اعتدنا طيلة سنوات على رؤية
السيسي جالسا في الصف الأمامي وسط جوقته، منطلقا مُنشزا كيفما رأى وقتما يَعِنّ له. اعتدنا على ثأثأته وتلعثمه ووقفاته المسرحية الرديئة، للتشديد وتأكيد الأثر النفسي في ما لا يستحق عناء الكلام عنه، ناهيك عن الوقوف لديه. اعتدنا على أيمانه المغلظة، انفعالاته الغاضبة وضحكاته المجلجلة على سمج الكلام والتعليقات التي يحسبها نكات، في حين أنها تفتقر إلى أي فكاهة، وأن شيئا لا يضحك فيها سوى أنه هو من أطلقها، وربما لا يضحك منها سواه ومن حوله غصبا وخوفا ومجاملة.
من الجائز إذن أن نتحدث عن «أسلوب» للسيسي، فهذه الكلمة لا تعني بالضرورة الجودة أو الأصالة أو المضمون القيم، بل قد تشمل كل ما هو غث ورديء وتافه، فللنصابين والمحتالين وقاطعي الطريق أساليبهم أيضا، وقد تكون مبتكرة؛ ما الأسلوب إلا إطار ووسيلة إيصال. لكن لما كان السيسي كثيرا ما يرتجل بما هو صادم في خضم ظرفٍ اقتصادي غير مسبوق في قسوته، والأنكى أنه يزداد صعوبة، ولما كانت سبل التغيير مقفلة، على الأقل حتى الآن، فقد لجأ الناس إلى السخرية من كلامه، حتى حين (أو ربما كان من الأدق أن نقول خاصة حين) يكون كلامه صادما بصورةٍ مبالغة.
لذا، فقد اعتدنا أيضا على موجاتٍ من الهرج واللغط والسخرية الحادة، خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، عقب كل تصريح لاذع لوذعي من التي ينفرد السيسي ويختص بها، سرعان ما تنحسر على شاطئ العدم السياسي المتصحر، لتُخلي مكانا للمقبل، وإن كانت ردات الفعل تلك تحفر مكانا وتضاف إلى أخواتها في الذاكرة الجمعية التي تفهم وتتعلم الدرس ببطء من التجربة. على الرغم من كل ما سبق، فلا بد من الاعتراف بأن تصريحه الأخير عن «الوصفة السحرية» السهلة البسيطة لتدمير
مصر بصورة غير مكلفة، تتشكل من بضعة جنيهات وقبضة من المخدرات، فاقت الكثير مما صدر منها في الآونة الأخيرة، وشكلت تجويدا لافتا وفارقا على منوال خطابه الرث بصفة عامة؛ إلا أن ما يميز ذلك الخطاب هو توقيته، فمصر مقبلة على
انتخابات رئاسية خلال الشهرين المقبلين في وقت هو الأصعب، من دون جدال، على الشعب المصري حيث تبخرت الأوهام وتبددت الأحلام، وبات جليا ناصعا أن خيرا وانفراجا للظرف الاقتصادي الصعب لا يلوح في الأفق، وأن المقبل أسوأ لا محالة. لم تعد الوعود تُجدي ولا حتى بمسوغات الإعلام الطبلجي، بل بات سرا معلنا أن تعويما آخر للجنيه على الأبواب، ولا ينتظر السيسي سوى مرور المهرجان الانتخابي بنتيجته المعروفة سلفا لتمريره، بما يترتب على ذلك من ترد للأوضاع وسحق لطبقات عديدة. في ظل التصريحات العبثية واللغط الدائر والجعجعة الصاخبة، فثمة استنتاجات وصلت إليها، فلا أزعم أنها حقائق تملك ما للعلم من ثبوت ويقين وإلزام، لكنها مجرد قناعة:
1-يشعر السيسي (والنظام من ورائه) بتوتر قد يكون شديدا، ليس لأنه يواجه معارضة قوية منظمة، بل خوفا من المجهول، من اشتعال أو هبة عفوية، حقيقية وغاضبة، لا يُعرف مصدرها، إلا أن كل مؤهلاتها من فقر وسخط متوفرة بكثافة، لاسيما وأنه يعلم أن المقبل أسوأ لا محالة، فهو يدرك تماما أن التعويم سيضرب الناس عميقا ومؤلما، إلا أنه من ناحية، لأنه لا يعرف ولا يرى مسارا أو طريقا آخر، يجد نفسه مُجبرا عليه، كما أنه يقاوم بشتى الطرق التنازل عن ما يراها مكتسبات الجيش وحصته المتغولة في الاقتصاد، ولا أن يغير من نوعية مشاريعه ولا نمط إنفاقه تمشيا مع أوهامه ورؤاه، ولأنه يعلم أن أجهزة الدولة من جيش وشرطة وقضاء هي دعامته في البقاء في السلطة، في الحساب الختامي ولا يسعه إذن إغضابها.
