يمر عيد الفطر الحادي عشر، والعيد الثاني والعشرون بين أعياد الفطر والأضحى، على آلاف المعتقلين السياسيين في
مصر بلا أمل في انفراجة لأزماتهم، التي بدأت مع الانقلاب العسكري الذي ضرب مصر في 3 تموز/ يوليو 2013، وقاده رئيس النظام الحالي عبدالفتاح
السيسي، الذي يحتفل بعيد الفطر الأول في ولايته الثالثة التي تنتهي عام 2030.
ووسط حرمان قاتل وواقع مر، فإن هناك أكثر من 60 ألف وجه لمعتقل نسيها ذووها وجيرانها وأصحابها بعد أن غيبتها سجون نظام الانقلاب العسكري لأكثر من 11 عاما، مع سياسات الرفض التام لإخلاء سبيلهم رغم انتهاء فترات محكوميتهم، وتدويرهم في قضايا جديدة، والتي يواصلها السيسي، ضاربا عرض الحائط بكل القوانين والمناشدات الحقوقية.
هذا العدد الكبير من المعتقلين حُرموا من طقوس يوم عيد الفطر 11 مرة ومن عيد الأضحى 11 مرة، وخاصة ما يسبق
العيد من طقوس رمضانية وشعائر وعادات مصرية وإسلامية، وما يتبعها من صلاة العيد في الساحات، وهي الشعيرة التي كان يحرص عليها جل المعتقلين من الإسلاميين الذين كانوا يقومون على تنظيمها سنويا.
"فرحة غائبة"
لم يبق لديهم ولا لدى ذويهم إلا الذكريات، التي حاولت "عربي21"، فتح خزائنها لدى بعض ذوي المعتقلين الذين نقلوا صورة مصغرة لأيام الأعياد مع ذويهم المعتقلين، معربين عن آمالهم في أن يعودوا لبيوتهم يوما ما.
أغلب ذوي المعتقلين يقضون العيد في السفر إلى مقرات السجون في محاولة لزيارة ذويهم إن نجحوا، وسط مرارة كبيرة يعيشونها لأجل إدخال الفرحة على المعتقلين، وهو ما أكدته في حديثها لـ"عربي21"، أم محمد، السيدة الستينية التي قهرها اعتقال زوجها مع الانقلاب العسكري من أحد أحياء القاهرة الشعبية، واعتقال زوج ابنتها ثم ابنتها، لاحقا.
وتقول: "كنت وزوجي وأبناؤنا نستعد ليوم العيد طوال العام، ونضع له برنامجه بداية من ملابس العيد وكحك العيد وعيدية العيد وصلاة العيد، وحتى لقاء الأهل في بيت العائلة الكبير بمسقط رأسنا في إحدى محافظات الدلتا".
وتضيف: "منذ أن اعتقل زوجي، فإننا نقضي ليلة العيد في تجهيز الزيارة له، وهو ما كانت تشاركني فيه ابنتي، حتى اعتقل زوجها، فأصبحنا نجهز لزيارتين، حتى اعتقلت هي أثناء زيارة زوجها، فغابت كل الفرحة عن بيتنا ولم يبق إلا الألم، وأظل أبكي طوال رمضان وأحلم بعودتهم، وما أصعبها ليلة العيد فلا نوم ولا راحة، فمن أزور زوجي أم ابنتي؟، وإلى من أشتاق زوجي أم ابنتي؟".
"قتلوا فرحة صناع الفرحة"
وتقول أسرة الشقيقين المعتقلين "م" و "ف": "أحدهما يكمل 11 عاما والثاني نحو 8 سنوات في المعتقل، وكبر أطفالهما وصاروا شبابا، وكبرت بناتهما وصرن في سن الزواج، ودب المشيب في رأس زوجتيهما، والفرحة لم تدخل البيت يوما واحدا مع غيابهما".
