يشعر العكيون بالراحة الشديدة وهم داخل مدينتهم الساحلية شمال
فلسطين، والتي تحميها عدة
أسوار تاريخية كانت كفيلة بهزيمة كل غاز لهذه المدينة وأشهرهم
نابليون بونابرت في العام 1799م.
وأصبحت الأسوار جزءا من
هوية الشعب الفلسطيني، حيث إن معظم المدن
الفلسطينية كانت محاطة بهذه الأسوار سواء القدس أو غزة أو غيرها من المدن منذ
الفترة الكنعانية وتعززت لاحقا وكان أشهر هذه الأسوار سور
عكا العظيم.
وارتبط تاريخ مدينة عكا بتاريخ أسوارها المنيعة والتي كان لها الدور
الأكبر في تسطير تاريخ المدينة عبر أكثر من أربعة آلاف سنة.
وقهرت عكا في العام 1799م على أعتاب أسوارها نابليون الذي تحطمت
أحلامه بالقضاء على الإمبراطورية العثمانية آنذاك، لتبقى مقولته المشهورة مدوّنة
ليسجلها التاريخ: "لقد تحطمت أحلامنا على أسوارك يا عكا... لقد أنستني عكا
عظمتي، لو سقطت عكا لغيرت وجه العالم، فقد كان حظ الشرق محصورا في هذه المدينة
الصغيرة... لو لم أقف أمام عكا لاستوليت على الشرق بكامله".
وأكد عبده متى، مؤرخ للذاكرة الشعبية في عكا أن لمدينة عكا سوران
بنيا في الفترة العثمانية الأول هو السور الداخلي الذي بناه الظاهر عمر الزيداني
في أواسط القرن الثامن عشر ومعدل عرضه من متر إلى متر ونصف وهو السور الذي أوقف
تقدم نابليون عام 1799م بعد زحف من مصر إلى فلسطين ليهزم على أعتاب أسوار عكا.
عبده متى مؤرخ للذاكرة الشعبية في عكا
وقال متى لـ
"عربي21": "يوجد سور آخر بني بعد محاصرة
نابليون لعكا ما بين عام 1799م إلى 1804م، حيث تم بناء سور خارجي جديد معدل عرضه 18 مترا وفي مقاطع عرضها ستين وخمسين مترا".
وأوضح أن بعض الزخرفات الموجودة على مدخل السور وعند نقطة التفتيش
حاليا هي عبارة عن بناء جميل جدا، مشيرا إلى أن عندها يتم فحص الداخل والخارج
للمعسكر العثماني الذي كان موجودا على السور الجديد الخارجي.
وأكد أنه يوجد على السور 6 مدافع و4 راجمات من القرن التاسع عشر
ويوجد فتحات في السور وهي فتحات مدافع سور عكا يحيطها من 3 جهات الشمال والشرق
والجنوب بينما الجهة البحرية يوجد عندها السور البحري الذي بني على يد أحمد باشا
الجزار والي عكا نهاية الفترة في القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر.
وأوضح أن السور الجديد الذي بناه أحمد باشا الجزار يعد من الأسوار
السميكة التي يتراوح سمكها بين 20 مترا إلى 60 مترا لذلك فإن معدل عرضها 18 مترا
بينما سور الصين مثلا عرضه 9 أمتار وسور القدس عرضه متران لكن سور عكا عرضه 18 مترا.
وقال متى: "يمثل السور بالنسبة لأهل عكا عبارة عما يشبه رحم
الأم المدينة هي الأم والسور هو الرحم، فيشعر ابن عكا بأمان وفي نفس الوقت يشعر
بفخر وبقوة السور".
وأضاف: "العكيون في داخل الأسوار عندهم طبع الصمود والفخر
والاعتزاز وقوة الانتماء لعكا".
واعتبر أن الأسوار ظاهرة فريدة من نوعها لزوار المدينة خاصة عرض
السور نفسه.
وأشار إلى أنه من السور يمكن مشاهدة منطقة رأس الناقورة على الحدود
اللبنانية، وجبال الجليل الأعلى والجليل الأسفل، وفي منطقة أيضا يمكن رؤية الناصرة
في يوم صافي من الجنوب يوجد جبل الكرمل ومن الغرب البحر المتوسط.