2-على الرغم من رداءة تشبيهاته واستعاراته، فالسيسي واضح صريح في ما يخص العنف، وعن نيته غير المواربة والحاسمة في استخدام العنف؛ في الحقيقة، على كثرة ما تكلم و«طخ» فقد كانت تلك النية التي ترقى بحق لأن تكون مبدأ، ثابتة طيلة الوقت دون مواربة تذكر في خطاباته، فكثيرا ما حذر من القوة الغاشمة واستعداد وجهوزية الجيش للانتشار في عدد قليل من الساعات، ومن تأكيده أن يناير لن يتكرر. من الجائز تماما أن نقرر بأنه انضم إلى عداد ونادي الطغاة العرب الأشاوس، الذين يؤمنون بالمعادلات الصفرية: أنا أو الدمار والفوضى، ولعل ذلك يشكل الملمح الأساسي للتقارب بينه وبين نظام الأسد.
3ـ لقد أفلت زمام الاقتصاد من يد السيسي ورجاله تماما، فهم يرون ويدركون الهبوط (ومعه ما تبقى من الشعبية)، لكنهم كعادتهم في مثل هذه الأزمات والملمات ينتظرون «معجزة ما» كحرب تحرير الكويت أيام مبارك لتهبط عليهم المليارات من السماء.
4-لا يواجه السيسي معارضة حقيقية؛ هناك سخط عميق، ومحاولة للتجمع حول نواة، أيا كانت، إلا أنه لا يوجد أمامه في الساحة معارضة حقيقية منظمة قادرة. أعلم أن رأيي هذا بالتحديد قد لا يعجب الكثيرين وسيثير سخط البعض، إلا أنني أرى أن تلك المحاولات للتكتل حول الطنطاوي بالتحديد، لن تؤدي في القريب المنظور إلى تجمهر أو أعداد قادرة على الضغط الحقيقي على النظام، ولن تترجم إلى صراعٍ انتخابي حقيقي أو ساخن قادر على إحداث تغييرٍ عبر الصناديق، فليس هناك صناديق ولا انتخابات ولا يحزنون. بالطبع قد أكون مخطئا، إلا أنني أيضا لا أستطيع أن أستبعد أن محاولات الحشد تلك قد تصلح نواة لاكتساب الخبرات، ومن يدري، فقد تؤدي إلى تَخَلُقِ حركة لها شأن وثقل لاحقا، لكن ليس في القريب العاجل، وتحديدا ليس في هذه الانتخابات.
5- يتعرض السيسي للضغط والمراقبة، لكن من الخارج أكثر من الداخل، فالقوى الإقليمية والغربية على السواء تراقب أداءه المتردي، وهنا مكمن خوفه الحقيقي في رأيي: أن تصادف أي شرارة تضرم نيران السخط هنا وهناك قناعةَ القوى المتنفذة والمانحة «للأرز» بضرورة التخلص منه عن طريق انقلاب قصر، سواء بغطاء شعبي أم بعدمه.
لقد بت على قناعة من خلال تصريحات السيسي الخرقاء ورداءة الوضع الاقتصادي، بأن السيسي قادمٌ على مرحلة سيزيد فيها توتره من حماقاته وأخطائه، ومن ثم من لجوئه للعنف لأنه ليس لديه شيء آخر يعطيه، إنه يلعب في الوقت الضائع، ولعل جنرالاته يدركون ذلك، وستكون الفترة المقبلة في رأيي ساخنة، خاصة عقب الانتخابات وسنرى المزيد من العبث والتهافت.
(القدس العربي)