قال أستاذ دراسات الشرق الأدنى
في جامعة برنستون، برنارد هيكل، إن الحرب في
غزة خلقت مأزقا لولي العهد السعودي
الأمير محمد بن سلمان.
وأضاف في مقال في مجلة
"
فورين أفيرز" الأمريكية إن الحكومة
السعودية تريد تعزيز أمنها، وتأمل في أنه من خلال تطبيع العلاقات مع "إسرائيل"، يمكنها إنشاء تحالف أمني مع
الولايات المتحدة وحلفاء واشنطن الإقليميين. لكن الرياض لن تقيم مثل هذه العلاقات
عندما تقصف "إسرائيل" المدنيين في غزة وترفض الاعتراف بحق الفلسطينيين
في إقامة دولتهم.
ومع ذلك، لم يكن التطبيع، وليس
هو السبيل الوحيد أمام أسرة آل سعود لتعزيز قبضتها. فيمكن للنظام أيضا أن يحمي
نفسه ومصالحه من خلال بناء اقتصاد أكثر قوة وتغيير الأيديولوجية الداخلية للبلاد.
ولتحقيق هذه الغاية، تعمل السعودية بنشاط على تطوير قطاعات جديدة غير مرتبطة
بالنفط، مثل السياحة والتعدين والخدمات اللوجستية والتصنيع والتكنولوجيا والتمويل
والنقل. كما أنها تعمل على تحويل مصدر شرعيتها، الذي اعتمد لفترة طويلة على علاقة
النظام الملكي بالتفسير الأصولي للإسلام، المعروف باسم الوهابية، وعلى دوره كخادم
للأماكن المقدسة في الإسلام. وعلى نحو متزايد، يسعى النظام الملكي بدلا من ذلك إلى
إضفاء الشرعية على حكمه من خلال تقديم نفسه على أنه حامي الشعب السعودي وتعزيز
الشعور القومي القوي الذي يضع المصالح السعودية في المقام الأول.
وقد أدت الحرب في غزة إلى تعقيد
هذا التحول.
لا تزال السعودية تهدف إلى
تطبيع العلاقات مع "إسرائيل"، لكن المملكة تطالب بسعر أعلى بكثير
للعلاقات الدبلوماسية. ويصر السعوديون الآن على أن يقدم الإسرائيليون تنازلات
مضمونة من شأنها أن تؤدي إلى إنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة. كما أنهم يحاولون
إقناع واشنطن بالاعتراف رسميا بدولة فلسطين التي لا تزال غير ملموسة بينما هم يدعون
مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إلى القيام بذلك أيضا. لكنّ ما دفع السعوديين لإقناع
"إسرائيل" والولايات المتحدة ليس سببه فقط تخفيف المعاناة الفلسطينية، بل إن الرياض تعتقد أنه إذا تم حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بشكل عادل، فسوف تضعف طهران،
وسوف يستقر الشرق الأوسط. ويمكن للمملكة بعد ذلك إنجاز تحولها الوطني وتحقيق
رؤيتها المتمثلة في إنشاء منطقة مترابطة ومزدهرة، تكون في المركز.
هدف محمد بن سلمان هو جعل السعودية،
على حد تعبيره، "طبيعية". وهو يعني بذلك مجتمعا منفتحا اجتماعيا
وديناميكيا اقتصاديا، على الرغم من أنه سيظل في قبضته الاستبدادية. سيكون الناس
أحرارا في التدين، لكنهم لا يستطيعون فرض معتقداتهم على الآخرين. يمكن للنساء
ارتداء الملابس كما يرغبن في الأماكن العامة والاختلاط دون التعرض للمضايقات.
ويعتقد ولي العهد أن هذا
التخفيف من الأعراف الدينية والاجتماعية من شأنه أن يسمح للبلاد بالتنافس اقتصاديا
مع الدول الأخرى، وجذب الاستثمارات والمواهب الأجنبية، وتقليل اعتمادها في النهاية
على عائدات الوقود الأحفوري.
وللمساعدة في تعزيز هذه الرؤية
لدولة أكثر تسامحا وحداثة يقودها شعور قوي بالأمة، كشف محمد بن سلمان عن مجموعة من
المبادرات الجديدة. فقد أنشأت حكومته، على سبيل المثال، عطلات غير دينية، مثل يوم
التأسيس. وتحت رعاية برنامج يسمى رؤية 2030، أكد النظام على التراث الثقافي ما قبل
الإسلام للبلاد، وجمالها الطبيعي، والفنون والثقافة السعودية المعاصرة. فقد سلطت
الضوء، على سبيل المثال، على مدينة العلا، وهي واحة سعودية مذهلة ومنطقة صحراوية
تضم مقابر قديمة مذهلة.
وتقوم الدولة بإعادة كتابة
التاريخ السعودي بطريقة تؤكد على مصادر السلطة والشرعية المختلفة، حيث تتم مراجعة
المناهج المدرسية والأعمال التاريخية العامة في البلاد للتركيز بشكل أكبر على
الثقافة العربية والدور الحاسم الذي لعبته العائلة المالكة في توحيد المنطقة
وسلامتها بدءا من القرن الثامن عشر. في هذه الرواية، يتم إيلاء اهتمام أقل لدور
الإحياء الديني في تشكيل البلاد وتاريخها.
