كتب

الإسلام كقوة دافعة في مشروع تحرير فلسطين.. قراءة في كتاب

عانت الحركة الوطنية الفلسطينية من انعكاس حالة التخلف التي تعيشها الأمة في مجمل تكويناتها، عدا عن انعكاس مظاهر التنازع والتنافس الداخلي سلبا على مجمل الأداء الجهادي والوطني..
الكتاب: الطريق إلى القدس..دراسة تاريخية في التجربة الإسلامية على أرض فلسطين
المؤلف: محسن محمد صالح
الناشر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات/2023


يقدم محسن محمد صالح، أستاذ التاريخ المختص بالدراسات الفلسطينية، في كتابه هذا بحثا موسعا ومعمقا وفي الوقت نفسه مكثفا للتجربة الإسلامية التاريخية على أرض فلسطين، منذ عصور الأنبياء حتى يومنا هذا وفق تصور إسلامي لهذه القضية المركزية، يبدأه بفصل معنون بـ"صراع الحق والباطل على أرض فلسطين قبل الفتح الإسلامي"، يناقش فيه الأحقية التاريخية المزعومة لليهود في فلسطين، لينتقل بعده إلى مرحلة الفتح الإسلامي، وما تلاها من مواجهة المسلمين للصليبيين والتتار، وصولا إلى التجربة الإسلامية الحديثة والمعاصرة في فلسطين منذ أواخر الدولة العثمانية والانتداب البريطاني، وانتهاء باستعراض مسارات المقاومة الإسلامية في فلسطين منذ العام 1949.

ميراث الأنبياء

يبدأ صالح الفصل الأول من كتابه بالتأكيد على "حقيقة مهمة" هي أن المسلمين يؤمنون بأن تراث جميع الأنبياء هو تراثهم، ويعدّون رسالتهم الإسلامية امتدادا لرسالات الأنبياء الذين جاؤوا من قبل نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، وبالتالي فإن رصيد تجربتهم في دعوتهم إلى الحق وعبادة الله وحده لا تنفصم عن دعوة المسلمين ورصيد تجربتهم. يقول صالح ذلك بينما يتوقف عند ما يرى أنه غرق العديد من المؤرخين، في مواجهتهم لادعاءات اليهود المعاصرين بحقهم في فلسطين، بالانشغال بعلوم الآثار وذكر الشعوب التي استوطنت أو حكمت أو مرت على فلسطين. فهؤلاء يخرجون في النهاية بنتيجة مؤداها ضآلة الفترة والمساحة التي حكم فيها اليهود عبر التاريخ مقارنة بالعرب والمسلمين.

وعلى الرغم من أن هذا الجانب مفيد في رد ادعاءات اليهود من النواحي التاريخية والعقلية والمنطقية، بحسب صالح، إلا أن كثيرا من هؤلاء المؤرخين يقعون في خطأين كبيرين؛ الأول اعتبار تراث الأنبياء الذين أرسلوا إلى بني إسرائيل أو قادوهم تراثا خاصا باليهود فقط وهذا ما يريده اليهود.

إن المشروع الإسلامي لتحرير فلسطين ما زالت أمامه خطوات كبيرة وتحديات عظيمة لتحقيق أهدافه، إذ أن جوهر عملها تركز على مشاغلة العدو ومنع تمدده، وتعزيز الصمود الشعبي والرسمي في مواجهته، وإيجاد قاعدة مقاومة صلبة في غزة.
والثاني هو الإساءة إلى سيرة عدد من أنبياء بني إسرائيل باستخدام الاستدلالات المستندة إلى توراة اليهود المحرفة نفسها، وهم عندما يفعلون ذلك يقصدون الإشارة إلى "السلوك المشين" لمن كفر وفسق من بني إسرائيل وقادتهم عندما حلوا في فلسطين ليضعفوا من قيمة دولتهم ويبينوا انحطاط مستواهم الحضاري، ويدخلون في ذلك ما ذكرته الإسرائيليات من اتهام للأنبياء بالغش والكذب واغتصاب الحقوق وقتل الأبرياء. يقول صالح أن القرآن كفانا مؤونة التعرف على أخلاق من كفر وفسق من اليهود، غير أن أنبياءهم وصالحيهم أمر آخر، فالأنبياء خير البشر ولا ينبغي الإساءة إليهم بالانجرار خلف الروايات الإسرائيلية المحرفة.