وأوضح المؤرخ للذاكرة الشعبية في عكا أن الموجود داخل السور ليس
قلعة، ولكنه مخزن للأسلحة والذخيرة التي كانت موجودة ومركز القيادة أيام الحرب
عبارة عن بو نكر (ملجأ) داخل السور.
وأشار إلى أنه في مقطع السور الذي عرضه 60 مترا والبرج الموجود أعلى
هذا الملجأ يسمى برج الكومندار من أقوى أبراج عكا.
وقال: "اليوم هذا البونكر (الملجأ) تم تحويله إلى متحف، وكان
يسمى أم الأربعة وأربعين من كثرة الغرف الموجودة داخله.
وأضاف: "يعرف العكاوي هذا الموقع جيدا، وقد تم تحويله اليوم إلى
متحف يعرض فيه ما تم نهبه من التراث الفلسطيني والسوري وأي شيء من الماضي القريب
من سنوات الثلاثين تم نهبه من المدن والقرى، ويحمل المتحف اسم (كنوز في الأسوار).
وقالت الباحثة في التاريخ الفلسطيني نريمان خلة: "من حق العكيين
أن يفخروا بأسوارهم وصمود أجدادهم في وجه الغزاة، لا سيما الحملة الفرنسية".
وأضافت خلة لـ
"عربي21":" كانت هذه الأسوار موجودة
على مدار التاريخ في القدس وغزة ومعظم المدن الفلسطينية، ولكن شهرة عكا بأسوارها
جاءت من هزيمة نابليون بونبارت قائد الحملة الفرنسية على الشرق الأوسط".
نريمان خلة.. باحثة في التاريخ والآثار
وأشارت إلى أن هذه الهزيمة دونها التاريخ بأحرف من نور لأن هذه الأسوار
حافظت على هوية الشعب الفلسطيني الذي عرف بصموده ودحره لكل الغزاة المحتلين.
وشددت على أنه لو لم تفشل هذه الأسوار الحملة الفرنسية وتحطم أحلام
نابليون على أعتابها لتغير وجه التاريخ الآن ولكان الوطن العربي والإسلامي مثل
القارة الإفريقية بيد المستعمر الفرنسي الذي لا يزال يستولي على خيراتها.
ودعت خلة وزارة التربية والتعليم إلى تدريس مادة أسوار عكا إلى طلاب
المدارس لكي يعرفوا تاريخهم وحضارتهم ويفتخروا بأجدادهم الذين بنوا هذه الأسوار وأحسنوا
استخدامها.
وأكدت على ضرورة العمل على معرفة ما يوجد في داخل متحف كنوز في الأسوار
الذي هو تحت سيرة الاحتلال وتكثيف الزيارة له من قبل الطلاب الفلسطينيين.
وقال ماهر زهرة، المرشد السياحي والباحث والمختص في تاريخ وحضارة
عكا: "ارتبط تاريخ عكا بتاريخ أسوارها المنيعة والتي كان لها الدور الأكبر في
تسطير تاريخ المدينة عبر أكثر من أربعة آلاف سنة حتى صدق فيها المثل الشعبي (يا
خوف عكا من هدير البحر)".
وقال زهرة لـ
"عربي21": "كان أول عمل جدي في تحصين
مدينة عكا في عهد حاكم مصر الفاطمي أحمد بن طولون عام 877 م وفي حينه أشرف على إعمار
الأسوار المهندس المقدسي أبو بكر البناء.
وشدد على أن أسوار المدينة القائمة اليوم تم بناء غالبيتها في القرن
الثامن عشر والتاسع عشر".
وقال: "أسوار عكا وتحصيناتها لم يكن بنائها حصرا بحاكم أو بحقبة
تاريخية إذ أنه ساهم في بنائها العديد من قادة وحكام المدينة عبر أكثر من 4000
سنة، إذ جرت العادة بعد كل حصار واحتلال أن يقوم المحتل بإعادة تحصين المدينة من
خلال إعادة البناء وعادة من خلال استعمال الحجارة ذاتها من نفس الموقع".