وترفض الرياض عمدا المطالبات
والالتزامات الأيديولوجية العابرة للحدود الوطنية. وعلى النقيض من إيران، فإنها لم تعد
السعودية مهتمة بالدفاع عن القضايا الإسلامية، ولم تعد تؤيد السرديات الكبرى حول
المظالم التي يفرضها الغرب على ما يسمى بالجنوب العالمي. ولم تذكر الرياض "الشيطان
الأكبر" أو "قوى الاستكبار" أو "مستضعفي الأرض" أو
الحاجة إلى "المقاومة"، كما تفعل إيران وأتباعها. وتولي البلاد أهمية
كبيرة لسيادتها وسيادة الدول الأخرى، لذا فهي لا تدين محنة الإيغور في ظل الحزب الشيوعي
الصيني أو محنة المسلمين الهنود في ظل حزب بهاراتيا جاناتا القومي الهندوسي
الحاكم. وعندما تستحضر الرياض قضية فلسطين فهي قضية قومية وليست قضية إسلامية.
وترى القيادة السعودية أن
الأيديولوجيات والحركات التي تشجع التدخل العابر للحدود الوطنية أمر خطير. وبناء
على ذلك، فقد حظرت العديد منها، بما في ذلك جماعة الإخوان المسلمين. وبدلا من ذلك،
فإن رؤية الرياض للنظام العالمي هي رؤية تكنولوجية ونيوليبرالية.
وتعني هذه التغييرات أن السعودية
تروج الآن لعكس ما تفرضه الأنظمة الإسلامية. لنأخذ على سبيل المثال مهرجان Soundstorm 2023، وهو مهرجان موسيقي أقيم في الرياض في كانون الأول/
ديسمبر. وحضره مئات الآلاف من الشباب من جميع طبقات المجتمع للاستماع إلى كالفين
هاريس، وترافيس سكوت، وميتاليكا، ومجموعة متنوعة من الموسيقيين المشهورين الآخرين.
لم يكن أحد تقريبا يرتدي الأزياء السعودية التقليدية.
وعندما انتشرت مقاطع فيديو من
الحدث على نطاق واسع، فقد ردت الجماعات الإسلامية بانتقادات لاذعة. على سبيل المثال، فقد أدان الحوثيون السلطات السعودية لسماحها "بالسلوك الفاسق" في وقت كان
فيه الفلسطينيون يتعرضون للهجوم. لكن الحكومة السعودية تجاهلت الانتقادات واستمرت
في الترفيه، بحجة أن مثل هذه الأحداث ضرورية لتحول البلاد. فهم يريدون من مواطنيهم
أن ينفقوا محليا على الترفيه، وهو ما لم يكن متاحا تاريخيا. وبدلا من ذلك، فقد سافر
السعوديون إلى الخارج لمثل هذه التجارب، لينفقوا مليارات الدولارات كل عام في
دول أخرى. وتعتبر الحكومة مثل هذا الترفيه عنصرا أساسيا في تطوير الاقتصاد المحلي.
ومن الممكن أن تساعد مبادرات
محمد بن سلمان في تعزيز ازدهار السعودية، وبالتالي شعبية نظامه. ولكن لكي ينجحوا، فيجب أن يسود السلام. وقد توصل محمد بن سلمان إلى هذا الإدراك بعد عدة سنوات من
اتباع سياسات خارجية عدوانية، مثل تدخله المكلف في الحرب في اليمن، ومقاطعة قطر،
والموقف العدائي تجاه إيران - بما في ذلك تشبيهه للمرشد الأعلى الإيراني علي
خامنئي بهتلر.
وأدت تلك الإجراءات إلى عدم
الاستقرار في المملكة وعرضت أهداف محمد بن سلمان للخطر. ففي أيلول/ سبتمبر 2019، على
سبيل المثال، أطلقت إيران صواريخ كروز وطائرات بدون طيار ضد منشآت النفط السعودية
في بقيق وخريص، ما أدى إلى انقطاع نصف إنتاج البلاد من النفط لعدة أسابيع. وفي
آذار/ مارس 2022، استهدف الحوثيون مستودعا للنفط في مطار جدة، ما أدى تقريبا إلى
منع سباق الجائزة الكبرى للفورميولا 1 الذي عملت السعودية جاهدة على جلبه إلى أراضيها.
وفي الوقت نفسه، قام الزعماء الإسلاميون في جميع أنحاء العالم الإسلامي بتشويه
سمعة الرياض ووصفوها بأنها تابعة للولايات المتحدة وأنها نظام مرتد.
