تكسير الدقائق عند بعض العرب، هو ما يسميه
البعض الآخر قتل الوقت، الذي هو الانشغال بأمر ليس عالي الأهمية، لملء وقت الفراغ،
ومنذ خروجه من قمقم القيادة العامة للجيش
السوداني، بعد أن ظل محاصرا فيه طوال
أكثر من أربعة أشهر، من قِبل قوات الدعم السريع التي تحارب الجيش منذ منتصف نيسان/
أبريل الماضي؛ فمنذ وقتها وعبد الفتاح البرهان قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة
السوداني، في حال تجوال مستمر على الحاميات العسكرية في الداخل وبعض العواصم:
القاهرة، جوبا، الدوحة أسمرا، أنقره و... البقية تأتي.
وكما هو متوقع، لم يحوِ أي بيان صدر عقب
زيارة أي من تلك العواصم إشارة إلى دعم طرف في الحرب، أو دعوة لاستمرار
القتال،
بينما ظل البرهان يردد خلال جولاته الداخلية على الحاميات العسكرية، أن الحرب لن
تقف ما لم يتم تدمير قوات الدعم السريع تماما، وعقب كل زيارة يحط البرهان رحاله في
ميناء بورتسودان على البحر الأحمر، الذي صار النسخة السودانية من بنغازي الليبية،
مقابل الخرطوم التي صارت طرابلس الغرب، بوصفها العاصمة الرسمية، وفي هذا اعتراف
غير معلن بأن الخرطوم ليست في قبضة الحكومة التي يجلس البرهان على رأسها، وصار
فيها الكل في الكل، منذ انقلابه على حلفائه المدنيين في تشرين أول/ أكتوبر من عام
2021، ثم انقلابه على شريكه في ذلك الانقلاب محمد حمدان دقلو قائد قوات الدعم
السريع أو انقلاب الأخير عليه في نيسان/ أبريل المنصرم، والدخول في حرب مدمرة
يصفها الطرفان بالعبثية، على ما في ذلك من إقرار بأنهما يمارسان "العبث"
بمقدرات السودان وأرواح مواطنيه.
منذ جلوس البرهان ودقلو في القصر الجمهوري؛
الأول رئيسا لمجلس عسكري ثم مجلس سيادة، والثاني نائبا له في المجلسين، شكلا
ثنائيا غايته الانفراد بكراسي الحكم، بعد إقصاء القوى المدنية التي جعلت دخولهما
القصر ممكنا، لأنها قادت الحراك الشعبي الذي هز عرش حكومة حزب المؤتمر الوطني
ورئيسه عمر البشير في أبريل من عام 2019، فاستشعر كبار القادة العسكريين الخطر
وانقلبوا على الحكومة وأعلنوا الانحياز للثورة الشعبية، وظلوا منذ الانحياز
المزعوم في حال صدام مع القوى المدنية، وصولا الى إقصائها من المشهد بانقلاب 2021.
منذ جلوس البرهان ودقلو في القصر الجمهوري؛ الأول رئيسا لمجلس عسكري ثم مجلس سيادة، والثاني نائبا له في المجلسين، شكلا ثنائيا غايته الانفراد بكراسي الحكم، بعد إقصاء القوى المدنية التي جعلت دخولهما القصر ممكنا، لأنها قادت الحراك الشعبي الذي هز عرش حكومة حزب المؤتمر الوطني ورئيسه عمر البشير في أبريل من عام 2019،
عقب ذلك الانقلاب ظلت الحكومة برأسين ولكن
بلا جسد، بعد ان فشل البرهان وحميدتي في إقناع أي شخص بقبول منصب رئيس الوزراء
وتشكيل حكومة، ومجريات الأمور تشي بأن الرجلين لم يعطيا الأمر الأهمية التي
يستحقها، لأنهما انشغلا بالكيد غير المعلن لبعضهما البعض، فقد أدرك البرهان بعد
طويل عناد وإنكار ان قيادات الجيش بكل رتبها غير راضية عن تنامي القوة العسكرية
للدعم السريع، وتمركزها في العاصمة بأعداد كبيرة، وتمتعها بمزايا واستثناءات
واستقلالية تجعلها ندا للجيش، بينما رفض حميدتي أي ترتيبات تضعه عسكريا تحت إمرة
البرهان، بعد دمج قواته في الجيش الوطني، فكان ان اشتعلت الحرب.
