أضحكني صديق حدثني مؤخرا ومطولا عن الشأن العام في
مصر مباشرة، بعدما انتشر مقطعٌ قصير لجهبذ الزمان وفلتة العصر والأوان، وجواب البورجوازية المصرية، التي تمخضت عنه فلفظته من أعمق أحشائها، أمام التحدي الوجودي الذي هدد نفوذها وسطوتها؛ بالطبع أقصد «الرئيس»
السيسي، فمن غيره حاز تلك المناقب؟ فهو جديرٌ بمدح واعتراف كهذا، مُقر بألمعيته، وبالطبع أيضا أن الشأن المصري بما وصل إليه من ترد وإفقار وغياب للدور الفاعل والمفترض، خاصة حين يتعرض الشعب الفلسطيني لحرب إبادة بربرية، هذا الشأن برمته لا يُضحك على الإطلاق، أما السيسي، فالضحك في شأنه أمرٌ فيه نظر، كما سنبين.
والمقطع الذي أعني، (فالرجل يتكلم كثيرا ويُسف أكثر)، هو ذاك الذي استنكف فيه مشمئزا ممن يحاسبونه، ويُذكرهم بأن أحدا ليس له أن يفعل، أي يحاسبه، فقد أُعطِيَ هذه، أي مصر «خد دي» حسب قوله، ولم تكن تساوي الكثير (أو ربما شيئا كما يُفهم من كلامه)، وقد عبّر صديقي عن إحباطه وغضبه الشديدين، إلا أن ما أضحكني شخصيا من صديقي، هو اعترافه بأنه أحيانا يظن أن في الأمر خدعة أو تلفيقا، أي إنهم يركبون مقطعا صوتيا ينطق بهذه الترهات والهلاوس والحماقات على فيديوهات للرجل، إذ لا يُعقل أن يُقدِمَ عاقلٌ راشد، ناهيك عن رئيس دولة، مهما بلغت صفاقته أو حماقته على قول كل هذا العبث المجنون.
هنا تحديدا تكمن المشكلة، العقل والصحة الذهنية والتكوين النفسي، كانت ولم تزل قناعتي التي عبّرت عنها كتابة مرارا، أننا محظوظون نوعا ما «بالإسهال الكلامي»، الذي لا يبدو أن السيسي سيبرأ منه في أي وقتٍ قريب، من ناحية لأنه لا يرى حاجة أو مبررا لذلك، ومن ناحيةٍ أخرى لأنه يستمتع بسماع صوته، مستعذبا نشوته بذاته الممتلئة، ولأنه على الأغلب يرى أنه يستحق تلك الجائزة أو المكافأة على نجاحه في الوصول إلى سدة الحكم، فقد استثمر في الصمت طويلا، كالتقية في حالة الجماعات الباطنية، وكسب، لذا فمن حقه تماما، كالجالس على عرش مصر تجسيدا للإله أو لإرادةٍ عليا لا رادّ لها، أن يتحدث فيُسمع، ويقول ويأمر فيُطاع دون جدال، أو تشكيك. أما جانب الحظ، فلأن كلامه يفتح نافذة أو يلقي ضوءا على دماغه المعتمة تماما، بما يرتع فيها من أوهام ومخلفات الأفكار، وهو في المجمل مسل ومدهش بقدر ما هو مخيف. كما يتضح ويتأكد يوما بعد يوم، أنه ليس طاغية أو مستبدا عاديا، من الذين ألفناهم من أوباش العالم الثالث، بل هو مؤمن بنفسه وبحقه في الحكم تماما، بأن القدر والعلاقة الإلهية اختارته ليتصدى لهذه المهمة، فمن الذي يملك أن يعترض، من هو ذلك المارق؟ لذا فهو لا يضرب ويعتقل من منطلق البطش السلطوي، الذي اعتدنا فحسب، بل بالحق الإلهي المطلق أيضا. باختصار، إن كلامه يؤكد أن مشكلتنا أكبر وورطتنا أعمق، فنحن أمام شخصٍ معطوب نفسيا، وبعمق. ومن هنا، فعلينا أن نصدق بالفعل أنه يقصد، ويعني تلك الحوارات مع الذات العلية التي يسترسل في سردها، فهو مسكون فعلا بهذه التوهمات، وعلى الرغم من ضحالته وسطحيته المعرفية والفكرية، فهو لم يزل شخصية معقدة، تضطرب داخلها رواسب وأوهام وشهوات ونهم ورغبات في التعويض، في فوضى شاملة نعيش نحن جرائرها.