وأضاف: "التحصينات وأسوار المدينة القائمة اليوم حول مدينة عكا
تعود لحقب تاريخية مختلفة، الا اننا يمكننا تحديد خطين من التحصينات والاسوار
قائمة اليوم بشكل واضح وهي أسوار ظاهر العمر (1750- 1775)، وأسوار وتحصينات أحمد
باشا الجزار (1775- 1804).
وقال زهرة: "قام ظاهر العمر بتشييد سور حول المدينة من البر
والبحر(1750- 175)، وشيدت هذه المباني على أنقاض مبان وأسوار صليبية، إلا أن هذه
الأسوار كانت ضعيفة نسبيا لم يتعد عرضها المتر الواحد في حين بلغ ارتفاعها بين (7- 12م) ولم تشمل الأنفاق والخنادق".
وأضاف: "كان الهدف من هذه الأسوار حماية المدينة من قراصنة
البحر وسطو عصابات البدو، وليس لحماية المدينة من هجمات الجيوش النظامية، وكان
للمدينة بوابتان، بوابة الأسود أو دمشق في الجنوب الشرقي للمدينة وبوابة السرايا
في الزاوية الشمالية الغربية للمدينة بمحاذاة البحر".
وحرض والي عكا أحمد باشا الجزار (1775- 1804) بحسب زهرة على تحصين
المدينة للصمود أمام كل حصار يفرضه عليه أعداؤه. لذلك، قام ومنذ بداية عهده بتحصين
المدينة وشيد حولها سورا ضخما على مسافة 15 متراً من السور الداخلي (سور ظاهر)،
وفيه تسعة أبراج للمراقبة أبرزها: برج كريم، الحديد، السنجق، كابو (مقابل البوابة
الأثرية)، برج الذباب (المنارة)، برج السلطان وبرج الكومندار، وذلك لرصد طرق البر
والبحر، اضافة الى الحصون والقلاع.
وقال: "على برج الذباب القائم على مدخل الميناء أقام سرية
عسكرية خاصة مزودة بالمدافع والزوارق. كما وأقام في داخل الأسوار مخازن خاصة
لتخزين الذخائر والمؤن واستغلت الخنادق للتدريبات العسكرية، واعتبرت الأسوار منطقة
أمنية يحظر دخولها لغير الجنود، وقد أثبتت هذه الأسوار مناعتها في صمودها أمام
حصار نابليون للمدينة".
وأضاف: "كانت أسوار الجزار أسوارا ضخمة شملت مرابض للمدفعية،
مؤكدا أنه أثناء الحصار الفرنسي لعكا بلغ عدد المدافع نحو250 مدفعا، وخندقاً حول
الأسوار وصل عمقها إلى ثمانية أمتار".
واستعرض الباحث في تاريخ عكا بقية الأسوار خلافا لأبراج العمر
والجزار مثل: أسوار سليمان باشا العادل (1804- 1818)، عبد الله باشا الخزندار (1819- 1831)، وإبراهيم باشا (1831- 1840).
وقال: "أعجب ابراهيم باشا بعد احتلاله مدينة عكا بمناعة أسوارها،
وقرر جعلها قاعدته العسكرية في بلاد الشام، وكان حصاره للمدينة قد أضر بتحصينات
المدينة خاصة التحصينات البحرية بالقرب من الميناء، لذلك قام بإعادة تحصين المدينة
من جديد وترميم ما تضرر، وأقام على الأسوار غرفاً خاصة لحرس الأسوار، وحفر الأنفاق
والمعابر السرية داخل الأسوار".
وأضاف: "وفي أعقاب حصار الأسطول الإنجليزي للمدينة وطرد إبراهيم
باشا من عكا، تضررت أسوار المدينة بصورة بالغة خاصة بعد أن أصابت إحدى قذائف الأسطول
خان الحمير الذي خزنت به الذخائر مما سبب انفجاراً ضخماً أحدث دماراً كبيراً في
المدينة وحسم سقوط المدينة.