ونتيجة لذلك، فقد عدلت المملكة
موقفها. والآن، أصبح الرد السعودي الرسمي على هذه الاستهزاءات خافتا، وأصبحت
سياستها تجاه منافسيها تصالحية. وأنهت الرياض الحصار المفروض على قطر في كانون
الثاني/ يناير 2021 وبدأت بالتفاوض على سلسلة من الهدن وتبادل الأسرى مع الحوثيين
في منتصف عام 2022. وفي آذار/ مارس 2023، وقعت اتفاقية انفراج مع إيران استأنفت
العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. وفي كانون الأول/ ديسمبر 2023، أقر السعوديون
اتفاق خارطة الطريق للسلام لإنهاء الحرب في اليمن، وهم يتفاوضون مباشرة مع
الحوثيين. ومن خلال القيام بذلك، اعترفت الرياض فعليا بالحوثيين باعتبارهم لاعبين
رئيسيين في المستقبل السياسي لليمن. وتشير الصفقة حتى إلى أن السعوديين سيزودون
المجموعة بالمساعدات المالية ودفع الرواتب.
لكن السعوديين لا يلعبون بشكل
جيد فقط بسبب الضغوط الإقليمية. وتأتي تهديدات إيران ووكلائها في وقت ترددت فيه
الولايات المتحدة بشأن حماية السعودية من العدوان الخارجي. فقد رفض الرئيس
الأمريكي السابق (وربما المستقبلي) دونالد ترامب الرد على هجوم عام 2019 على منشآت
أرامكو السعودية، وأزعج أسلوبه القائم على المعاملات إلى حد كبير محمد بن سلمان،
الذي يريد أن تعتبر بلاده حليفا استراتيجيا وليس محطة وقود مزودة بجهاز صراف آلي.
عندما تولى الرئيس الأمريكي جو
بايدن منصبه في كانون الثاني/ يناير 2021، أعلن صراحة أنه سيعاقب السعودية على
تورطها في الحرب في اليمن وسجلها في مجال حقوق الإنسان. وفي غضون شهر، أصدر بايدن
وثيقة لوكالة المخابرات المركزية تزعم أن محمد بن سلمان "وافق على عملية في
إسطنبول بتركيا لاعتقال أو قتل الصحفي السعودي [والمعارض] جمال خاشقجي". وفي
الشهر نفسه، قام بايدن بإلغاء تصنيف الحوثيين منظمة إرهابية. وفي عام 2022، منع
الكونغرس الأمريكي نقل الأسلحة التي دفع السعوديون ثمنها بالفعل. وساعدت كل هذه
القرارات في دفع محمد بن سلمان إلى تبني نهجه الجديد في المنطقة، فضلا عن بناء علاقات
أقوى مع الصين والهند وروسيا. وهي تشكل مجتمعة سياسة السعودية أولا، حيث يدرس محمد
بن سلمان جميع أنواع الخيارات لتأمين حكم سلالته.
ويساعد هذا التحوط في تفسير سبب
رفض السعودية الانضمام إلى التحالف البحري الذي تقوده الولايات المتحدة لوقف هجمات
الحوثيين على السفن في البحر الأحمر. ويتوقع السعوديون أن مصالحهم الاقتصادية، مع
مرور الوقت، سوف تتفوق على الالتزامات الأيديولوجية الأكثر تشددا. ولذلك فإن
الرياض حريصة على بناء علاقات مالية واستثمارية مع إيران ومع الحوثيين، على أمل أن
تؤدي هذه المصالح الخاصة إلى حماية المملكة في نهاية المطاف من أعمالهم العدوانية.
لكن محمد بن سلمان ليس ساذجا
بشأن رغبة أعدائه في الإضرار ببلاده، كما أنه ليس ساذجا بشأن قدراتهم. ولن تصبح
إيران وحلفاؤها أصدقاء للسعودية أبدا، كما أن إسرائيل والولايات المتحدة أقوى
عسكريا من أن تتمكن من هزيمتها بالكامل. فقد شهدت السعودية محاولات جمال عبد
الناصر في مصر نشر الأيديولوجية الثورية العربية، كما فعل صدام حسين في العراق من
خلال حركته السياسية البعثية وكانت النتائج كارثية. لا يوجد حل عسكري قادر على
إقامة دولة فلسطينية، ولا توجد طريقة لإجبار الولايات المتحدة على الخروج من الشرق
الأوسط.
في الواقع، يأمل السعوديون في أن
تصبح واشنطن أكثر انخراطا في المنطقة. وكان سعي ولي العهد لتطبيع العلاقات مع "إسرائيل"، جزئيا، وسيلة للحصول على اتفاقية أمنية أوسع مع الولايات المتحدة. وفي
مقابل سفارة سعودية في "إسرائيل"، أرادت المملكة إبرام معاهدة دفاع
مشترك مع واشنطن من شأنها حماية السعودية من أي هجوم خارجي ومنحها برنامجا نوويا
تديره الولايات المتحدة. وستصبح المملكة بعد ذلك حليفا استراتيجيا للولايات
المتحدة، مع وضع مماثل لوضع اليابان أو كوريا الجنوبية. وسيكون هذا إنجازا كبيرا للرياض
وريشة في قبعة محمد بن سلمان. وسيكون إنجازا أعظم من إقامة العلاقة بين مؤسس
المملكة، ابن سعود، والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في عام 1945، والتي بشرت
بعقود من التعاون بين البلدين وتقدم اقتصادي مذهل.