الكتاب: شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر بن عاشور- حياته و آثاره
الكاتب: د. بلقاسم الغالي
الناشر: دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت لبنان
عدد الصفحات: 264 صفحة
1
في الكتابة حول الشيخ محمد الطّاهر مفارقة. فرغم كثرة المؤلفات حول
منجزه، يندر أن نجد عرضا له لعامّة مسيرته. فيتّبع خيطا ناظما ويقدّم رؤية تأليفية
لها. ولعلّ ذلك أن يُردّ إلى تعدّد مجالات اهتمامه وتميّزه فيها جميعا. فقد كان
الباحثون يقدّمونه كلا من زاوية اختصاصه واهتمامه. أما الباحث بلقاسم الغالي، فقد
اختار أن يسلك هذا المسلك، فيتدرج من سمات العصر وطبيعة النشأة ويعرض مختلف وجوه
تميّزه ويتبسط في الإشارة إلى مؤلفاته. فيعرّف القارئ بشخصية العلامة ابن عاشور
تعريفا وافيا ومبسّطا في الآن نفسه. ويمدّ الجسور بين اهتماماته المختلفة.
2
تمثّل خصائص العصر من أهمّ الروافد التي هيأت الشيخ محمد الطاهر بن
عاشور ليكون الفقيه المجتهد المصلح. منها السلبي كضعف الخلافة العثمانية وتمزّقها
إلى دويلات، وحالة الركود الفكري والاقتصادي والاجتماعي التي تعيشها. ولم تكن
الإيالة
التونسية بمنأى عن هذا التّدهور. فقد أثقل العبث بمقدرات الدولة والفساد
والارتشاء كاهل الأهالي بالضرائب والمكوس، فعرفت البلاد الاضطرابات والفتن وعرفت
التّدهور الاقتصادي وتراكم الديون الخارجية. ومنها الإيجابي ذو الصلة بظهور
محاولات في النهوض والإصلاح، مثل بروز المدرسة الإصلاحية المغاربية في القرنين
الثامن عشر والتاسع عشر للميلاد، ممثلة في فكر كل من الشيخ إسماعيل التميمي ومحمود
قبادو وعبد الحميد بن باديس ومالك بن نبي ومحمد الحجوي ومحمد الأمين الشنقيطي، أو
ظهور المدرسة الأفغانية ممثلة في فكر جمال الدين الأفغاني في القرن التاسع عشر،
وقد عقد صلات مختلفة برجال الإصلاح وتفاعل مع منجزهم.
ولحياته الأسرية، فضل في نحت شخصيته
العلمية والوظيفية. فتُردّ شجرته العائلية إلى محمد بن عاشور المولود بمدينة سلا
المغربية، بعد أن خرج والده فارا من حملة التنصير 1698م التي واجهها الموريسكيون
بعد سقوط الأندلس. أما جده المباشر، الذي أخذ عنه اسم محمد الطاهر بن عاشور
المولود في 1815م، فقد تقلد مناصب مهمة في البلاد التونسية؛ كالقضاء والإفتاء
والتأليف في الفقه. وكان له دور في بروز شيوخ أفاضل تلقوا عنه المعارف.
ثم تقلد الوظائف العليا كالوزارة والقضاة، ومن أشهرهم محمد العزيز
بوعتور والشيخ يوسف جعيط والشيخ أحمد بن الخوجة والشيخ سالم بوحاجب والشيخ محمد
بيرم. ويذكر عنه ميله إلى النظر العقلي في مسائله ومما يؤثر عنه قوله: "لا
يعجبني أن أقول هكذا قال الفقهاء، وما يمنعني أن أعلم الدليل كما علموه؟".
وتقلد والده محمد بن عاشور بدوره المناصب الوظيفية المهمة، مثل رئاسة مجلس دائرة
الأوقاف.
ومن البديهي أن يكون الذاتي والخاصّ عاملا يفسّر تفوق العلاّمة محمد
الطاهر بن عاشور على أبناء جيله من مشائخ الزيتونة كأصالة العقل، وقوة الحافظة
والإقبال على دراسة علوم الشّريعة بعمق واطلاع على البيان. فكان فقيها موسوعيا
مجتهدا وأديبا بليغا ناقدا.
3
يقدم لنا الباحث بلقاسم الغالي إسهام العلاّمة الفاعل في مبحث
التفسير. فقد كان للشيخ ابن عاشور، صاحبِ الأبعاد المتعددة ومؤلف "التحرير
والتنوير" الأثر المميز الذي صدر في مجموعة واحدة تتركب من 30 جزءا في 15
مجلدا، شغفٌ بعلم التفسير؛ فحقّق مسائله، وتابع أحكامه واطلع على آراء المفسرين
قبله، ولم يكتف بأقوالهم، بل أتى بأفكار أصيلة واجتهادية. وبفضله اتسعت آفاقه، فأدرك مقاصد الكتاب الكريم، وألمّ بأهدافه وأغراضه، واستلهم هديه وبيان وجوه إعجازه، وفق اتجاه بلاغي أقرب إلى المدرسة الزمخشرية وفق الباحث، وهذا ما ميزه عن مختلف
التفاسير وساعده على فهم أسرار الشريعة ومراميها، حتى غدا "دائرة معارف
للثّقافة الإسلامية".