وتابع: "بعد طرد الإنجليز لإبراهيم باشا، عادت عكا للحظيرة
التركية، وأعيد ترميم الأسوار من جديد إلا أن هذه الأسوار فقدت دورها الدفاعي في أعقاب
التقدم في التقنية الحربية".
وأشار زهرة إلى أنه وفي عام 1908م أمر السلطان العثماني بفتح ثغرة
كبيرة سور المدينة وتعبيد طريق عام ليربط بين المدينة القديمة والمدينة الحديثة
التي أذن ببنائها في العام ذاته.
واضح أن هزيمة نابليون كانت في عهد أحمد باشا الجزار الذي وقف من على
أسوار مدينته يضحك حتى القهقهة عليه وهو يجرجر ذيول الهزيمة، بعد أن اندحر أمام أسوار
عكا.
وأضاف: "وقف مرض الطاعون إلى جانب الجزار كما وقف الشتاء بجانب
الروس في هزيمة نابليون على أبواب موسكو".
وأوضح أنه بعد احتلال نابليون مصر في بداية حملته عام 1798م تقدم
منها نحو يافا ووصلها في السابع من تموز/ يوليو من نفس العام، وبعد حصار المدينة
اتفق مع أهلها التسليم وإلقاء السلاح بشرط ضمان أرواحهم ومعاملتهم كأسرى حرب.
فأعطاهم الأمان، وبعد دخوله يافا، أمر بقتل الحامية والتي تبلغ 4 آلاف.
وقال: "ارتكب نابليون بسكان مدينة يافا أبشع الجرائم من اغتصاب
وقتل وسلب وصلب ونهب، وترك جثثهم على الأرض بدون دفن في أحياء المدينة، مما تسبب
بانتشار الطاعون في المدينة وبين جيشه".
وأضاف: "بعد الاستيلاء على يافا تابع نابليون طريقه شمالا نحو
عكا، ولاحقت لعنة ضحايا يافا جيشه حتى عكا إذ انتشر الطاعون في جيشه وأبى إلا
الانتقام منه في ظل حصاره لقلعة عكا".
وتابع: "بعد وصول الجيش الفرنسي مشارف مدينة عكا وفور وصوله أقام
حولها الحصار، وبدأت المدافع الفرنسية تصب حممها على قلاع المدينة وأسوارها، وبعد
حصار دام 62 يوما فشل نابليون وجيشه ومدافعه في اختراق أسوار المدينة المنيعة
والدفاع البطولي لحاميتها".
وأوضح أن وباء الطاعون فتك بنحو 70% من جيش نابليون وقد انتشرت جثثهم
على ضفاف نهر النعامين جنوبي المدينة وعلى امتداد ساحل عكا.
وقال: "وبعد أن فشلت كافة المحاولات لاحتلال المدينة ورفض
الجزار إبرام أي اتفاقية لتسليم المدينة، قرر نابليون فك الحصار عن المدينة
والعودة إلى مصر يجر أذيال الهزيمة".
وأوضح أن نابليون أمر جنوده برمي ما بقي معهم من قذائف على المدينة
وأبنيتها، لا سيما قصر الجزار والمنطقة المحيطة به انتقاما مما ألحق دمارا كبيرا
في أبنية المدينة خاصة جامع الجزار، كما أنهم تخلصوا من أسلحتهم الثقيلة خوفا من أن
تعيق عودتهم إلى مصر إذ القوا بمدافعهم الثقيلة وعتادهم وأسلحتهم للبحر تاركين عكا
والفشل والخسارة تلاحقهم.
وبفشل نابليون أمام أسوار عكا تحطمت أحلامه بالقضاء على الإمبراطورية
العثمانية، لتبقى مقولته المشهورة مدوّنة على صفحات التاريخ: (لقد تحطمت أحلامنا
على أسوارك يا عكا... لقد أنستني عكا عظمتي، لو سقطت عكا لغيرت وجه العالم، فقد
كان حظ الشرق محصورا في هذه المدينة الصغيرة... لو لم أقف أمام عكا لاستوليت على
الشرق بكامله)".