في مثل هذا اليوم منذ أربعة أعوام وفي يوم الخميس، استشهد الدكتور عصام
العريان، أحد أبرز رموز
الإخوان المسلمين في
مصر، داخل محبسه إثر حديث دار بينه
وبين سجّانه حول حقوق المسجونين وخصوصا المرضى وقد كان واحدا منهم، فقام الضابط
بضربه ضربة قوية أفضت إلى موته، وهو أعزل لا يملك الدفاع عن نفسه.
هذه قصة من بين مئات إن لم يكن آلاف القصص التي تروى وستروى من داخل
سجون
مصر بعد انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013، وهذا نزر يسير أو فصل من فصول كتاب
العشرية السوداء التي لم ينته التاريخ من كتابتها كاملة بعد.
لم يكن الدكتور
عصام العريان شخصية عابرة في تاريخ الحركة الإسلامية، بل
كان شخصية قيادية ملهمة، تحب أن تجلس معه وتستمع إليه وتستمع بحديثه، وتستأنس بآرائه
وترتاح إلى أفكاره غير النمطية ولكنها مؤطرة بإطار الشرع والدين، وكان أكثر ما
جذبني إليه كما جذب الآخرين هو انفتاحه على كافة التيارات السياسية الأخرى، وقدرته
على إدارة الحوار بطلاقة ورشاقة وثقة عجيبة؛ مبعثها الإيمان بالله وقدرته على
التحصيل العلمي والمعرفي الدائم وبشغف منقطع النظير.
لم يكن الدكتور عصام العريان شخصية عابرة في تاريخ الحركة الإسلامية، بل كان شخصية قيادية ملهمة، تحب أن تجلس معه وتستمع إليه وتستمع بحديثه، وتستأنس بآرائه وترتاح إلى أفكاره غير النمطية ولكنها مؤطرة بإطار الشرع والدين، وكان أكثر ما جذبني إليه كما جذب الآخرين هو انفتاحه على كافة التيارات السياسية الأخرى
كنت أتابع لقاءاته على إذاعة بي بي سي وأنا منبهر بقدرته على الاسترسال
والاستفاضة واستحضار المعلومات وعمل المقارنات بسلاسة وأدب واحترام، رغم قسوة
الأسئلة أحيانا ورغم كثرة أغلاط الضيوف المشاركين وهجومهم على الدعوة والحركة
وعليه شخصيا.
كنت دائم التواصل معه وأنا خارج مصر، وفي كل زيارة كنت حريصا على لقائه
وزيارته في مكتبه بنقابة الأطباء في القصر العيني، وهي النقابة التي أحياها هو
وإخوانه في الإخوان المسلمين ومعهم ثلة من الأطباء الذين حبسوا أنفسهم لخدمة
المهنة والزملاء، وفي كل مرة كان يفاجئني بالجديد من الأفكار والآراء ويبهرني وأنا
أجلس في مكتبه أتابع سيلا من الزوار، وكلما هممت بالاستئذان كان يقول يا أخ حمزة
اجلس عشان نكمل كلامنا، وأمتثل لطلبه رغم مشاغله.
في عام 1992 كنت أحد أفراد الطاقم الطبي الأول لجامعة الدول العربية إلى
الصومال، وهو الطاقم الذي شكلته نقابة الأطباء واتحاد الأطباء العرب تحت قيادة
الدكتور الكبير عبد المنعم أبو الفتوح -فرّج الله كربه وإخوانه- وعند العودة تلقيت
اتصالا منه قال لي فيه: اسمع أنا رتبت لك مقابلة مع بي بي سي من أجل أن تعرض
مشاهداتك أنت وزملاءك عن الوضع الصحي المنهار في الصومال. وفي تمام الساعة السابعة
مساء جاءني الاتصال وأجريت المقابلة، وكنت أستغرب من المذيع الذي كان يصر على
الحديث عن السياسية والقتال أكثر من الوضع الإنساني، وأنا أرغب في التحدث عن فرق
الإغاثة الغربية والأمريكية المصحوبة بمجموعات المبشرين المسيحيين القادمين من
قارة أمريكا لكي ينشروا المسيحية في بلد ليس فيه مسيحي واحد.
وانتهت المقابلة وتواصلت مع الدكتور العريان، ولما أدرك خطورة الموقف اقترح
عمل مؤتمر صحفي في النقابة، وكنت أحد المتحدثين وتناولت الوضع الصحي ودور الكنيسة
الغربية في إرسال وفود من المبشرين تحت غطاء العمل الطبي الإغاثي، وضعف الدور
العربي والإسلامي إغاثيا.
بعد الثورة التقيت به تكرارا ومرارا، وعندما حدثت أزمة الدكتور عبد المنعم أبو
الفتوح -فرّج الله كربه وإخوانه- مع مكتب الإرشاد كنت حريصا على أن أسأله وأعرف
منه حقيقة الأمور، ولماذا خرج الدكتور أبو الفتوح من مكتب الإرشاد، وقد أثير في
ذلك الوقت لغط كثير أثاره بعض أصحاب النفوس الضعيفة حتى داخل المجتمع الإخواني.