ويتابع أن الله قد أعطى هذه الأرض لبني إسرائيل عندما كانوا مستقيمين على أمر الله وعندما كانوا يمثلون أمة التوحيد في الأزمان الغابرة، والتنكر لهذه الحقيقة مخالفة لصريح القرآن، إن الشرعية التي أعطاها الله للأنبياء وأتباعهم في حكم الأرض المباركة المقدسة هي لالة على شرعيتنا وحقنا في هذه الأرض وحكمها، فقد تحولت هذه الشرعية إلى الأمة التي سارت على منهج الأنبياء وحملت رايتهم، فالمسألة في فهمنا ليست متعلقة بالجنس والنسل والقوم ، إنما باتباع المنهج.

يضيف صالح إلى ذلك أن ملك بني إسرائيل لم يشمل في أي يوم من الأيام كل فلسطين المعروفة بحدودها الحالية، وإن المدة التي حكموا فيها بشكل مستقل تماما هي مدة ضئيلة قياسا إلى تاريخ فلسطين، وحتى عندما كانت لهم مملكتان كانوا في كثير من الأحيان خاضعين لنفوذ قوى أكبر منهم. كما أن الحكم الذاتي الذي تمتع به اليهود بعد عودتهم من السبي البابلي كان ضعيفا ومحدودا بمنطقة القدس وضواحيها، ولم يتمتعوا بعد ذلك إلا باستقلال محدود في عهد المكابيين. فوق ذلك فإن اليهود تشردوا في الأرض ولم تعد لهم صلة بفلسطين لفترة استمرت نحو 1900 عام متصلة.

في الفصل الخاص بالفتح الإسلامي لفلسطين يبدأ صالح بحثه بتوضيح المكانة الكبيرة لفلسطين في الإسلام باعتبارها أرضا مباركة مقدسة، فهي أرض الأنبياء وأرض الإسراء، وبوابة الأرض التي عرج النبي محمد صلى الله عليه وسلم منها إلى السماء، وأرض الأقصى قبلة المسلمين الأولى، وأرض المحشر والمنشر، وأرض يفصل فيها بين الحق والباطل.

لذلك فقد تطلعت إليها أنظار المسلمين دائما، فكان دافعهم الأساسي في فتحها دافع إيماني. ويضيف صالح أن المسلمين أنجزوا فتوح فلسطين والشام في فترة قصيرة لا تتجاوز الثلاث سنوات، بعدما حسموا المعارك الكبرى مع الامبراطورية البيزنطية في أجنادين وفحل، وبيسان واليرموك، حيث ظهرت عبقريتهم العسكرية، وأبدعوا في الفنون القتالية، متسلحين بعقيدتهم الإيمانية وإخلاصهم لدينهم. وهم مع انتصاراتهم العسكرية التي حققوها قدموا في فتح القدس نموذجا حضاريا راقيا في التسامح والعدالة مثله خير تمثيل "العهدة العمرية"، على العكس من غيرهم الذين فشلوا عندما حكموا القدس وفلسطين في استيعاب الآخرين وإنصافهم على مر تجارب التاريخ. ويؤكد صالح أنه بفتح فلسطين والقدس فقد اتخذت هذه المنطقة هويتها الإسلامية سيما بدخول أبنائها في الدين الإسلامي الذين تعربت لغتهم، لتتعمق هوية المنطقة العربية الإسلامية باستقرار أبناء القبائل العربية فيها.