وتضيف: "كان بيتنا خلية نحل في رمضان ومع كل عيد، حيث كانا يقومان قبل رمضان بتجهيز شنط رمضان وتوزيعها على فقراء حينا والأحياء المجاورة بل وكانت تصل إلى بعض القرى، بل كان بيتنا طوال رمضان وفي يوم العيد قبلة كل محتاج وفقير وسيدة غارم زوجها أو سيدة تزوج ابنتها أو يتيمة لا تجد ما تجهز به نفسها".
وتواصل: "كانا يجهزان وجبات إفطار رمضان، للفقراء، ويوزعانها يوميا مع شبان من جماعة الإخوان المسلمين، ويجهزون أكياس اللحوم آخر أيام رمضان لتوزيعها في عيد الفطر، وذبح الأضاحي وتوزيعها في يوم عيد الأضحى".
وتوضح أنهما "اليوم، في محبسهما منعوهما من فعل الخير للفقراء، وحرموهما من أن يعيشا أجمل أيام حياتهم وأن يفعلا أفضل ما كانا يحبان فعله"، ملمحة إلى أن "جهدهما كان يصل إلى المستضعفين في كل بلدان الأرض في فلسطين وفي البوسنة والهرسك وحتى الصومال، وغيرها، وبأقل القليل حتى جلود الأضاحي كانا يصنعان منها الفرحة".
"ماض جميل وحاضر لعين"
وتقول السيدة "إ"، المعتقل ستة من ذويها وأعمامها وأبناء أعمامها بينهم أبوها وشقيقها: "لا تذكرني بالماضي الجميل فأتحسر على الحاضر اللعين".
وتضيف في حديثها لـ"عربي21": "في مثل هذا الوقت من كل عام وقبل العيد بيومين كان يبدأ بيتنا بالاستعداد للاحتفال بعيد الفطر المبارك، كانت أسعد أيامنا على الإطلاق مع أبي وأخي، تغمر الفرحة بيتنا السعيد الهانئ".
وتواصل: "نبدأ بتنظيف المنزل ليكون على استعداد لاستقبال المهنئين بالعيد، ونجهز ملابسنا حتى تكون في أبهى صورة، ثم نذهب للنوم ونحن نحلم بها وبالذهاب لصلاة العيد في الخلاء، المجهز بالزينة والمناظر الجميلة، التي كان أبي يقوم على تنسيقها وتنظيمها كل عام هو وأصدقاؤه".
وتتابع: "نلتقي بأصدقائنا وأحبابنا ونهنئ بعضنا البعض ونقدم التمر والبالونات وكروت التهنئة للقادمين للصلاة ثم تبدأ الصلاة ونستمع للخطبة ثم نلتقط الصور وفي النهاية نودع بعضنا ونرجع لبيوتنا ونقبل يد أبي وأمي ونتناول طعام الإفطار ثم نستقبل المهنئين من الأقارب والأصدقاء والجيران ونأخذ العيديات".
وتؤكد أن "هذا هو العيد الذي كنت أعرفه قبل أكثر من 10 سنوات، ولكن أين هذا العيد الآن مع غياب أبي وأخي؟، ليته يعود مرة أخرى، فحياتنا أصبحت لا تعرف للعيد مكانا، بل لا تعرف سوى القهر والذل، فعيدنا أصبح في المعتقلات وخلف القضبان".
وتختم قائلة: "عيدنا الآن نقضيه في السفر وقبله بليلة نقوم بتجهيز الأكل وتغليفه لأبي، وأخي، ولا ننام ليلة الزيارة ونخرج فجرا لطريق مدته 4 ساعات، يتبعه سير على الأقدام، وحمل حقائب، ووقوف في صفوف طويلة لا تنتهي، ثم تفتيش ذاتي أقرب للتحرش والإهانة، وأخيرا نلتقي أبي أو أخي، في منظر تشيب له الولدان من حجم القهر والذل والظلم".
