الكتاب: "الشراكة الملعونة"
المؤلّف: الحسين بن عمر
الناشر: دار يس للنشر
الطبعة الأولى: 2021
عدد الصّفحات: 276
أصدر المركز الدولي لتسوية نزاعات
الاستثمار CIRDI الجمعة 22 ديسمبر- كانون الأوّل 2023،
حكما ختاميا في النزاع الدّولي القائم بين الدّولة التونسيّة وشركة المجموعة
العربيّة للاستثمار ABCI (
كانت على ملكيّة الأمير السعودي بندر بن خالد ابن عبد العزيز بمعيّة المحامي
التونسي عبد المجيد بودن) منذ سنة 1982 حول ملكيّة أسهم وانتزاعها في البنك
الفرنسي التونسي (بنك تونسي لكنه حافظ على هذه التسمية رغم تونسته سنة 1964).
وبهذا القرار الختامي يحسم المركز الدولي لتسوية نزاعات الاستثمار أطول نزاع دولي
عرفته الدولة التونسية الحديثة حتى أنه عرف بملف القرن وفق تصريح سابق ليوسف
الشاهد، رئيس الحكومة التونسي الأسبق.
طول النزاع وتعقيداته وتشابك شخوصه جعل
من الأهميّة بمكان التقصّي في جملة الخلفيات السياسية والمالية وحتى السياسية التي
حوّلت مشروع شراكة بين الدّولة التونسيّة المالكة للبنك الفرنسي التونسي والمجموعة العربيّة للاستثمار ABCIإلى
نزاع قضائي طويل انتقل من المحاكم التونسية إلى مركز تسوية نزاعات الاستثمار سنة
2004، ولينتهي بإعلان الدّولة التونسيّة إفلاس البنك الفرنسي التونسي والانطلاق في
مسار تصفيته بتاريخ الثلاثاء 1 مارس/آذار 2022، رغم عراقته وحساسية ملفه القضائي
والمالي.
في هذا الإطار، تعرض
"عربي21"، وبصفة
حصريّة، تقديما جامعا لكتاب "الشراكة الملعونة" لمؤلفه الكاتب والصحفي
التونسي الحسين بن عمر المتخصّص في الصحافة الاستقصائيّة والذي جاء إثراء مهمّا
للمكتبة الاستقصائية العربية الشحيحة في هذا المجال، على حدّ تأكيد د. حميدة
البور، مديرة معهد الصحافة وعلوم الإخبار في تونس والتي قامت بالتقديم للكتاب. وقد
ساعدت بهيجة بالمبروك، الصحفيّة والمدربة التونسية في مجال الاستقصاء، في التقصّي
في بعض محاور الكتاب والتدقيق فيها Fact Checking، عبر التعاون مع منظمة الإبلاغ عن الجريمة
المنظمة والفساد OCCRP(Organized Crime and Corruption
Reporting). وهو
ما يجعل من الكتاب قيمة صحفية وتأريخيّة مهمّة استطاعت تفكيك خبايا النزاع الدّولي
الطويل الذي تورّطت فيه الدّولة التونسيّة.
ملف القرن بامتياز
تجذبك تعقيدات ملف النزاع الدّولي
القائم بين الدولة التونسية والمجموعة العربية الدولية للأعمال ABCI،
أسسها الأمير السعودي بندر بن خالد ابن عبد العزيز بمعيّة المحامي التونسي عبد
المجيد بودن، منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، نحو مربعات تقاطع المالي والإداري
مع السياسة وأُتونِها، فلا تجد فِكاكا من عُمق الغوص خلف مرايا تقارير إعلام "التولك شو"
(talk show) ومجلّدات
الأحكام القضائية المحليّة والدّولية التي لم يتوقف قطارها منذ أن أصدرت غرفة
التحكيم الدّولية بباريس أوّل قرار تحكيمي في النّزاع في 23 جويلية 1987 وصولا إلى
آخر قرار صادر عن المركز الدّولي لتسوية نزاعات الاستثمار CIRDI بتاريخ 17 جويلية 2017.