واستحلفته بالله ثلاثا أن يقول لي قولا فصلا في الموضوع وخصوصا ما أشيع عن أن
الدكتور أبو الفتوح له صلات بجهات هنا أو هناك أو أنه خرج على رأي الجماعة. وكان
ذلك أثناء زيارة له لدولة الكويت والتقيته هناك وقال لي:
كان واعيا منتبها لما يدور على الساحتين العربية والعالمية، ويدرك الخطوط الفاصلة وخطوط التماس بين القضايا الرئيسية ويجيد فك الارتباط والاشتباك، كما كانت لديه طريقة في توضيح وبيان الأولويات وأهمية ترتيب الملفات حتى لا تختلط علينا الأمور خصوصا الاستراتيجية والتكتيكية
الدكتور عبد المنعم أخ
صالح وفاضل من خيار الناس ومن خيار قادة الجماعة، وما حدث هو اختلاف وجهات النظر
في بعض أمور العمل العام، وهو صاحب رأي ولعله اختلف مع رأي البعض في مكتب الإرشاء
فآثر الخروج وانتهت القصة. لم أسمع أرقى ولا أجمل من الوصف الذي قاله الدكتور عصام
في هذا الأمر، رغم أنه تم تداول معلومات كثيرة معظمها كان مغلوطا.
مزج الشهيد الدكتور عصام العريان بين الطب والسياسة وبين السياسة والعلوم
الشرعية، وكان حافظا لكتاب الله تعالة مستشهدا بآيات القرآن في جل أحاديثه، وكان
عليه رحمة الله يتمتع بذاكرة حديدية يغبطه عليها المقربون ويحسده عليها المبعدون،
وكان واعيا منتبها لما يدور على الساحتين العربية والعالمية، ويدرك الخطوط الفاصلة
وخطوط التماس بين القضايا الرئيسية ويجيد فك الارتباط والاشتباك، كما كانت لديه
طريقة في توضيح وبيان الأولويات وأهمية ترتيب الملفات حتى لا تختلط علينا الأمور
خصوصا الاستراتيجية والتكتيكية.
ولأنه كان ملء السمع والبصر بسبب تواجده المنتشر في وسائل الإعلام المرئية
والمسموعة والمكتوبة فقد كان ملهما لكثير من أبناء الحركة الإسلامية، ليس داخل
الإخوان بل خارجهم، لا بل وخارج نطاق الحركة نفسها، إذ كان مثار إعجاب كثير من
التيارات السياسية الأخرى، وكان شريكا حاضرا في كل الفعاليات السياسية التي جرت في
عصر المخلوع مبارك وما بعد اندلاع ثورة 25 يناير 2011.
كان يرغب في إنضاج التجربة السياسية داخل التيار الإسلامي وخصوصا الإخوان،
وكان يرى أن الوقت قد حان لتعزيز وتعظيم أسس الشورى داخل المؤسسة، وأذكر أنني
التقيته بعد وفاة المستشار الهضيبي وقلت له في مكتبه: لماذا لا يقيم الإخوان
مؤتمرا صحافيا ضخما يعلنون فيه نتيجة الانتخابات التي أسفرت وقتها عن اختيار
الأستاذ محمد مهدي عاكف؛ الذي كان هو الآخر نموذجا للانفتاح والرغبة في الالتحام
بالرأي العام وقادة الفكر على تنوع مراجعهم؟ فقام وأغلق باب مكتبه وكأنه سيسر إلي
بسر عظيم لا يريد أن يطلع عليه أحد، وقال له بصوت خفيض: ما زال أمامنا شوط لنقطعه
يا أخ حمزة (وأنا هنا أنقل ما قاله بتصرف لا يخل بالمعنى).
تفتقد مصر اليوم رجالا سياسيين ودعاة ومصلحين بقامة الدكتور العريان، وبقيمة الدكتور أبو الفتوح، وبشجاعة الأستاذ عصام سلطان، وفقه الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، وغيرهم كثر من أبناء التيار الإسلامي
تتميز جماعة الإخوان عن غيرها باتساع مساحة التنوع داخلها، وهو ما يعطيها
زخما غير مألوفا في غيرها من التجمعات والمؤسسات التي بنيت على أساس عقدي أو ديني،
كما أن قاعدة بناء الفرد فيها هي قاعدة صلبة ومتينة فقهيا وأخلاقيا، وهذا ما أسميه بالمنسوب الموحد للتربية عند الإخوان المسلمين، فالكل يناله قسط
متساو من التربية في المراحل الأولى لارتباطه بالجماعه ثم تبدأ عملية النمو الرأسي
لكل شخص على حدة، فمنهم من يتعب على نفسه ولا يكتفي بالحصيلة الجماعية التي نالها
في بداية ارتباطه بالجماعة وهنا يتحول مثل هؤلاء إلى عالم المصلحين الاجتماعيين
والدعاة الموثوق بهم والساسة النابغين، ومنهم من يتوقف عن الحد الأدنى، وهو كاف
لكي تكوت صالحا في نفسك ولكنه غير كاف للانخراط في العمل العام وخصوصا المجال
السياسي وتحديدا الإصلاح والتغيير.
رحل الشهيد العريان وباتت ذكرى استشهاده مرتبطة بذكرى مجزرة رابعة العدوية
التي تحل في يوم الرابع عشر من آب/ أغسطس من كل عام، وهي مجزرة لن يمحوها شيء سوى
محاكمة كل من تسبب فيها بالفعل أو بالقول، بالمال أو بالإعلام، من الداخل أو من
الخارج، هي مجزرة القرن وكل القرون التي تآمرت فيها دول النفط والغاز والكيان
الصهيوني وحفنة من العساكر الذين باعوا ضمائرها بدراهم معدودات ولن يغني عنهم كل
ذلك من الله شيئا.
تفتقد مصر اليوم رجالا سياسيين ودعاة ومصلحين بقامة الدكتور العريان،
وبقيمة الدكتور أبو الفتوح، وبشجاعة الأستاذ عصام سلطان، وفقه الشيخ حازم صلاح أبو
إسماعيل، وغيرهم كثر من أبناء التيار الإسلامي والحركة الإسلامية التي خسرت مصر
وبلا شك بسبب حصارها ومطاردتها خلال العشرية السوداء.