في لحظة تاريخية مهمة تمكنت قوات المعارضة السورية المسلحة من الدخول إلى حلب وسيطرت
على معظمها، ثم توجهت صوب حماة التي تبعد عن العاصمة دمشق قرابة 200 كيلومتر. حتى
هذه اللحظة سارت الأمور على ما يرام ولم تواجه القوات المسلحة المعارضة مواجهة يعتد
بها في مسيرتها العسكرية، وبات كثيرون يشعرون أن سقوط النظام مسألة وقت. بيد أنه
وفي اليوم الرابع بدأنا نسمع عن تحذيرات وتهديدات ومطالبات بالتدخل؛ ليس لإنقاذ
سوريا من التفتت والتفكك بل لإنقاذ نظام بشار
الأسد.
بالنسبة للدول المتواجدة على أرض سوريا بقوة السلاح والرجال سوف نجد روسيا
ومعها
إيران وقوات حزب الله والمليشيات الشيعية العابرة من الحدود عن طريق لبنان
والعراق، وبالطبع سوف نجد تركيا التي نجحت في فرض شريط حدودي آمن داخل الأراضي
السورية كما نجحت في تمكين القوات المسلحة المعارضة من حكم إدلب والسيطرة عليها في
اتفاق خفض التصعيد الذي وُقع في أستانة 2019.
ترى دول "الثالوث العربي" (السعودية والإمارات ومصر) حتمية بقاء بشار في الحكم وأهمية وقف قطار الثورة المسلحة في سوريا، لما في ذلك من خطورة على النظم فيها من ناحية، ومن ناحية أخرى لخوفها من وجود دولة إسلامية مسلحة في منطقة الجوار.
إذن إيران وروسيا والثالوث العربي وقد تتبعهم بعض الدول العربية؛ ترى الأمر من زاوية الحفاظ على بشار وإن هلك الشعب
بالنسبة للدول المؤثرة على المشهد الداخلي السوري من خارج سوريا فهي بالطبع السعودية والإمارات اللتان ترغبان في
تقوية عضد بشار الأسد وعدم إسقاطه؛ لما يمثله ذلك من تمكين لقوة الشعب السوري
المسلحة من حكم سوريا أو على الأقل أن تكون لها كلمة في مستقبل الحكم في سوريا
وهذا ما لا تقبله كلتا الدولتين ومعهما مصر؛ لما لذلك من تأثير سلبي على النظام في
مصر، والذي يخشى من تكرار ما حدث في 25 يناير 2011، ويخشى أيضا من فكرة تعلم
الشعوب من بعضها كيف تحوّل ثورتها من ثورة سلمية إلى أخرى مسلحة كما جرى ويجري في
سوريا حاليا. ترى دول "الثالوث العربي" (السعودية والإمارات ومصر) حتمية
بقاء بشار في الحكم وأهمية وقف قطار
الثورة المسلحة في سوريا، لما في ذلك من خطورة
على النظم فيها من ناحية، ومن ناحية أخرى لخوفها من وجود دولة إسلامية مسلحة في
منطقة الجوار.
إذن إيران وروسيا والثالوث العربي وقد تتبعهم بعض الدول العربية؛ ترى الأمر
من زاوية الحفاظ على بشار وإن هلك الشعب وقُتل نصفه وشُرد بقيته، رغم أن بشار قد مُنح
فرصا عديدة لكي يكون حاكما مستقيما؛ لكن هيهات لأنه لا يختلف كثيرا عن البقية
الذين فشلوا في تقديم نموذج واحد للحكم الرشيد، والذين فشلوا أيضا في الحفاظ على
وحدة التراب الوطني لبلدانهم.
