خلال العقدين الماضيين، دارت نقاشات في الأوساط السياسية والأكاديمية
حول ما إذا كانت قوّة وهيمنة ومركزية الولايات المتّحدة في العالم تتراجع أم لا.
وبالرغم من أنّ سردية القائلين بأنّ الولايات المتّحدة ليست في حالة تراجع عالمياً
طغت خلال المرحلة الأولى ـ مصحوبة بتفسير مفاده أنّه حتى لو كانت قوّة الولايات
المتّحدة في تراجع، فهي لا تزال القوّة العظمى الوحيدة في العالم، ولا تزال تمتلك
ما يخوّلها تجديد نفسها لمواصلة الصدارة عالمياً ـ، إلا أنّ كل المؤشرات الواقعيّة
الحالية تخالف هذه السرديّة.
من الناحية الاقتصادية، فإن المشهد يتغيّر بشكل سريع من دون شك. ولا
يتعلق الامر فقط بالولايات المتّحدة، فهناك شبه إجماع على انّ الثروة كانت قد بدأت
تنتقل من الغرب الى الشرق بشكل سريع لاسيما خلال العقد الأخير. ويرتبط هذا المنحى
بشكل أساسي بصعود الصين السريع وتراجع الولايات المتّحدة، الأمر الذي أدّى الى
تجاوز الاقتصاد الصيني لنظيره الأمريكي ـ بالرغم من إنكار البعض لهذا الادعاء ـ
وتركيزهم على الترويج لتراجع الاقتصاد الصيني.
علاوةً على ذلك، تظهر أسماء صاعدة وواعدة على المستوى الاقتصادي من
بينها الهند والبرازيل، وهذا مؤشر إضافي على أن التوازن الاقتصادي العالمي آخذ في
التحول، وإذا ما استمر الإتجاه الحالي على وضعه مستقبلاً، فسيكون هناك تغيير
بالتأكيد. الولايات المتّحدة تعاني من عجز شديد في التجارة كما أنّ دولة لا تمتلك
المال وديونها هائلة وربما الأكبر على مر العصور، وكل ما هو قائم حالياً فيها اقتصادياً
ومالياً إنما يستند إلى موقعها ودورها الدولي وإلى استخدام عملتها النقدية الدولار
عل نطاق واسع في العالم. ديونها الهائلة، وعجزها التجاري، بالإضافة إلى تراجعها
العالمي كلّها عناصر تؤجّج النقاشات حول مستقبلها الاقتصادي.
وعلى الجبهة السياسية، تبدو الانقسامات في المجتمع الأمريكي اليوم
واضحة وعميقة على الرغم من انحصارها ظاهرياً بحزبين فقط الجمهوري والديمقراطي
ومحاولات السيطرة عليها. وتبدو الهوة بين الأيديولوجيات المختلفة أوسع من أي وقت
مضى، الأمر الذي يؤدي إلى انعدام الثقة المتزايد والمثير للقلق في المؤسسات
الحكومية على الصعيد الداخلي ومصداقية هذه المؤسسات على الصعيد الدولي. ويبدو أن
المشاركة المدنية، وهي حجر الزاوية في الديمقراطية، آخذة في التراجع بالتوازي مع
قضايا أخرى تتعلق بتزايد الاتجاه العنصري في المجتمع، والجدل الدائم حول نتائج
الانتخابات منذ عهد بوش الإبن على الأقل وحتى اليوم تساهم في تعميق المشكلة.
أحداث مثل الانتخابات الرئاسية المثيرة للانقسام لعام 2016 وما تبعها
من اقتحام لمبنى الكابيتول لم تصدم الأمريكيين فحسب، بل العالم، مما أثار تساؤلات
حول استقرار الأسس الديمقراطية في أمريكا. وحقيقة أنّ هناك رئيس يتجاوز عمره الـ 80
عاماً يحكم ما يفترض بها أنّها أقوى دولة في العالم علاوة على ترشّحه لدورة ثانية
يشير إلى الخواء السياسي لا إلى التجديد في القيادة. إذا ما أخذنا ذلك بعين
الإعتبار نستطيع أن نفهم لماذا تحارب المؤسسات الأمريكية إمكانية عودة أو صعود
ترامب إلى الحكم وتحاول تقويض فرصه في الترشّح بأي وسيلة ممكنة، بغض النظر عن
الموقف منه كشخص.
