تبدل الموقف المصري بشكل دراماتيكي، من النقد الحاد والتحذير الشديد إلى المهادنة وترطيب الأجواء، خلال اليومين الماضيين، من مجازر
الاحتلال على الحدود الشرقية لمصر في أرض رفح الفلسطينية وفي أرض سيناء.
وبينما أعلنت القاهرة صباح الاثنين رفضها الشديد لجريمة الاحتلال بقصف خيام المهجرين الفلسطينيين في رفح وقتل عشرات الأبرياء مساء الأحد الماضي، جاءت حادثة قتل الجيش الإسرائيلي لمجند مصري قرب
معبر رفح البري، ليتبدل الموقف المصري ويصبح أكثر ليونة وحرصا على تفادي آثار الحادث.
وقامت الدولة المصرية الرسمية ممثلة في بيان الجيش بالتقليل من الحادث وتبعاته، بل إن رئيس النظام المصري عبدالفتاح السيسي بدا غير مكترث للدماء المصرية التي سقطت غدرا على الحدود، وقرر السفر إلى الصين مدة 5 أيام.
كما أن مسؤولا مصريا لم يُذكر اسمه حاول التهوين من الجريمة، بقوله
لصحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية، إن تبادل
إطلاق النار في رفح كان حادثا بسيطا وليس له أهمية سياسية.
وذلك على الرغم من وصف الإعلام العبري الحادثة بأنها "غير عادية"، وقول "القناة 12" العبرية إنه "حادث استثنائي جدا بين الجيشين".
وكان رد الفعل المصري المتأخر كثيرا والباهت، وفق مراقبين، قد أعلن عن إجراء تحقيق دون ذكر تفاصيل، إذ قال المُتحدث العسكري باسم القوات المسلحة المصرية، العقيد غريب عبدالحافظ، إن القوات المسلحة المصرية تجري تحقيقا بواسطة الجهات المختصة حيال حادث إطلاق النيران بمنطقة الشريط الحدودي برفح؛ ما أدى إلى استشهاد أحد العناصر المكلفة بالتأمين.
وكان أشد ما صدر عن القاهرة من رد فعل على لسان مصدر مصري مجهول رفيع المستوى لفضائية "القاهرة" الإخبارية، وحذر فيه من المساس بأمن وسلامة عناصر التأمين المصرية، المنتشرة على الحدود.
وفيما يبدو، وفق مراقبين، أنه تفريط من الدولة والجيش المصري في حق المجند المصري الشهيد، قالت صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، إن الجانب الإسرائيلي اتصل بالمصريين فور الحادثة، واتفق الطرفان على حل الموضوع دون ضجة، وبعيدا عن الأضواء.
https://arabi21.com/story/1600779/يديعوت-اتفقنا-مع-المصريين-على-حل-قضية-الجندي-بهدوء
ونقلت الصحيفة عن مصدر مصري، لم تسمه، قوله إن الجانبين قررا ترك القضية "تموت بهدوء".
وبدلا من الهجوم على الاحتلال، تابعت الأذرع السياسية والإعلامية التابعة لنظام السيسي الهجوم على المعارضة المصرية والإعلام الذي يبث من الخارج.
ومع مرور يومين على الحادث، إلا أن الإعلام المصري لم يقدم أي رواية حوله سوى حديث مقتضب من المتحدث العسكري، وفي المقابل يواصل الإعلام العربي تقديم رواياته عن الواقعة.
وقالت صحيفة "
معاريف" العبرية ،الثلاثاء، إن الجندي المصري أطلق نيرانه على قوة عسكرية إسرائيلية، وأصاب جنودا من (اللواء 401 مدرع)، وردت عليه بإطلاق النار ومقتله.