الحرب الدائرة في السودان الآن أشعلتها رغبة
البرهان في الانفراد بالسلطة، ورغبة حميدتي بدوره في ان يظل قائدا بلا منازع لقوات
الدعم السريع، لأنه يدرك أنها من جعلته رقما رئيسا في معادلة السلطة، ومكّنته من
جمع ثروة طائلة قفزت به من راع للمواشي ثم تاجر للدواب، إلى ملياردير بالدولار
الأخضر، وكل راصد أمين لمجريات حرب السودان، يرى كيف أن بلايين حميدتي جعلت قواته
سريعة الحركة وحسنة التسليح، وجعلته قادرا على تجنيد آلاف الشبان دون الثلاثين،
وتزويدهم بالمؤن والذخائر بكفاءة عالية، بل ان بعض ضباط الجيش النظامي الذين كانوا
منتدبين لدى الدعم السريع خلال شهر العسل بين البرهان وحميدتي، رفضوا العودة الى
حضن الجيش الذي ينتمون اليه بعد اشتعال الحرب، وقطعا لم يكن ذلك لأنهم يرون أن
حميدتي هو الأصلح لمقعد الرئاسة، ولكن لأن البقاء مع حميدتي عاد وسيعود عليهم
بالنفع المادي الجسيم.
إذاً هي حرب أشعلها التنافس على السلطة
والثروة، والبرهان مسنود بالقيادات العليا في الجيش، التي تدير مؤسسات وشركات
عملاقة تدر مئات الملايين، ولهم سهم كبير في عائداتها بوصفهم "العاملين
عليها"، وتنظر حال جنود الجيش خلال الحرب الحالية، ولا ترى فيهم أثرا لتلك
الملايين، أما حميدتي فمسنود برجال معظمهم دون الثلاثين ممتلئين عافية
و"ولاءً"، لأنه يسخو عليهم بالمال والطعام والكساء، وضمن بذلك ولاءهم له
ولعائلته، التي يتقاسم أفرادها المناصب العسكرية العليا، وينفردون بإدارة الشركات
التي تقوم باستثمار وتدوير أموال العائلة التي تنفق على القوات.
قلت في أكثر من مقال هنا في عربي21 إن نتيجة
الحرب في شهورها الثلاثة الأولى هي التعادل السلبي، ولكن انتقال البرهان ومعه من
أفلت من الخرطوم من كبار المسؤولين في
مختلف الوزارات إلى بورتسودان، فيه اعتراف صريح بأن العاصمة باتت فعلا وقولا في أيدي قوات الدعم السريع، في غياب ملحوظ منذ أيام الحرب الأولى لفرق مشاة الجيش
الوطني، وهي جريرة يتحملها البرهان، الذي حسب طوال زهاء أربع سنوات، أن وجود عناصر
الدعم السريع ومعظمهم من المشاة، يعوض نقص عدد المشاة في الجيش.
منذ إفلاته من حالة الحصار في الخرطوم
وتجواله خارج البلاد، والبرهان يرتدي مسوح رجل الدولة، ولكنه ما أن يحط رحله داخل
السودان، حتى يتحول إلى شخصية دون كيشوتية، يناطح الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي
والسلطة الحكومية الدولية للإنماء والتصحر (إيغاد)، ويوزع صكوك
"الخيانة" على أهل الداخل المنادين بوقف الحرب، (بينما يعلن في الخارج أن الحرب يجب أن تقف بالتفاوض)، وكل ذلك وقلبه وعينه على الخرطوم، التي لابد منها
وإن طال السفر، فهي حيث الرئاسة والقيادة، وسيظل يمارس تكسير الدقائق إلى أن يدبر
وسيلة للتسلل إلى الخرطوم ليرتدي زي قائد الجيش مجددا..