تبيّن بأن التواجد العسكري الأمريكي المكثّف في منطقة من المناطق ليس ضمانة بحدّ ذاته كما اتّضح بشكل جلي في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط.
التحديات الاجتماعية في الولايات المتّحدة ليست بأقل خطورة هي
الأخرى، فالتفاوتات الصارخة في الثروة، والتوترات العنصرية العميقة الجذور، وشبح
العنف المسلح الذي يطارد الأمريكيين والمجازر التي ترتكب باستخدام الأسلحة في
المدارس والمجمّعات التجارية والأماكن العامة بشكل دوري ترسم صورة لأمة تتصارع مع
ذاتها. ومن الصعب لامّة بهذا الشكل أن تستمر في تصدّر قيادة العالم على المدى
البعيد.
ومن الناحية العسكرية، وهي الناحية الوحيدة التي لا تزال تدعم إتجاه
المتمسكين بمقولة أنّ الولايات المتّحدة ليست في حالة تراجع، فعلى الرغم من أنّ
هيمنة الولايات المتحدة ما زالت بلا منازع إلى حد كبير، إلا أن الوضع آخذ هو الآخر
في التحوّل وإن بشكل أبطء من الوضع الإقتصادي. التكاليف الفلكية المرتبطة بالحفاظ
على مثل هذه القوة العسكرية، جنباً إلى جنب مع التقدم التكنولوجي السريع من قبل
الخصوم، تثير مخاوف مشروعة بشأن مستقبل التفوق العسكري الأمريكي.
وقد بدأت الولايات المتّحدة منذ عقدين بإعادة توزيع انتشارها العالمي
وتقليص تواجدها في الكثير من الأماكن حول العالم. علاوة على ذلك، فقد تبيّن بأن
التواجد العسكري الأمريكي المكثّف في منطقة من المناطق ليس ضمانة بحدّ ذاته كما اتّضح بشكل جلي في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط. كما ثبت بأنّ التفوّق
العسكري لا يجلب بالضرورة النصر السياسي أو حتى العسكري في بعض المواقف، وأنّ
القدرات العسكرية هي مجرّد أوراق من أوراق مختلفة يجب أن تكون متكاملة. الولايات
المتّحدة تخضع للمزاحمة في بعض القضايا العسكري لا بل انّ خصومها يتقدّمون عليها
في بعض الجزئيات مثل الصواريخ فائقة السرعة، وأسلحة الليزر المضادة للأقمار
الاصطناعية وتقنية الجيل الخامس وغيرها من البرامج.
ومؤخراً، يمكن ملاحظة أنّ موازنة الصين العسكرية في ازدياد، كما أقرّ
تقرير للبنتاغون بأنّ الصين أصبحت تمتلك أكبر بحرية في العالم وانتزعت المرتبة
الأولى من الولايات المتّحدة ليس في هذا المجال فحسب وإنما في مجال صناعة السفن
البحرية، وهو مؤشر مهم على استعداد الصين لتوسيع نفوذها بحراً بما يتماشى مع زيادة
نفوذها الاقتصادي عالميا.
وعلى المستوى الدولي، سواءً أدركت الولايات المتّحدة ذلك
أم لم تدرك، تتغيّر السردية القائمة ويبحث العديد من حلفاء الولايات المتّحدة عن
تنويع تحالفاتهم بدلاً من الإعتماد الحصري على واشنطن، وهو مؤشر على إدراكهم بأنّ
هناك تغييراً يحصل بالفعل. هناك شعور متنامي بأن النفوذ العالمي الذي كانت تتمتع
به أمريكا بلا منازع أصبح مهدداً بالفعل من قبل الصين وآخرين.
إلى أي مدى سيكون باستطاعة واشنطن تغيير هذه الحقائق، أو إلى أي مدى
سيتغيّر الوضع لصالح أمريكا من خلال أخطاء يرتكبها خصومها أو من خلال تعثّر صعودهم
الاقتصادي، يبقى أمراً غير معروف، لكن المراهنة عليه لتبرير سردية أن لا تراجع
أمريكي على المستوى الدولي سيكون بمثابة مقامرة في جميع الأحوال.