ووسط حالة من الغضب الشعبي وغياب جميع وسائل الإعلام المصرية وحضور وسائل الإعلام العربية والأجنبية، شيّع الثلاثاء أهالي قرية العجميين بمركز أبشواى بمحافظة الفيوم في صعيد مصر جثمان الجندي عبدالله رمضان محمد قطب، الذي سقط شهيدا الاثنين، قرب معبر رفح على حدود قطاع غزة، برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلية، فيما قيل إنه حادث اشتباك بين عناصر من
الجيشين المصري والإسرائيلي.
وتساءل البعض عن أسباب عدم إقامة جنازة عسكرية أو رسمية للجندي المصري، رغم أنه كان يدافع عن تراب الوطن.
وأشارت صفحات بمواقع التواصل الاجتماعي إلى استشهاد الجندي إسلام إبراهيم عبد الرازق، متأثراً بإصابته برصاص جيش الاحتلال قرب الحدود المصرية الفلسطينية، أمس الاثنين.
وتحدث خبراء ومراقبون لـ"عربي21"، كاشفين رؤيتهم حول ظهور دولة السيسي بصورة المهادن اللطيف مع إسرائيل رغم تواصل الاعتداءات وجرائم قتل الجنود المصريين، ومواصلة الجيش المصري التغطية والتهوين وتمرير جرائم إسرائيل بحق جنوده ومنشآته منذ طوفان الأقصى، وأيضا دلالات مغادرة السيسي إلى الصين دون أي حديث عن الجريمة.
"معادلة الأطراف الأربعة"
السياسي المصري الدكتور عمرو عادل، قال إن "المعادلة بين الأطراف الأربعة: وهم النظام المصري، والكيان الصهيوني، والشعب المصري، والمقاومة الفلسطينية، لها عدة ثوابت، ربما لو سردناها نجد الإجابة مباشرة".
وأكد رئيس المكتب السياسي للمجلس الثوري المصري في حديثه لـ"عربي21"، أن "النظام المصري (المؤسسة العسكرية)، والكيان الصهيوني، في تحالف استراتيجي منذ العام 2013، حيث تلاقت مصلحتهما على حصار الشعب المصري".
وأوضح أن "الكيان الصهيوني يدعم النظام المصري في الخارج، والمؤسسة العسكرية تقمع الشعب المصري وتحمي الصهاينة منه".
ضابط الجيش المصري السابق، أضاف: "وبين النظام العسكري والشعب المصري معادلة واضحة، تقول: (اترك السلطة المطلقة لي وسأتركك تعيش، ولا تسألني عن مستوي المعيشة، يكفي أنني أكف عنك أذاي)".
ويعتقد أن "كثيرا من أفراد الشعب المصري استسلموا لهذه القاعدة خوفا من البطش".
وأشار عادل، إلى أن "العلاقة بين الشعب المصري والكيان الصهيوني هي علاقة كره جيني عند الشعب المصري لهذا الكيان، وصعب جدا تغييرها مهما كان مستوى ارتباط النظام بالصهاينة".
وخلص من عرضه بالقول: "ويبقى الصوت المختلف من الشعب، وهي المعارضة بالخارج التي تستطيع الحديث حتى الآن بحرية وكشف الحقائق".
وأوضح أنه "لذلك يهاجمها النظام بشراسة، لأن كراهية الشعب للصهاينة مع ما يحدث من جرائم هائلة في غزة التي هي بوابة مصر، مع صوت المعارضة العالي ينتج حالة قد تخرج عن السيطرة، لذلك يهاجمها النظام بعنف".
أما لماذا لا يهتم النظام بحادثة الأمس، فيعتقد السياسي المصري، أنه أمر "منطقي تماما"، موضحا أن "هناك تحالفا قويا مع الصهاينة، وعداء شديدا من النظام لفكرة المقاومة، وعدم اكتراث بالشعب المصري الذي يعتبره عبئا عليه، ويود أن ينهي نصفه أو يزيد؛ لذلك فما يحدث متوافق مع الواقع الذي نعيشه منذ أكثر من عقد".