"انتهاكات وتعنت"
تواصل السلطات المصرية انتهاك القوانين والأعراف بحق المعتقلين، وترفض إخلاء سبيل الآلاف رغم انتهاء فترة محكوميتهم، وتتركم للموت البطيء بالمرض والإهمال داخل السجون، وفق ما رصدته تقارير سابقة لـ"عربي21".
ويرفض نظام السيسي، تقديم حلا نهائيا لأزمة المعتقلين، بل يرفض الحديث عن هذا الملف برغم الانتقادات الحقوقية الدولية والتي توجهها له المعارضة ولسطوة نظامه الأمني، حيث يؤكد رأس النظام مرارا أنه برفضه هذا يحافظ على أمن مصر.
وقدرت منظمة العفو الدولية في كانون الثاني/ يناير 2021، عدد المعتقلين في مصر بنحو 114 ألف سجين، فيما أكدت أن مسؤولي السجون بمصر يعرِّضون سجناء الرأي وغيرهم من المحتجزين بدواع سياسية للتعذيب ولظروف احتجاز قاسية وغير إنسانية، ويحرمونهم عمدا من الرعاية الصحية عقابا على معارضتهم.
وأكدت المنظمة في تقريرها الصادر 25 كانون الثاني/ يناير 2021، أن قسوة السلطات تسببت أو أسهمت في وقوع وفيات في أثناء الاحتجاز، كما أنها ألحقت أضرارا لا يمكن علاجها بصحة السجناء.
وقدرت "الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان"، عدد السجناء والمحبوسين احتياطيا والمحتجزين في مصر حتى بداية آذار/ مارس 2021 بنحو 120 ألف سجين، بينهم نحو 65 ألف سجين ومحبوس سياسي.
"واقع متدهور.. ويبقى الأمل"
وفي حديثها لـ"عربي21"، تحدثت الحقوقية المصرية هبة حسن، عن توقعاتها لملف المعتقلين في مصر خلال السنوات الست القادمة مع دخول أول عيد فطر في ولاية السيسي الثالثة، ومرور عيد الفطر الحادي عشر على آلاف المعتقلين، مقدمة قراءتها الحقوقية لمؤشرات واقع المعتقلين، وهل أزمتهم إلى انفراجة أم إلى استمرار؟
وتقول المديرة التنفيذية لـ"التنسيقية المصرية للحقوق والحريات": "أولا: كل عام وأسرانا وكل حر يدفع ثمن حريته وعزة نفسه وعمله لقضيته بخير وكرامة ونصر"، معربة عن أسفها من أن "الواقع المصري يتدهور يوما بعد يوم، حتى إنه لا تبدو في أفقه أية انفراجة إلا برحمة من الله وتقدير من عنده".
وتوضح أن "الواقع الذي جعل ملف المعتقلين ملفا يزيد ولا ينقص مع نظام كلما زادت مشكلاته وأزماته بسبب سوء إدارته وهيمنة الفساد واللامسؤولية على قراراته؛ كلما أخرج هذا الفشل والانهيار على شكل مزيد من الظلم ومزيد من التعسف الأمني على الجميع وفي مقدمتهم
المعتقلون وكل من يبدي معارضة أو تذمرا".
وتعتقد أن "الحديث عن ولاية ثالثة؛ مع الأسف كاشف عن استمرار تعسف وظلم وقمع لا يجد من يوقفه، مع انشغال العالم والمنطقة بأزمات ضخمة، يحرص هذا النظام على أن يبحث فيها دوما عن مكاسب لنفسه، تجعل المنظومة الدولية تغض الطرف عن أخطائه وانتهاكات حقوق الإنسان المتزايدة داخل الوطن".
وتختم الحقوقية المصرية، مؤكدة أن "الأمل يبقى دائما في شعب يتحرك ليتحرر، ويرفع عن نفسه الظلم، ويحرر كل المظلومين داخل وخارج أسوار السجون".