وأنت تُقلّب دفاتر النزاع القائم بين
الدّولة التونسيّة، بوصفها مساهما غير مباشر في البنك الفرنسي التونسي الذي تمّ
تأميمه من مالكه راوول دانينوس، في 9 مارس 1964، عن طريق الشركة التونسية للبنك،
وبين المستثمر الأجنبي الذي ساهم في الترفيع في رأس مال البنك الفرنسي التونسي
بنسبة 50 بالمائة فترة إدارة منصور معلّى، وزير المالية والتخطيط في حكومة محمّد
مزالي، لن تحتاج إلى مزيد الحبك الدرامي لبناء قصّتك الاستقصائية.
فقد وفّر تشابك
المصالح بين مختلف شخصيّات القصّة وتقلّب أدوارها الوظيفيّة طوال فترات النزاع،
على الباحث المتقصّي عناء التشبيك والتخيّل الدراميين.
ففيما كانت مقرّات الشركة تجول بين جزر الملاذات الضريبية الآمنة منذ
تأسيسها، بدءا بجزر الكايمان، إقليم ما وراء البحار البريطانية في غرب البحر
الكاريبي، سنة 1982، مرورا بجزر الأنتيل
الهولندية سنة 2003 ووصولا إلى إقليم جبل
طارق الواقع في جنوب شبه جزيرة إيبيريا، قذفت رياح كانون الأول / ديسمبر العاتية بمن كانوا
محامين في ملف النزاع أو حتى مجرّد شهود قبل الثورة إلى دفّة المسؤولية واتخاذ
القرار في أعلى هرم السلطة، فانبرت مسارات الصلح تتقاذفها لعبة المصالح الذاتية
والقطاعيّة. وممّا زاد في دراميّة القصّة
وتعقيداتها تحوّل رفقاء الأمس لعبد المجيد بودن في معاداة نظام بن علي في المهجر،
خصوما جُددا على بساط الدّولة واستحقاقاتها.
بغاية كشف خبايا ملف النزاع التحكيمي
الذي باشره المركز الدولي لتسوية نزاعات الاستثمار منذ نيسان / أبريل 2004، وكي نطوّح
ببحثنا بعيدا عن لهفة تكديس حزم الوثائق
المسرّبة، لم يقف قرار قاضي التحقيق بالمكتب 22 بالمحكمة
الابتدائية بتونس مانعا من مناقشة ملف النزاع المذكور إعلاميا، حين بدأت إثارته تلفزيّا سنة 2015 من خلال برنامج "بالمرصاد" على فضائية
الزيتونة. وكان لا بد من انتظار صدور قرار ختم بحث في الملف القضائي سنة 2019 كي تتم كتابة القصة الاستقصائية حفظا لتفاصيل اجتهد الباحث الحسين بن عمر في إثباتها.
وكان لافتا بعد سنوات البحث هذه أنّ يخلص التحقيق إلى أن
منظومة الفساد زمن بن علي لم تكن سوى الوجه المكشوف لنفوذ "دولة"
الإدارة وجبروتها، المفضي إلى استدامة النّزاع.
فبعد طلب صندوق النقد الدولي FMI إجراء
تدقيق معمّق على حسابات البنوك العمومية الثلاثة في آب / أغسطس 2012، تمهيدا لعملية
رسملتها، نجحت لوبيّات الإدارة في استثناء البنك الفرنسي التونسي من منظار هذه
العملية الرقابية، بالرغم من أن الشركة التونسية للبنك تملك غالبية أسهمه. ويكفي
التذكير في هذا المقام بعجز الوزراء المتعاقبين قبل الثورة وبعدها عن إنجاز مهمّة
رقابيّة داخل البنك بواسطة الهيئة العامّة للرقابة المالية CGF إلاّ بتاريخ مارس 2016!