الكيان الصهيوني يرى فيما يجري فرصة جديدة لتفكيك دول الجوار وفرصة لضرب
القوات الإيرانية وحزب الله في سوريا، في محاولة يائسة منه لإخراج إيران والقوات
الشيعية من سوريا لأنها تشكل مددا لحزب الله في حربه دفاعا عن لبنان، وبالتالي ترى
دولة الكيان أن سقوط بشار الأسد ليس في صالحها، وبالتالي تنضم لا إراديا لفكرة
التحالف مع كل من (الثالوث العربي) وروسيا وإيران في الحفاظ على بشار وعدم تمكين
الثورة السورية من النصر والحكم في سوريا.
وهكذا نرى ولأول مرة في الصراع في المنطقة أن إيران والكيان الصهيوني
والثالوث العربي وروسيا في خندق واحد من أجل الحفاظ على بشار الأسد كورقة مهمة للحفاظ
على دولة الكيان، لأنه وبخبرة السنوات الماضية لم يطلق رصاصة ضد الاحتلال الصهيوني
في الجولان، ولم يشارك سوى بالخطب الرنانة دعما للمقاومة في فلسطين، والتزم الصمت
لعام مضى وترك رجاله في الإعلام يتحدثون عن الجيش العربي السوري الذي يتحرك من أجل
دعم وإسناد المقاومة على الأقل كما فعل حزب الله.
بالنظر إلى القوات المسلحة المعارضة، نجد أن الجيش السوري الحر هو أقدم
مجموعة عسكرية تأسست بغرض أن تكون الجناح العسكري للمقاومة السياسية في 2011، ولكنه
لم يرق إلى أن يكون جيشا حقيقيا حتى عام 2016 وبعد أن تدخلت تركيا لحماية حدودها
مع سوريا، ومنذ ذلك الحين تمت إعادة تشكيله (يصل قوامه إلى 30 ألف مقاتل) ودعمه من
قبل الدولة التركية.
وهناك هيئة تحرير الشام، وهي قوات تنتمي إلى السلفية الجهادية وقد ظهرت في
2017 نتيجة تحالف واندماج جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقا والتي كان يقودها أبو
محمد الجولاني) وجيش السنة ولواء الحق وحركة نور الدين زنكي. وهذه الهيئة مصنفة
كجماعة إرهابية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية مما يرجح أن "دول الثالوث"
ومعها إيران ومعها دولة الكيان سوف تصطف ضدها عسكريا إن أمكن وسياسيا طول الوقت.
وهناك وحدات حماية الشعب الكردية التي تشكل العمود
الفقري لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وهي مدعومة من أمريكا، وتعارض التواجد
التركي، وهي أيضا غير منسجمة مع هيئة تحرير الشام أو الجيش الحر، ويدور الحديث
حاليا حول الرغبة في عدم الاقتتال مجددا أثناء العمليات الحالية.
لتركيا كلمة مسموعة سياسيا وعسكريا، وبالتالي فهي قادرة على توجيه البوصلة من دون أن تصطدم بـ"الثالوث العربي" ولا بالكيان الصهيوني أو حتى إيران وروسيا
أما إيران فتتواجد وبقوة في سوريا بمجموعة من المستشارين العسكريين من
المستوى العسكري الرفيع، إضافة إلى قوات حزب الله وقوات شيعية شعبية، وكلها مؤيدة
لبشار الأسد. وقد دخلت القوات الشيعية وفي طليعتها حزب الله إلى سوريا في 2012
وخاضت معارك ضد قوات المعارضة السورية. وتعتبر قوات حزب الله منظمة إرهابية في دول
مجلس التعاون الخليجي.
أما روسيا فلديها قاعدة عسكرية في حميميم، وقد تدخلت من قبل بغارات جوية
وقتلت الألوف من الشعب السوري والقوات المقاتلة ضد النظام في سوريا، وانتهى الأمر
باتفاق خفض التصعيد في أستانة عام 2019.
أما تركيا فترى التواجد في سوريا هو خط دفاع متقدم للأراضي التركية ووقف
العمليات الإرهابية التي كانت تحدث وباستمرار داخل أراضيها، كما ترغب أيضا في حل
معضلة اللاجئين بإعادتهم إلى الأراضي السورية المحررة، مما قد يساهم في تخفيف
العبء عن اقتصادها الذي يعاني التضخم منذ سنوات ويهدد فرص بقاء الرئيس أردوغان
وحزبه في السلطة.
