت السّلطات المغربية تواجد "280 مغربية برفقة 391 طفلا في بؤر التوتر في الشّرق الأوسط"، مضيفة أن "هناك جهودا من المغرب للتدخل". فيما قالت تركيا إنّها تحتفظ بعدد من النساء المغربيات اللواتي فررن من ويلات الاحتجاز والأسر في سوريا.
ولأن الملفّ يوصف بـ"المعقّد والمُتشابك"، فقد قرّر البرلمان المغربي، خلال عام 2021 تشكيل "المهمة الاستطلاعية المؤقتة للوقوف على حقيقة ما يعانيه العديد من الأطفال والنساء والمواطنين المغاربة العالقين في بعض بؤر التوتر كسوريا والعراق".
المهمة البرلمانية التي يتداخل فيها ما هو إنساني بالجانب الأمني، أحاطت بما يمكن أن تشكله عودة "مقاتلين مغاربة" تدربوا على صناعة المتفجرات وحمل السلاح وتنفيذ عمليات إرهابية، من "خطورة".
وبحسب المهمّة نفسها، آنذاك، فإن "1659 جهاديا مغربيا غادروا المغرب للانضمام إلى حركات إرهابية مختلفة في المنطقة السورية العراقية، منهم 290 من النساء و628 من القاصرين، وعاد منهم 345 مقاتلا".
وأشارت المعطيات الأمنية المغربية، آنذاك، إلى أنه "ما زال في المنطقة ذاتها 250 مقاتلا معتقلا (232 في سوريا و12 في العراق و6 في تركيا) إلى جانب 138 امرأة، من بينهن 134 بالمخيمات التي تحرسها القوات الكردية، إضافة إلى حوالي 400 قاصر، من بينهم 153 فقط تأكد أنهم مزدادون بالمغرب".
وقال وزير العدل المغربي، عبد اللطيف وهبي، حينها: "بعض الأطفال كانوا يلعبون الكرة برؤوس البشر وحضروا عمليات إعدام وتدربوا على حمل السلاح"، فيما أقرّ بـ"صعوبة حل الملف دون تضافر جهود جميع القطاعات المعنية".
وتساءل رئيس المهمة الاستطلاعية، سليمان العمراني، عن ضمانات عدم عودة "المقاتلين" إلى "تبنّي الفكر المتطرف في حالة إعادتهم إلى البلاد ومحاكمتهم وفق القانون المغربي"، مشيرا إلى أنّ "المقاربة الأمنية تخشى من حالة العود، خصوصا أن بعض -الجهاديين- نسجوا علاقات دولية في مجال شراء السلاح"، فظلّ الملف على حاله.
وفي عام 2022 نسّقت وزارة العدل مع عدد من الجهات المعنية لـ"تسريع إيجاد حل لملف المغاربة العالقين في سوريا من أجل إعادتهم إلى المغرب، مع إعطاء الأولوية للنساء والأطفال".
إلى ذلك، تتشابك خيوط معاناة المغاربة العالقين في سوريا، بين ما هو أمني وسياسي وقانوني وأيضا إنساني؛ وفيما لا ينكر أحد "حساسية الملف"، يزداد وزن المعاناة يوما تلوى الآخر، خاصة على النساء والأطفال. لتحضر مقولة غسان كنفاني، بين ذاكرتهم: "الغريب هو أن يضيع الإنسان عن وطنه، ثم يضيع الوطن عنه".