فرضيّات التقصّي
حاول الكاتب خلال هذا البحث الصحفي
التقصّي في فرضيتين اثنتين: الفرضيّة الأولى هي كشف دور اللّوبيات المالية وأذرعها
الإداريّة في تعطيل مسارات الصّلح التي أتيحت للدّولة وخصمها المجموعة العربيّة
الدّولية للأعمال.
أمّا الفرضيّة الثانية فهي فهم طبيعة المستثمر
الأجنبي فيما يتعلّق بمساهميه وبفترة إدارته للبنك الفرنسي التونسي بين فيفري 1987 ويناير 1989.
يكتسي الحفر في الأدوار التي
لعبتها شخصيّة نافذة بالبنك المركزي
التونسي دورا محوريّا في إيضاح مدار تورّط اللوبيات المالية والسياسية النافذة التي غنمت
قروضَا طائلة من البنك الفرنسي التونسي دون ضمانات دنيا، في تعطيل مسارات الصلح في
النزاع الدّائر بين الدولة التونسيّة والمجموعة العربية الدولية للأعمال ABCI.
على أهميّة الشهادات التاريخية التي اجتهد البحث الاستقصائي في توثيقها، على وجه الخصوص تلك التي تخصّ إطارات البنك الفرنسي التونسي والبنك المركزي التي عايشت بدايات النزاع وتطوّراته أواسط ثمانينيات القرن الماضي، فإنّ البحث ارتكز في مجمله على مادّة وثائقيّة ثريّة مثلت عماد الفرضيتين المعروضتين على بساط التقصّي.
يذكر أنّ معظم القروض التي منحت دون ضمانات لا تزال في طور النزاع
القضائي، بينما تحوّل جزء كبير منها إلى ديون متفحّمة، منذ تسعينيات القرن الماضي،
على وجه الخصوص بين سنتي 2004 و2008. كما أنّ تعثر مسارات الصلح بدأ مع بداية
الألفية الثانية، فترة حكم زين العابدين بن علي وتواصل إلى حدّ تولّي حكومتي ما
بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 ("الترويكا") مقاليد الحكم، حين قرّر مجلس
الوزراء برمته تعليق التفاوض مع الشركة الخصيمة، وذلك في خريف 2013.
وفيما يتعلّق بالفرضية الثانية التي
يجتهد البحث في كشفها، هو تبيان عدم شفافية استثمار المجموعة العربيّة الدولية
للأعمال ABCI في البنك الفرنسي التونسي، منذ تقدّم
صاحبها بطلب الشراكة إلى السلطات التونسيّة في
ديسمبر 1981.
محاور الكتاب
يضمّ البحث أبوابا تسعة بوسع كلّ منها
تشكيل تحقيق منفرد بذاته. وتنفتح الأبواب بداية بغوص في خلفيّات الشراكة وسياقاتها
الاقتصادية والسياسيّة بداية ثمانينيات القرن الماضي والتي تزامنت مع صعود محمد
مزالي إلى دفّة الحكم، محمّلا بفكرة الانفتاح على الشرق وعازما على الغرف من
استثماراته العامّة والخاصّة. تزامن هوس مزالي اللامتناهي بالشرق مع عجز البنك
الفرنسي التونسي عن الاكتتاب في كتلة الأسهم التي طرحتها جلسته العامة المنعقدة
بتاريخ 18 حزيران / يونيو 1981، سوف يسرّعان تورّط الدّولة في شراكة يقول عنها نور الدّين
دمّق، مدير التفقّدية العامة بالبنك المركزي أواسط الثمانينيات، بأنّها كانت
"شراكة شفهيّة قادت إلى ما لا يحمد عقباه"، ويوصّفها قيصر الصيّاح،
المحامي والخبير القانوني، بأنّها كانت "الخديعة الكبرى".