وأعتقد أن لتركيا كلمة مسموعة سياسيا وعسكريا، وبالتالي فهي قادرة على
توجيه البوصلة من دون أن تصطدم بـ"الثالوث العربي" ولا بالكيان الصهيوني
أو حتى إيران وروسيا.
هذه القوات المتعددة المنتشرة فوق التراب السوري اتفقت على شيء واحد وعكسه،
وهو إما إسقاط بشار أو تثبيته في كرسي الحكم، ولأول مرة تنضم دول الثالوث العربي
إلى كل من إيران ودولة الكيان في الدفاع عن نظام بشار الأسد، وهي مفارقة عجيبة، إذ
أنه من مصلحة السعودية هزيمة إيران وحزب الله في سوريا بصفتهما أعداء للدولة
السعودية (السنية)، كما أن دولة الكيان تزعم أنها تحارب الوجود الإيراني في سوريا
لأنه يمثل خطرا عليها، ورغم ذلك اتفق هؤلاء على شيء واحد هو حماية بشار والتضحية
بالشعب السوري.
الموقف مشتبك ومعقد والمعارك العسكرية قد لا تحسم الأمور في سوريا وحدها، ولكنها ستدفع نظام بشار إلى التفاوض عبر ممثليه (روسيا وإيران ) في مؤتمر أستانة القادم في الدوحة بعد أيام، وأعتقد أن التفاوض سيكون صعبا في ظل تقدم القوات العسكرية المعارضة وضعف الدعم العسكري الروسي والإيراني حاليا، وهي فرصة للخروج من الحكم وترك الشعب السوري ليقرر بعيدا عن التدخلات الخارجية
ثمة نقطة جديرة بالنقاش، وهي أن البعض اعتبر تحرك المعارضة السورية في هذا
التوقيت إسنادا لجهود دولة الكيان في حربها على إيران وحزب الله خصوصا من جهة
التوقيت، حيث بدأت العمليات العسكرية بعد وقف إطلاق النار في جنوب لبنان، وهو أمر
لافت للنظر، وذلك لأن الثوار المقاتلين في سوريا كانوا ينتظرون اللحظة المؤاتية
للقيام بعملياتهم الموجهة ضد النظام وضد الوجود الروسي المنهك بفعل الحرب في
أوكرانيا.
ولا ينكر أحد أن الوجود الإيراني وحزب الله تأثرا كثيرا بالحرب الصهيونية
على جنوب لبنان طوال الفترة السابقة، ولكن لا أتصور وجود علاقة ما مهما كانت بين
القوات المقاتلة والكيان الصهيوني، كما أتصور أن الحكمة تقتصي ابتعاد حزب الله عن
التصادم مع القوات المسلحة السورية المعارضة حتى لا يفقد التأييد العربي والإسلامي
له في حربه ضد الكيان الصهيوني.
الموقف مشتبك ومعقد والمعارك العسكرية قد لا تحسم الأمور في سوريا وحدها،
ولكنها ستدفع نظام بشار إلى التفاوض عبر ممثليه (روسيا وإيران ) في مؤتمر أستانة
القادم في الدوحة بعد أيام، وأعتقد أن التفاوض سيكون صعبا في ظل تقدم القوات
العسكرية المعارضة وضعف الدعم العسكري الروسي والإيراني حاليا، وهي فرصة للخروج من
الحكم وترك الشعب السوري ليقرر بعيدا عن التدخلات الخارجية.
الوضع في سوريا هو نموذج للدولة الفاشلة التي يصر قادتها على البقاء مع
زيادة نسب انزلاقها نحو الهاوية، ولكن المستبد لا يرى إلا نفسه وإن ضاعت الأوطان.