صدر تقرير المصرف المركزي الليبي عن
الميزانية
من 1 يناير وحتى 30 نوفمبر المنصرم للعام الجاري، ومع التأكيد على أهمية انتظام
المصرف المركزي في الإفصاح عن المالية العامة للدولة ووضع الإيرادات والنفقات، إلا
أن البيان يحتاج إلى مناقشة كما تحتاج الأرقام التي تضمنها لقراءة لتبسيط فهمها
للمعنيين بها وهم جل الليبيين.
أظهر البيان أن الإيرادات العامة خلال
الأحدى عشر شهرا بلغت 110.5 مليار دينار ليبي (السعر الرسمي الدولار 4.83 دينار،
وسعر صرفه في السوق السوداء 6.15 تقريبا)، وكان نصيب عوائد النفط نحو 86 مليار،
والإيردادات السيادية (الضرائب وما في حكمها) 3.4 تقريبا، بالإضافة إلى ما يزيد عن
21 مليار أتاوات نفطية نصفها عن سنوات سابقة، والمفترض أن اتاوات السنوات السابقة
لا تصنف كإيراد للعام الجاري، وبالتالي فإن إجمالي الإيرادات عن الفترة محل البحث
هي في حدود 100 مليار دينار.
جانب النفقات هو الأكثر إثارة للجدل
والنقاش، فقد بلغ إجماليها حتى 30 نوفمبر الماضي 92 مليار دينار تقريبا، والرقم
بالقطع أكثر مما عرضه البيان لعدم تضمين مرتبات شهر نوفمبر والتي تبلغ حوالي 5
مليار دينار، وأكد البيان أن المرتبات تشكل أكثر من 57% من النفقات العامة خلال
هذه الفترة.
وبلغ الإنفاق التسييري (نفقات الجهاز
الحكومي) 8.1 مليار دينار، وبلغ الدعم (المحروقات وعلاوات الزوجة والابناء ومنح
طلاب الجامعات ...الخ) 16.8 مليار دينار، وكان نصيب الانفاق على المشاريع التنموية
فقط 3 مليارات دينار، وظهر بندان في بيان النفقات العامة وهو ما أطلق عليه
الترتيبات المالية لصالح مؤسسة الكهرباء والمؤسسة الوطنية للنفط والتي بلغ
مجموعهما 14.4 مليار دينار.
والناظر بدون حتى تدقيق كبير يدرك أن
جانبي الإيرادات والنفقات في الميزانية يكشفان عن خلل واضح وتشوه مزمن في المالية
العامة للدولة وفي هيكل
الاقتصاد الليبي، إذ ما يزال الاعتماد على النفط كبيرا
ويمثل نسبة مرتفعة جدا من الإيرادات العامة، بينما لا تشكل الضرائب والرسوم إلا
نحو 3% من الإيردادات.
يظهر الخلل والتشوه أيضا في جانب
الانفاق الذي هو ذو طبيعة استهلاكية وبنسبة تصل إلى أكثر من 80%، فمخصصات التنمية
لم تتعد 3.5% من الانفاق العام، وينفق على الجهاز الحكومي المترهل ومتدني الكفاءة
نحو 10 مليارات دينار كمصروفات إدارية، دع عنك المرتبات التي تقترب من 60 مليار
دينار.
الوضع المالي غير مطمئن وأن السلوك الذي تنتهجه السلطة المالية (الحكومة) ودعمتها فيه السلطة النقدية (المصرف المركزي)، لا يؤسس لمقاربة احتواء الاختلالات ومعالجة التشوهات، بل على العكس، فالسلوك في إدارة المال العام يفاقم الاختلالات والتشوهات.
الأرقام تظهر أن هناك فائضا في
الميزانية العامة يبلغ 18.8 مليار دينار، وهو أقل من ذلك في حال احتساب مرتبات شهر
نوفمبر واستباعد الأتاوات النفطية عن الأعوام السابقة، عليه فإن الفائض سيكون في
حدود 3.5 مليار دينار.
الصورة تختلف تماما في حال النظر إلى
الإيرادات والنفقات بالدولار، فبحسب بيان المصرف المركزي فإن ما تم توريده للمصرف
بالدولار بلغ 22.3 مليار، فيما بلغ إجمالي الإنفاق بالدولار 32.8 مليار، أي أن
العجز في المدفوعات بالعملة الصعبة بلغ 10.5 مليار دولار!!
وهذا أحد مظاهر الاختلال والتشوه في
المالية العامة وفي اقتصاد البلاد، فالسجل المالي (الميزانية) يعطي صورة بأن الوضع
مستقر وأن فائضا يتحقق، فيما يكشف الوضع النقدي (ميزان المدفوعات) أن العجز هو سيد
الموقف دوما، وأن الهوة بين الايرادات والنفقات بالعملة الصعبة في ازدياد كل عام.
العجز بالدولار يتم تسديده من
الاحتياطي النقدي، والذي يكشف أحد أبرز إخفاقات المصرف المركزي في الإفصاح وأبرز
التحديات أمامه في دعوى الشفافية، إذ يصر المصرف المركزي على عدم الإعلان عن حجم
الاحتياطي النقدي لديه من العملات الصعبة وغيره، ولا كيفية التعامل معه.
والخلاصة أن الوضع المالي غير مطمئن
وأن السلوك الذي تنتهجه السلطة المالية (الحكومة) ودعمتها فيه السلطة النقدية
(المصرف المركزي)، لا يؤسس لمقاربة احتواء الاختلالات ومعالجة التشوهات، بل على
العكس، فالسلوك في إدارة المال العام يفاقم الاختلالات والتشوهات.