ومن ثوابت منهجه في التّفسير، تحليل مفردات آي القرآن بدقة، بما يوشك
أن يكون من صميم عمل الباحث المعجمي والوقوف عند التّطور التاريخي للمفردة الواحدة، ودعم ما يذهب إليه بأدلة من الشعر العربي، ومن القرآن والسّنة والتّمييز في
استعمال المفردة بين الحقيقة والمجاز وبين المعنى الصّريح أو الكنائي الإيحائي.
وكان يراعي في ذلك حدود المنطق السليم في الفهم والتأويل. ومثال ذلك، قوله عند
تفسيره الآية 18 من سورة الحج: ﴿ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض
والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه
العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء﴾، "فالسجود معنيان
حقيقي وهو وضع الجبهة على الأرض، ومجازي وهو التّعظيم والتّقديس. وقد استعمل فعل
يسجد هنا للمعنيين الحقيقي وهو سجود الناس والملائكة، والمجازي كالشمس والقمر
والجبال".
4
ويمثل علم الحديث المجال الثاني الذي أسهم فيه صاحب الأثر "كشف
المغطى في أحاديث الموطأ" إسهاما بيّنا، رغم أنّ قلة من الباحثين فقط اطلعوا
على منجزه في هذا الباب. وينزّل بلقاسم الغالي المبحث ضمن الاهتمامات الأثيرة عند
أهل بر تونس عامة، مبرزا إبداع الشيخ فيه رواية ودراية، مؤكدا أنه "امتاز
بإضافات علمية ذات بال، لا تقل قيمة عما قام به أئمة هذا العالم"، آيته النظر الفسيح، وتحقيقاته لأحاديث شائعة حول
مداها من الصحة، وفي توصياته المتميزة لعلماء الحديث في هذا العصر.
يمثّل الرائد المصلح الوجه الأكثر جاذبية في سيرة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور. فقد كان العلاّمة صاحب مشروع إصلاحي شامل يعمل على إصلاح المسلم فردا ومجموعة. وكان قد تأثر فيه بروّاد الحركة الإصلاحية، خاصة من قبل الشيخ محمد عبده.
ويظهر اهتمامه بالحديث في عامة مؤلفاته. فدرس "كتُبَ الحديث
الستةَ. وأخذ عنها. ونقد الرّواية متنا وسندا، معتمدا مصادر مختلفة، وجعل صحيحي
البخاري ومسلم على رأسها. وكان يستند في كل مسائل بحثه إلى الحديث النبوي بقدر ما
يستند إلى النص القرآني. وعامة "في مثل هذا المناخ الفكري الذي يزخر عناية
بالسنة النبوية، نشأ شيخ الإسلام محمد الطاهر بن عاشور، فارتضع لبان السّنّة وحفظ
الأحاديث وحقّق المسائل، واستقل بأسانيد، ونال الإجازات الحديثية. وعلم الحديث يشكل
جانبا مهما من جوانب فكره، انصرف إليه باعتباره المصدر الثاني من مصادر التشريع
الإسلامي".
5
الوجه الثالث الذي عرف به الشيخ ابن عاشور هو الفقيه المجدّد. فقد ولج
باب الاجتهاد في غير تردد؛ فنقد تأخر علم أصول الفقه وأبدى أكثر من احتراز حول
مآله، من ذلك توسيعه توسيعا أدخل فيه ما لا يُحتاج إليه وليس من صميمه، فاختلط
بالمنطق واللّغة والنحو والكلام. ومن ذلك أيضا، تدوين قواعد الأصول بعد أن دُوّن
الفقه، فكان أن تخالفت الأصول وفروعها في كثير من المسائل، فضلا عن اشتمال هذا
العلم مباحث لا طائل من ورائها، ويرى أنّ الحال الذي بات عليه هذا العلم، كان سببا
في تخلي علماء الإسلام عن الاجتهاد وقعود عنه، وأسهم بالنتيجة في تخلّف الفكر
الإسلامي، منتقدا قلة حظ أئمة
جامع الزيتونة من هذا العلم.