الصليبيون والتتار

بعدما قدم صالح خلفية تمهيدية شرح فيها المآلات التي وصل إليها المسلمون بعد تفكك الخلافة العباسية ونشوء خلافات متعددة في مناطق مختلفة من الدولة الإسلامية، بمذاهب وتطلعات متباينة فتحت أبوابا كثيرة للصراع والتناحر على السلطة، بيّن كيف أن هذه الحالة من الضعف والتفكك أحيت الأطماع الأوروبية القديمة في أراضي المسلمين وأطلقت شرارة الحروب الصليبية. الحروب التي أدت إلى سقوط مدن بلاد الشام ومنها القدس تباعا في أيدي الصليبيين، رغم محاولات التصدي لهم في أكثر من موقع، إلا أنها كانت محاولات يائسة تفتقر إلى حسن الإعداد والتنظيم، في ظل انشغال السلاطين والأمراء المسلمين بالحفاظ على ملكهم والقضاء على منافسيهم من أبناء دينهم. يقول صالح أن هذه المعادلة التي دامت لعقود طويلة لم تبدأ بالتغير إلا مع بدء عهد الدولة الزنكية في الموصل وحلب، وبظهور عماد الدين زنكي ومن بعده ابنه نور الدين محمود زنكي ثم صلاح الدين الأيوبي، حيث انفتحت صفحة جديدة من صفحات الجهاد الإسلامي في بلاد الشام. ويرى أن ما جعل جهود هؤلاء القادة تشكل انعطافة مهمة أنها جاءت وفق فهم إسلامي شامل يؤكد على عقائدية المعركة مع الصليبيين، فهي صراع بين حق وباطل، وهي معركة تعني كل المسلمين دون نظر إلى قوميات أو عصبيات، ولا بد فيها من الإعداد المتكامل للأمة حتى تكون على مستوى الجهاد إيمانيا وثقافيا واجتماعيا وعسكريا، ولا بد كذلك من توحيد الجهود تحت راية الإسلام. وهو أمر ينطبق على المرحلة التالية على مرحلة الزنكيين والأيوبيين، أي مرحلة المماليك، حيث يشترك جميع القادة الذين حققوا إنجازا بتحرير أراضي المسلمين من أيدي الصليبيين والتتار في أنهم كانوا بشكل عام على التزام بالإسلام وأحكامه، واتخذوه فكرا ومنهجا ووسيلة للتحشيد والتعبئة ضد العدو.

المشروع الإسلامي للتحرير

في الفصل الرابع من الكتاب، الذي يتناول التجربة الإسلامية على أرض فلسطين منذ أواخر الدولة العثمانية وحتى نهاية الاحتلال البريطاني في العام 1948، يؤكد صالح على فكرة أن الدولة العثمانية حافظت على هوية فلسطين الإسلامية وحمتها على مدى أربعة قرون، غير أن العديد من عوامل الضعف السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية التي تفشت في الدولة ، جعلت من المنطقة الإسلامية بما فيها فلسطين منطقة مكشوفة يسهل على القوى الاستعمارية استباحتها واحتلالها وتمزيقها. وبانهيار الدولة العثمانية تراجعت فكرة الخلافة الإسلامية وولدت نظم سياسية خاضعة لنفوذ الدول الاستعمارية، لا تضع قياداتها أولوية كبرى لقضايا الأمة المركزية، بل إنها أضعفت من قدرة التيارات الإسلامية على القيام بدورها الفعال في التصدي لأعداء الأمة والعدو الصهيوني، بعزلها عن مراكز القيادة وصنع القرار.