لكن ما استوقفني وأزعجني، بل أرعبني، هو ما ذكره عقب ذلك عن «البلدان» التي مات فيها جوعا قرابة الخمسة وأربعين مليونا من المواطنين، وقد تعجبت كيف أن الغالبية استوقفها وجرح مشاعرها الوطنية المتوهجة المحتقنة، وصفه مصر بالـ«ولا حاجة» و«خد دي» ولم يرُعها ضربه المثل بقرابة الخمسين مليونا، الذين قضوا جوعا في دعوة صريحة للناس أن تتحمل الضنك والجوع، وأن تموت إذا لزم الأمر في صمت. هذا هو ما يتوقعه السيسي منا، أن نموت دون «وجع دماغ» لكي نلحق بالبلدان التي «صارت في مكان ثان»، وبالطبع لم يتطرق للقصور التي يبنيها والطائرة الرئاسية والمشاريع الفاشلة، على سبيل المثال لا الحصر، فقد اتفقنا على أنه فوق النقد وغير محاسب، كما أنه لا ضمانات لديه (أو لدينا)، أن هذه التضحيات مضمونة النتيجة والعواقب.
في أطواره المختلفة، بين الحنون الناعم والمتوعد المخيف، لم يزل السيسي شخصية هزلية وهزيلة، وإن كانت معقدة، وكلما حاول وأجهد أن يؤخذ بجدية، أن يتلبس جلال التراجيديا لم يزد إلا هزلا؛ لكنه يفتح الباب لأسئلة عميقة ومعقدة، منها مثلا عن الحد الفاصل بين المأساة والمهزلة، ومتى تبتذل المأساة وتمسخ فتصبح ممجوجة، وعلى رأس هذه الأسئلة كيف أن هذا النظام أو ماكينة النظام التي خلقتها تموز/يوليو بآلياتها، تسمح وتمكن للجالس على الكرسي قادما من بطن الجيش، وإن كان مسخا أو مختلا، أن يسيطر تماما عاكسا كل أمراضه النفسية على المجتمع، مستفيدا من آلة جهنمية باطشة، أخصت المستقبل بضرب كل البدائل.
في ظل بطش ودموية النظام وغيبة القوى البديلة الحقيقية على الأرض، وخوف الناس من المزيد من الخسائر، خاصة وقد تيقن لدى الكثيرين أن الثورة لم تجلب سوى التردي، وإذا ما استمر السيسي في طريق البيع، واستمر المحيط الإقليمي والقوى الخارجية في دعمه بهذه الصورة، فقد يطول أمره. يراهن البعض على ما يشاع أو يصل إليهم من تململ ناشئ في أروقة القصر على تردي الأوضاع، وازدياد صعوبة المعيشة. أزعم أن أحدا لا يعلم يقينا صحة هذا الكلام، وقد يكون التمني وراءها ومبعثها، إلا أنني على يقين من أن نهاية عهد أو حقبة السيسي، مهما طالت، وما لم يمت فجأة، لن تكون سلمية، بل حادة بدرجات متفاوتة بين ضربة المشرط الجراحية المحددة، والسريعة الحاسمة، والانفجار، وفي كل الحالات سيكون هناك عنف ودم.
(القدس العربي)