قضايا وآراء

انتصار التطبيع على أنظمة الاستبداد العربي

الأناضول
تسير الخرطوم على خط التطبيع الرسمي العربي مع الاحتلال الإسرائيلي، في الوقت الذي يعيد فيه بنيامين نتنياهو تذكير "العالم" ومضيفيه بقدرة إسرائيل في ظل زعامته على اختراق عواصم وأنظمة عربية، وإقامة علاقات سياسية وأمنية واقتصادية، فائدتها تعود بالدرجة الأولى لإسرائيل.

وبقفزٍ شامل عن ركائز أساسية وثوابت حقوق الشعب الفلسطيني التي ناضل وضحّى من أجلها، تتم عملية الطعن والغدر بالقضية الفلسطينية التي تواجه على الأرض الاستيطان وتهويد المقدسات والمذابح وعمليات القتل والتهجير ونسف المنازل، ومعظم عمليات التزوير الصهيوني في التطبيع بكل أبعادها السياسية والأمنية والجغرافية والمعنوية لتشريع لنهب الأرض والسيطرة عليها.

والمعادلة التي أصبحت أكثر وضوحاً منذ اتساع رقعة التطبيع بعد تماسك الثورات المضادة في العالم العربي، أن الشعوب العربية تلمست بصورة مباشرة معنى رضوخ وهزيمة أنظمتها أمام الاحتلال الإسرائيلي، بعدما رزحت عقوداً طويلة تتحمل القمع وإرهاب الأنظمة وبغياب الديمقراطية، "كشرط المواجهة" مع العدو الخارجي الذي وضعته ورفعته تلك الأنظمة، وأن بؤس الشعوب وسوء أوضاعها هو نتاج الثمن الذي يُدفع لتوفير مقومات "التصدي للمؤامرة" وذريعة باقية وتتردد لليوم في إعلام وأدبيات بعض النظم رغم افتضاحها.

ما يتكرر اليوم من ذرائع الانبطاح الرسمي العربي، ومن مواقف مناهضة أيضاً له في أنظمة الاستبداد مع إسقاطات "التصدي" له بنفس الفواتير الدموية والقمعية التي سادت زمن الصراع العربي الإسرائيلي، وبالضرب العنيف لأي فكر وحزب ومعارضة تنادي بالديمقراطية والمواطنة كأسس ثابتة وحقيقية لمقاومة التطبيع.. عززت هذه الذرائع والسياسات المنتهجة في أنظمة العسكر والانقلابات في العالم العربي، من مكانة الاحتلال ليس على أرض فلسطين فقط، بل وفي الأبواب الخلفية لهذه الأنظمة المفتوحة بالعلاقة المباشرة وغير المباشرة معه.

أدركت الشعوب العربية في ثوراتها المغدورة، حقيقة استهدافها وقمعها بالشكل الدموي في بعض العواصم، وبأشكال تشديد القمع وتمكين الانقلابات العسكرية والمستبدة في بعضها الآخر، الأمر الذي يشير بوضوح إلى أن صراع الأنظمة المستبدة للبقاء والديمومة مرتبط بشكل أساسي بالتطبيع مع الاحتلال ومصالحه المتقاطعة معها.

فكل عمليات تزوير الوقائع على طرفي معادلة الاستبداد والاحتلال، تصب لمصلحة الاحتلال، التي تفوق فائدة استمرار أنظمة القمع والقهر، وليس مطلوبا أكثر من ذلك إسرائيلياً من وراء التطبيع إذا ما كان هناك من جردة حساب و"فائدة" عربية تعود على النظام العربي. هناك أنظمة لا حاجة لها في الاقتصاد والجغرافيا والسياسة أي مصلحة من العلاقة مع المؤسسة الصهيونية، فإذاً لمَ هذه الهرولة العربية نحوها، ومنحها أفضلية المجاهرة عن حاجة النظام العربي لعلاقة مع إسرائيل، والجواب يعثر عليه المواطن العربي في سلوك النظام العربي معه، وفي سلوك أجهزته الأمنية المبنية على متاريس الحماية والأمن الذي تقدمه بنود التطبيع، مع إعطاء التغلغل الاقتصادي والأمني لمؤسسات البنية الاستعمارية الصهيونية بُعداً أوسع وأعلى مرتبة.

وهنا تبرز القيمة الهائلة لإعادة قراءة العلاقة الإسرائيلية- العربية في الإطار الرسمي الذي شهدته سراً وفي العلن، منذ كامب ديفيد إلى الخرطوم مروراً بأوسلو ووادي عربة و"اتفاقات أبراهام".

انفلات غول القمع والتوحش، وتحكم بالاقتصاد وتعميم الفقر والقهر، وتشديد تبعية بعض الأنظمة المُطبعة لـ"النموذج الصهيوني" وإعجاب بطفرته الزراعية والصناعية والتكنولوجية والأمنية، والتي بفضلها يواصل سياسته العنصرية في الأرض العربية الفلسطينية، بمعنى هناك إعجاب رسمي عربي بالنموذج الاستعماري للحركة الصهيونية ولمستوطناته الممنوحة مؤخراً تمويلاً إماراتياً، وإعجاب بآلته القمعية ووسائلها التي تسفك الدم العربي، فلذلك تُبرم التحالفات الأمنية معها لطبيعة نتائجها على الشعب الفلسطيني، رغم عدم حاجة بعض الأنظمة لهذه العلاقة، مع إمكانياتها المادية والسياسية لشراء واستيراد الأسلحة والاستعانة بتكنولوجيا اقتصادية وزراعية وعسكرية مختلفة، بعيداً عن إسرائيل، إلا أن الرضوخ للإرادة الأمريكية والغربية، ومن باب الاستثمار العربي المستمر في السلطة، تسعى السياسة الغربية والأمريكية لتحطيم مكانة قضية فلسطين من الوجدان العربي، بتعزيز الدعم والحماية لأنظمة الاستبداد من جهة ولأنظمة التطبيع من جهة ثانية. فاللحظة باتت أكثر من ملائمة لمشروعي الاستبداد والتطبيع بفرض حالة القمع بالتوازي مع "نشوة" انتصار التطبيع العميقة على المنطقة العربية.

أخيراً، في غمرة هذا الواقع لا تريد المؤسسة الصهيونية التطبيع مع شوارع ومجتمعات عربية، لسبب بسيط يكمن في قناعة هذه المؤسسة بهذا المستحيل، لكنها في الوقت نفسه لا تريد أكثر من بعض الأنظمة المطبعة، ولا أكثر من استثمارات البعض الآخر في مجال القمع والقهر والاستبداد، فكل الطرق المعبدة تتجه نحو تسجيل انتصار التطبيع في أنظمة الاستبداد وعليها، والنتائج المدمرة لهذه السياسات وبمعزل عن مسار التآمر على الشعب الفلسطيني، فإن بالإمكان تلمس وإدراك مكانة فلسطين وقضيتها في آلاف المؤشرات والمواقف، كلما أزيحت عن كاهل الشارع العربي كرابيج الاستنزاف والنهب المنظم والاستبداد، والشعور بقيم المواطنة والديمقراطية والعدالة بأوسع نطاق لتصبح قيمة فردية واجتماعية، فيمكن تسجيل هزيمة للتطبيع والمحتل وأدواته المستبدة والمستسلمة، ودون ذلك جولة وجولات من ثورات قادمة بمنطق الواقع والتاريخ.

twitter.com/nizar_sahli