وأولى مقاصد المقاصد الشّريعة كل اهتمامه و"الشيخ نادرة عصره في
هذا العلم من الناحية التاريخية"، فكان أهم من لفت النظر إلى مباحثه في التاريخ المعاصر، بما جعل منه لاحقا
مادة من مواد الجامعات الإسلامية استدرك فيها على الفحول. وأسهم في الإفتاء وتميّز
فيه. ولكنه واجه محنة فتوى التجنيس، وملخصها أنّ الاستعمار الفرنسي أصدر قانونا
يتيح لمن يرغب من التونسيين التجنس بالجنسية الفرنسية. فلقي معارضة شديدة من
الوطنيين. وتم تكفير المجنسين ومنع دفنهم في مقابر المسلمين. ويؤاخذ الشيخ على
الفتوى الصادرة عن محكمة "الشريعة" التي تؤكد أن المسلم الذي يتبنى
جنسية بلد غير مسلم هو مرتد، لكنها تستدرك بقبول توبته قبل موته والسماح بدفنه في
هذه المقابر. ويذهب الباحث إلى أنّ الشيخ بريء من هذه الفتوى التي محن بسببها، وأن
المصادر التي عثر عليها تثبت أنها نسبت إليه على الصيغة التي راجت بين الناس، للحد
من إشعاعه.
6
ويمثّل الرائد المصلح الوجه الأكثر جاذبية في سيرة الشيخ محمد الطاهر
بن عاشور. فقد كان العلاّمة صاحب مشروع إصلاحي شامل يعمل على إصلاح المسلم فردا
ومجموعة. وكان قد تأثر فيه بروّاد الحركة الإصلاحية، خاصة من قبل الشيخ محمد عبده.
ومما صنّف في الإصلاح الاجتماعي ووصله بمبادئ الإسلام كالعدل والتسامح، "أصول
العلم الاجتماعي في الإسلام"، و"الوقف وآثاره في الإسلام".
ولإصلاح المجتمع في تصوّر الشيخ ابن عاشور سبيل آخر أكثر فاعلية هو
البعد التربوي، فحاول تشخيص أسباب تأخر التّعليم الزّيتوني، وأحوال تلاميذه، وعمل
على إصلاح مناهجه التربوية وتبنى فيها الآراء الجريئة، وحاول نشر التعليم الزيتوني
في تونس والجزائر، حتى بلغ عدد التلاميذ بالآلاف، وعرّج على المؤلفات فأظهر مساوئها، ونقد المعلمين وأشار إلى طرقهم العقيمة، ونقد العلوم الإسلامية وبيّن طرق النهوض
بها، وكانت حماية البلاد من حملة التغريب التي عزمت عليها فرنسا يومئذ، من بين
أهداف مشروعه الإصلاحي التربوي.
7
ويبقى فكر الشيخ الأدبي واللغوي الجانب الذي يغيب عن الكثير من دارسيه، وعليه فقد تطرّق الباحث إلى القضايا اللغوية والأدبية في فكره، وإلى اهتمامه
بالصور البلاغية والشواهد الشّعرية ومعالجته لأسباب ضعف اللغة العربية، واقتراحه
أساليب مختلفة لعلاجها. وانتهى إلى أن محمد الطاهر بن عاشور كان حجة في علوم
اللّسان، عارفا بأسرار اللغة، ملمّا بمذاهب الأدب والنقد، مجتهدا في تحقق نفائس
المخطوطات، فحقّق النُّسخ الفريدة لروائع الأدب والشعر وأثار القضايا الأدبية
والنقدية. ومن آثاره في هذا المبحث: "اللغة العربية وآدابها"، و"أصول الإنشاء والخطابة"، و"موجز البلاغة"، وشرح لمقدمة
المرزوقي، وشرح ديوان الحماسة، وشرح قصيدة الأعشى، وشرح معلقة امرئ القيس. ومما حقّق: "الواضح في مشكلات شعر المتنبي" لأبي القاسم الأصفهاني، و"قلائد
العقيان في محاسن الأعيان" للفتح بن خاقان القيسي، و"سرقات المتنبي ومشكل
معانيه" لابن بسام، وشرح القرشي على ديوان المتنبي.
8
لقد أراد الباحث بلقاسم الغالي لكتابه أن يكون "شاهد وفاء لمفكر
مصلح کرّس جهوده من خلال جامع الزيتونة؛ لانتشال أجيال من الجهل وتنوير العقول من
الخرافات والبدع وترسيخ قواعد الشريعة، رغم محاولات أشياع الفساد لإطفاء نور إصلاحه
وتشويه صورته"، فحاول الإحاطة بشخصية الشيخ محمد الطاهر بن عاشور من جميع
جوانبها، ووقف عند معالمها البارزة بصفة شمولية لم تعالج بها من قبل؛ فكشف عن
شخصية علمية متعددة الجوانب تراوح إضافاتها للفكر بين الاجتهاد، وتفسر القرآن
الكريم والعلم بالحديث الشّريف والتّفكير الاجتماعي والتّربوي والأدبي، وسعى إلى
إبراز عوامل نبوغه.
وانتهى إلى أن الشيخ محمد الطاهر بن عاشور يمثل أنموذجا
للثقافة الزيتونية العريقة السائدة في عصره. وفضلا عن ذلك، لم يكتف الباحث بعرض
شامل لمنجز الشيخ وإبراز الخيط الناظم لمجمل مباحثه، وإنما فتح الباب لدراسات بعض
الجوانب من تفكيره لم تنل حظها من الدّراسة، مثل آرائه التربوية، ومنهجه في
التّحقيق الأدبي.