"حديث مر"
وفي رؤيته، يقول الباحث والكاتب والمحلل السياسي المصري عزت النمر: "أقدم بين يدي الإجابة تهنئة واجبة لكل الشعب المصري ولأهلنا في السجون والمنافي والثابتين من أسرهم في الوطن وخارجه".
وفي حديثه لـ"عربي21"، يضيف أن "حديث الذكريات حديث مر، ولا أريد أن أحولها إلى مرثيات تزيدنا ألما على ألم، ليس فقط لهذه الآلاف المؤلفة من المعتقلين والمطاردين وأهل المنافي، لكن نتجرع الألم لمن فقدتهم مصر من الشهداء البررة الذين جادوا بأرواحهم دفاعا عن حرية واستقلال هذا الوطن وكرامة شعبه".
ويلفت إلى وجود "رموز شعبية تعج بهم الإحياء في كل ربوع الوطن وتفقدهم حواري مصر وبيوت الفقراء والأغنياء على السواء؛ نصحا ودعما وسدا لحاجات الجميع وإقامة لشعائر هذه الأيام المباركة ونشر لبهجة العيد حتى لا يحرم منها فقير أو معدوم".
ويؤكد أن "الحديث يطول والذكريات تهتف بتساؤلات تنكر هذا الواقع الكئيب وتلعن السيسي وانقلابه، وكل من تسبب في حرمان الشعب المصري من رموزه وقواه الحية وأسباب حيويته وعزته على السواء".
"أي واقع غريب يجعل من رموز كباسم عودة، (وزير التموين في وزارة الدكتور هشام قنديل خلال عام حكم الرئيس الراحل محمد مرسي) وآلاف غيره مغيبين في السجون، ويحرم من جهودهم الوطن والشعب، فضلا أن يحال بينهم وبين أسرهم ومحبيهم لهذه السنوات الطوال".
ويرى الكاتب المهتم بملف المعتقلين، أن "هذا هو قدرنا الغالب لكننا على كل الأحوال مطالبين بأن نغالب هذه الأقدار ونتلمس الفرج ونسعى ونأمل لأن تكون الجولة القادمة جولة نصر وتمكين وانتصار للعدالة والحرية".
"لا أمل بوجود السيسي"
وعن قراءته لما قد يكون عليه ملف المعتقلين خلال ولاية السيسي الثالثة، يقول: "لا أنتظر أي انفراجة بملف المعتقلين في وجود السيسي وطغمته في حكم مصر، خاصة وأن العسكر استطاعوا أن يجرفوا الوطن وينشئوا نخبا إعلامية وفكرية وثقافية ومالية وفنية ورياضية لا تقل فسادا واستبدادا عن النخب السياسية التي تدين بالولاء للعسكر، وتشاركه في أكل أموال الشعب وازدراء إرادته وكرامته".
"لكن على الجانب الآخر؛ أنا على يقين من أن تحولات عنيفة ستطال المشهد لن تبقي على واقعنا الأسيف هذا، وأن السيسي لن يكمل فترته الثالثة، وأنه سيتذوق هو وكل أركان حكمه عاقبة خيانته وانقلابه قريبا عاجلا أو بعد حين"، بحسب النمر.
ويؤكد أن "هذه التحولات بدأت مع أحداث طوفان الأقصى ولن تنتهي معها ولن تتوقف عند حدود مصر فحسب، لكم أتوقع أن تغير وجه الحياة في مشهدنا العربي كله".
ويعرب عن أمله بأن "تجرى هذه التحولات أقرب مما نتوقع وتنهى أزمة مصر الوطن وكلها وفي القلب منها أزمة المعتقلين، وهي أزمات لن تنتهي بالتفاوض ولا بالمطالبة، ولكنها لن تنتهي إلا بنهاية الاستبداد ومعاقبة رموزه وكسر داعميه في الإقليم والعالم، وهو ما أراه يتبدى في الأفق، ولعله أن يكون أقرب مما نتوقع وننتظر".