بعد أن فرض بورقيبة ما أسماه
بـ"ضرورة احترام الدّولة لتعهّداتها"، لعبت أطماع اللوبيّات الماليّة
والسياسيّة الصّاعدة دورها في إتاحة الفرصة لعبد المجيد بودن، ممثل المجموعة
العربيّة الدّوليّة للأعمال، كي يستأثر بإدارة البنك سنتين كاملتين ويفرض استصدار
قرار تحكيمي فرنسي لا تزال تبعاته ماثلة إلى حدّ اليوم. لذلك يدقّق الباب الثاني
من هذا البحث في ملابسات تولي بودن لرئاسة مجلس إدارة البنك الفرنسي التونسي
والآثار التي نجمت عن تغييب الشركة التونسية للبنك عن تسيير دواليب بنك
تملك نصف كتلة أسهمه.
يكشف البابان الثالث والرّابع من البحث
أدوار اللوبيّات الماليّة التي غرفت من قبل من محفظة البنك الفرنسي التونسي وكانت
تظنّ أنّها ستظلّ عصيّة عن المتابعة الإداريّة والمساءلة القضائيّة، في الذّهاب
بالشراكة إلى حيث مربّع القطيعة. وكان لابدّ للقضاء أن يضع حدّا لإيقاف هذا التوجه المبالغ فيه في إيثار مصالح المجموعة الاستثمارية على مصالح البنك الفرنسي التونسي. إلاّ أنّ جموح اللوبيّات الصّاعدة التي استغلّت
صعود زين العابدين بن علي إلى السّلطة، أبى إلاّ أن يفتكّ سلطة القضاء من قصر
العدالة ويفرّ بها إلى قصر قرطاج، محوّلا بذلك ممثل المجموعة العربية الدّولية
للأعمال من مخالف للتراتيب الصرفيّة إلى ضحيّة نموذجيّة لمعالجات أمنية بدائية
يستدرّ عطف هيئات التحكيم الدّولي.
وعوض نزول السلطة السياسيّة من علياء كبريائها
ومعالجة ملف التقاضي بما يخدم مصالح البنك ومساهميه، أطلقت العنان للوبيات
الماليّة تغرف من أموال البنك بلا رقيب ولا حسيب. وحاولت جاهدة التفريط في البنك
لناهبي أمواله لولا أن نجحت المجموعة العربية الدولية للأعمال في استصدار قرار
تحكيمي يلزم الدّولة بإطلاع الراغبين في خصخصته على فحوى النزاع الدولي.
يبحث البابان الخامس والسادس قدرة
اللوبيات المالية وأذرعها الإداريّة على فرملة كل محاولات الصلح التي أتاحتها
الثورة لكلا الشريكين كي يتجاوزا جراحات الماضي ويبنيا ثقة جديدة تعود بالنفع على
البنك المفلس وتفتح للمستثمر أبواب الاستثمار من جديد بعد أن عطّلتها مناخات
الدكتاتوريّة من قبل.
ويأتي البحث في باقي الأبواب على
خلفيّات توقف الشراكة قبل الثورة وبعدها، وقد أقرّ
المركز الدّولي لتسوية نزاعات الاستثمار بعدم شفافية المسار وتحدث عن تقاعس المفاوض
التونسي عن إثارتها قبل إعلان قرار مسؤولية المركز المذكور في فضّ النّزاع بتاريخ 18 أكتوبر 2011.
على أهميّة الشهادات التاريخية التي
اجتهد البحث الاستقصائي في توثيقها، على وجه الخصوص تلك التي تخصّ إطارات البنك
الفرنسي التونسي والبنك المركزي التي عايشت بدايات النزاع وتطوّراته أواسط
ثمانينيات القرن الماضي، فإنّ البحث ارتكز في مجمله على مادّة وثائقيّة ثريّة مثلت
عماد الفرضيتين المعروضتين على بساط التقصّي.
ويأمل الكاتب أن يكون هذا العمل فاتحة انخراط جاد لعموم المشتغلين على قصص الاستقصاء في مجهود تأليفي جديد يتجاوز مستوى التحقيقات
القصيرة، على أهمّيتها، عسانا ننجح في ضخّ روح بحثيّة وتأليفية جديدة تكون خير
انطلاقة لجيل جديد من الكتابة الاستقصائية في تونس والوطن العربي.