وختم مؤكدا أنه "لا قيمة لأحد أمام بقاء التحالف التام بين النظام المصري والصهيوني، ولن يكون هناك قيمة لأحد إلا إذا قرر الشعب المصري أنه لن يقبل بعد ذلك بالقاعدة التي يفرضها النظام المصري عليه".
"أقرب لحظة للحرب مع الاحتلال"
من جانبه، قال الباحث بالشأن العسكري في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، محمود جمال، إن "المتابع لتعامل نظام السيسي مع الأحداث من أول يوم لحرب طوفان الأقصى، يرى بوضوح حرص نظام السيسي على السلام مع الكيان الصهيوني، والحفاظ على معاهدة كامب ديفيد، مهما جرى من تجاوزات من قبل الصهاينة".
وأضاف لـ"عربي21": "وقد صرح بهذا وزير خارجية السيسي، وأكد أن معاهدة كامب ديفيد هي خيار استراتيجي بالنسبة لمصر".
ويرى جمال، أن "هذا يفسر تجاوز مصر لأمور وتجاوزات عديدة قامت بها قوات الاحتلال منذ تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، كقصف معبر رفح عدة مرات، والسيطرة على محور فيلادلفيا والذي يعتبر جزءا من المنطقة (د) طبقًا لاتفاقية السلام، وكذلك سيطرة العدو الصهيوني على معبر رفح، في اختراق صريح لمعاهدة كامب ديفيد".
وأكد الباحث المصري، أن "الجيش المصري في الأخير يتبع القرار السياسي الذي يحرص على عدم التصعيد مع الكيان الصهيوني".
وقال إنه "في نهاية الأمر، فالتقديرات السياسية الخاطئة هي من أوصلت الأوضاع إلى اللحظة الراهنة"، مشيرا إلى أن "السادات في حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، وبسبب تقديراته السياسية الخاطئة، حدثت الثغرة".
وألمح إلى أنه "وبالتقديرات السياسية الخاطئة لنظام السيسي، وعدم التحرك الجاد منذ شهور، جعلت العدو يسيطر على محور فيلادلفيا، وأصبح متواجدا عند معبر رفح، وعلى بعد أمتار من الجنود المصريين".
ويعتقد جمال، أنه "من بعد اتفاقية السلام (المزعومة) التي وقعتها مصر مع الكيان الصهيوني عام 1979، فالتطورات الحالية وبعد استشهاد الجندي المصري عند معبر رفح في أثناء اشتباك قوات من الجيش المصري مع قوات الاحتلال الصهيوني فهذا قد يشير إلى أننا أمام أقرب لحظة قربت فيها مصر من الحرب ضد العدو الصهيوني، ولكن القرار السياسي لمصر عليه العامل الأكبر".
"نار من الداخل"
وقال الخبير العسكري وضابط الجيش المصري السابق، العميد عادل الشريف: "أرى أن الجانب المصري من بدأ بإطلاق النار، وواضح من ذكر البيان العسكري كلمة عنصر التأمين، والتي تكون على الحدود عبر نقطة يقف فيها جندي أو اثنان على الأكثر".
وفي حديثه لـ"عربي21"، يعتقد أن "هذه عملية بها ضابط وجنود كانوا مع آخرين، لأن الكلام المعلن حول إطلاق نار حدث ووقوع إصابات وليس الشهيد فقط".
ويرجح الشريف أن يكون "قد هيجتهم مسألة حرق خيام المهجرين الفلسطينيين في رفح من قبل الجيش الصهيوني، فأطلقوا النار، أرى ذلك، وأرى أن مسألة إطلاق النار عليهم التي أصابتهم هذه أتت من الداخل، وليس من الخارج، من داخل مصر".
وتوقع أن "يكون قائد الكتيبة قد عرف أن هناك حالة هياج ووجد الجنود خارج السيطرة ولم ينفذوا أوامره بالصمت والكف، فأطلق عليهم النار، هذا ما أرجحهـ إطلاق النار بأيد مصرية، وهذا لن يقال إلا بعد فترة من التحقيقات الداكنة، ولن يقال الآن".
وحول ظهور دولة السيسي بصورة المهادن اللطيف مع إسرائيل وسفره إلى الصين برغم الأزمة، قال الخبير العسكري، إن "السيسي، غاضب من أنه ما زال هناك أنفس بالجيش المصري لديها ذات الحمية والوطنية والمشاعر التي تفيض بالكره للكيان المحتل والعاطفة ناحية الجيران الفلسطينيين الكرام".
ويرى أنه "لذلك لم يعلق على الحادثة، وهو محبط، وكان يأمل ألا يحدث هذا في جيشه، ولكن الحادثة تثبت عكس ذلك، لذا أعتقد أنه في الفترة القادمة سيستبدلون الجنود والضباط الذين لديهم شبه تدين من تلك المنطقة".
وقال إن "السيسي يسعده ما يسعد الصهاينة، ويريد في غمضة عين ألا يرى المقاومة، وظهر ذلك في بداية الأزمة عند دعوته إسرائيل لتهجير الفلسطينيين إلى صحراء النقب بدلا من سيناء حتى تنهي على حماس والجهاد، لم يستح أن يقول هذا الكلام، وكل زمرة الحكام العرب يتمنون أن تنتهي المقاومة".
"حدود ساخنة.. ونظام بارد"
وبرغم العلاقات الساخنة بين نظام السيسي والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ استيلائه على السلطة في مصر منتصف 2013، فإن حوادث إطلاق النار على الحدود وبين عناصر من الجيشين تكررت في عهد السيسي بشكل لافت، وزادت وتيرتها مع حرب الإبادة الإسرائيلية الدموية على قطاع غزة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.
ففي تشرين الأول/ أكتوبر 2016، وقعت اشتباكات بين مهربين وحرس الحدود المصري قرب معبر "العوجة"، قتل خلالها إسرائيلي قرب الجدار الإسرائيلي الفاصل مع مصر.
وفي صباح السبت 3 حزيران/ يونيو الماضي، قُتل 3 جنود إسرائيليين وأصيب اثنان آخران برصاص الجندي المصري محمد صلاح، الذي استشهد في عملية إطلاق رصاص متبادل تبعها بنحو 5 أشهر عملية طوفان الأقصى، وهجوم المقاومة الفلسطينية على مستوطنات غلاف غزة، وأسر العشرات من قوات الاحتلال والمستوطنين.
منذ ذلك الحين، استهدف جيش الاحتلال الإسرائيلي الجانب المصري من منفذ رفح، بجانب منشآت عسكرية ومبان مدنية وعسكريين ومدنيين مصريين في رفع، مع وقوع انفجارين في نويبع وطابا بشبه الجزيرة المصرية، ما تسبب في سقوط جرحى، وفق الرواية المصرية، لكن روايات أخرى تشير لوقوع قتلى مصريين.
وكان جيش الاحتلال قد اعتدى خلال تشرين الأول/ أكتوبر الماضي 4 مرات على الجانب المصري من معبر رفح المنفذ البري الوحيد لقطاع غزة في سيناء، حيث أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية أحمد أبو زيد، في 20 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أن "إسرائيل استهدفت المعبر 4 مرات، وترفض دخول المساعدات".
وفي 27 من الشهر ذاته، انفجر جسم بعدما سقط على سكن لأطباء مستشفى مدينة طابا الساحلية بجنوب سيناء، مسببا إصابة 6 مصريين، ليحدث انفجارا آخر بعد ساعات قرب محطة كهرباء مدينة نويبع جنوبي سيناء نتيجة سقوط صاروخ أطلقته مسيرة، وفق بعض الروايات.
ومع تصاعد أحداث حرب غزة، وفي تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، تداول نشطاء مصريون مقاطع مصورة من محافظات مصرية لثلاث جنازات شعبية لمجندين، دون أن يعلن المتحدث العسكري أي أنباء عن وقوع قتلى في صفوف الجيش المصري، أو وقوع حوادث طالت بعض القوات.