أثبتت التجربة، بحسب صالح، قدرة المقاومة وخصوصا الإسلامية على تعبئة الشارعين العربي والإسلامي، وعلى تعطيل مسار التسوية السلمية، وتعويق مسارات التطبيع، كما أن الدفاع عن القس وفلسطين وفّر أداة قياس معيارية لدى الشعوب تجاه أنظمتها ورموزها، فمن انتصر لفلسطين ارتفع في عينها ومن خذل فلسطين سقطت مكانته وانفض عنه الناس.
ويقول أنه بينما اتسم المشروع الصهيوني بقدرات تنظيمية وقيادية علية، وبتوفر أدوات نفوذ عالمية تحت تصرفه، فقد عانت الحركة الوطنية الفلسطينية من انعكاس حالة التخلف التي تعيشها الأمة في مجمل تكويناتها، عدا عن انعكاس مظاهر التنازع والتنافس الداخلي سلبا على مجمل الأداء الجهادي والوطني. مع ذلك فإن صالح يشير إلى أنه في الفترة 1918-1948 كان المضمون العام لحركة الناس وعملهم التعبوي وطروحاتهم في مقاومة الاستعمار ومقاومة العدو الصهيوني تستند في معظمها إلى الإسلام، كما أن تفاعل الجماهير مع قضية فلسطين كان كبيرا وأخذ مظهرا عمليا في المشاركة المباشرة في الجهاد على أرض فلسطين، كما كان الحال مع عزالدين القسام من سوريا، وفوزي القاوقجي من لبنان، ومتطوعو الإخوان المسلمين من مصر وسوريا والأردن والعراق.

في الفصل الأخير من الكتاب يحاول صالح، مؤرخا ومحللا، الإحاطة بتجربة المقاومة الإسلامية في فلسطين منذ العام 1949 وحتى يومنا هذا، متوقفا عند الكثير من محطاتها المفصلية، واضعا مجموعة من الخلاصات المتعلقة بمسار هذا التيار، أبرها إن الإسلام يظل هو الأقدر على تعبئة الجماهير وبث روح الجهاد والصمود، وأن صعود خط المقاومة الإسلامية وزيادة تأثيره كان وسيظل دائما مرتبطا باستمرار فعله على الأرض وبتصعيده وليس بانتقال محور أدائه من العسكري إلى السياسي. ويلفت إلى بروز مركزية القدس والأقصى في الثورات والانتفاضات الفلسطينية سيما مع ظهور ما لهما من قدرة على التعبئة والتحشيد للشعب بالفلسطيني، وللأمة الإسلامية.

كما أثبتت التجربة، بحسب صالح، قدرة المقاومة وخصوصا الإسلامية على تعبئة الشارعين العربي والإسلامي، وعلى تعطيل مسار التسوية السلمية، وتعويق مسارات التطبيع، كما أن الدفاع عن القس وفلسطين وفّر أداة قياس معيارية لدى الشعوب تجاه أنظمتها ورموزها، فمن انتصر لفلسطين ارتفع في عينها ومن خذل فلسطين سقطت مكانته وانفض عنه الناس.

يضيف صالح: إن طبيعة العمل المقاوم ومشاريع التحرير تحتاج إلى روح إيمانية رسالية، وروح جهادية ثورية، ودينامية عمل عالية، محذرا المقاومة الإسلامية من فخ الاسترخاء والتكيف في بيئات الهدوء والاستقرار، وفخ توفر المال والتمويل خصوصا الرسمي، حتى لا تجد نفسها أسيرة بأي حال من الأحوال لأي من مصادر التمويل.

ويقول: إن المشروع الإسلامي لتحرير فلسطين ما زالت أمامه خطوات كبيرة وتحديات عظيمة لتحقيق أهدافه، إذ أن جوهر عملها تركز على مشاغلة العدو ومنع تمدده، وتعزيز الصمود الشعبي والرسمي في مواجهته، وإيجاد قاعدة مقاومة صلبة في غزة.

غير أن الانتقال من منع التمدد إلى فرض الاندحار يحتاج قفزات نوعية تشمل توسيع دائرة الوعي والإيمان بالحل الإسلامي للتحرير، وتحشيد الأمة وتعبئتها للمشاركة في المشروع، وتطوير البنى المؤسسية الرسمية والشعبية الفلسطينية، وتوسيع دائرة المناصرة العالمية لمشروع التحرير، وإفشال مسارات التسوية التي تؤدي للتنازل عن أي جزء من فلسطين.
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع