قضايا وآراء

باب الأمل والمستحيل العربي

"جريمة إبادة جماعية تستهدف القضاء على شعب فلسطين وإلحاق الهزيمة به"- جيتي
الموقف الأمريكي الرسمي من العدوان المستمر على غزة والشعب الفلسطيني، ومن جرائم الإبادة الصهيونية، محسوم تاريخيا إلى جانب إسرائيل بموقف تقليدي لمعظم رؤساء أمريكا منذ نكبة فلسطين، ولم تعد حاجة، أو مبرر، لانتظار سياسة أمريكية جديدة قبل انتخابات رئاسية أو بعدها، للرهان على تغيير ما متعلق بقضايا عربية ومنها قضية فلسطين. وهو موقف خبرته شعوب العالم العربي ويعرفه معظم القادة العرب؛ أن حامي المصالح الأمريكية والاستعمارية في المنطقة هو إسرائيل.

ولا داعي للشرح عن فحوى الخطوة الأمريكية بإرسال حاملات طائرات للمنطقة وأرتال من شحنات الصواريخ والذخائر والدفاع الجوي، والاستنفار الأمريكي الدبلوماسي بكل المحافل، لتثبيت رسالة قاعدتها أن حماية المنطقة لا تتم إلا عبر إسرائيل. والحماية هنا لديها تفسير أمريكي إسرائيلي بتفهم عربي، وهو "الخطر الإيراني"، وإن وقعت المواجهة المباشرة بين إسرائيل وإيران فإن من سيتصدى لها هي القواعد الأمريكية بجيوشها وأساطيلها.

ولأن لا صوت عربيا يعلو اليوم على الصوت الأمريكي الإسرائيلي، وعلى جرائم الإبادة الجماعية في غزة، فإن جولة العدوان المستمرة فرض عليها كاتم صهيوني للصوت بتحويل الأنظار عن جريمة الإبادة في غزة إلى جريمة مماثلة في لبنان، والدفع مجددا بتصوير الأمر بأن مشكلة المنطقة هي باتساع دائرة مواجهة الاحتلال وغطرسته وربط ذلك بسلوك طهران، لا بسلوك الاحتلال ووجوده واستمرار جرائمه في فلسطين، والأهم إسقاط هذا الاحتلال لكل مشاريع "السلام" والأوهام المرتبطة به.
الاستسلام العربي الآن لجرائم الإبادة في غزة، والصمت عن العدوان المتسع على لبنان ومواجهته بنفس مواقف التحذير والتنديد والخشية من التصعيد، واتساع رقعة الحرب التي كانت سائدة طيلة عام الإبادة الفلسطينية، هي نفسها التي سمحت أيضا بأن تكون غزة نموجا للأثر العربي المدمر لها وللشعب الفلسطيني وقضيته
وقد عكست تصريحات حكومة نتنياهو وأقطابها الفاشية من بن غفير إلى سموتريتش؛ بشكل جلي وواضح خطط التطهير العرقي في غزة وفصل شمال القطاع تمهيدا لضمه والاستيطان فيه، وبإعادة بث الأحلام القديمة الجديدة لإسرائيل الكبرى.

في فلسطين هناك محتل وشعب يرزح تحت وطأته، وهناك جرائم كبرى ومجرم، وعلى أطراف هذه الجريمة عالم عربي، تنهار فيه جبال من كرامة وعزة وأمن وسياسة وسيادة عربية، ففي كل صباح ومساء في غزة وفي بقية مدن فلسطين المحتلة مجزرة ترتكبها قوات الاحتلال، وجريمة إبادة جماعية تستهدف القضاء على شعب فلسطين وإلحاق الهزيمة به.

أرقام الضحايا في مذبحة جباليا الأخيرة أقسى من أي كلمة، والمواقف العربية التي تخلو من ضمير أخلاقي وإنساني ووطني، لم تنفع معها كل جرعات الحس الوطني والديني والإنساني التي حاولت صرخات الضحايا أن تنهض بها همما عربية وإسلامية؛ بوجه عالم منكفئ على مشهد الفرجة المذل لشلال الدم الفلسطيني والعربي، وحتى انتظار يقظة عربية جديدة تقذف بهذه الأمة من عمق المهانة والبؤس والعجز الذي تغرق به أنظمة عربية.

يتضح يوما إثر آخر أن اختلال التوازن القائم الآن لصالح الفاشية الصهيونية في المنطقة العربية بصورة مطلقة ليس بفعل الانحياز الأمريكي المطلق لإسرائيل، وليس بفضل نفاق غربي مستمر للمستعمر، بل من النزعة العربية القائمة بالنظر للمشروع الصهيوني هل ما زال يمثل لبعض السياسات العربية مشروعا غربيا استعماريا للسيطرة على المنطقة؟

بالنظر لمواقف غربية وفي أمريكا اللاتينية من جرائم الإبادة الصهيونية في غزة وفي فلسطين، فإن إجابة قوية تنطلق من غريزة أخلاقية ومن ثوابت لم تعد موجودة في قاموس سياسة عربية تقبل كل يوم المساس بكرامتها وسيادتها وتقزيم حضورها وفاعليتها إلى المستوى الصفري، فبات الشارع العربي يحفظ أسماء دول وحكومات وشخصيات سياسية وفنية وأكاديمية ومؤثرة غير عربية في اتخاذ موقف واضح بقطع العلاقة مع الاحتلال، والدعوة لوقف تسليحه واعتباره مجرما وخصما أمام المحاكم الدولية، بينما تتلاشى المواقف الرسمية العربية تحت وطأة اليأس والخراب والدمار والجرائم، ما يعني أن مهمة الاحتلال ومشروعه بتطبيق نمط الجريمة في غزة ولبنان ومن ثم في الضفة والقدس هو الذي سيحكم العلاقة المستقبلية بين إسرائيل وأنظمة الفرجة العربية.

فالاستسلام العربي الآن لجرائم الإبادة في غزة، والصمت عن العدوان المتسع على لبنان ومواجهته بنفس مواقف التحذير والتنديد والخشية من التصعيد، واتساع رقعة الحرب التي كانت سائدة طيلة عام الإبادة الفلسطينية، هي نفسها التي سمحت أيضا بأن تكون غزة نموجا للأثر العربي المدمر لها وللشعب الفلسطيني وقضيته.

مقاومة شعب فلسطين لإبادته ستستمر لا محالة حتى وإن بدا الأفق العربي والدولي بعيدا، ذلك أن الدماء التي تسيل كل يوم وكل ساعة على أرض فلسطين، تجعل من انتظار مستقبل الخلاص من المحتل أمرا مستحيلا بحسب سياسة الاستسلام للأمر الواقع، لكن من المؤكد أن للشعب الفلسطيني والعربي كلمة أخرى سيقولها ويكررها كما فعلها من قبل في ثوراته

لم ينفع السياسة العربية تقليدها استخدام عبارات غربية من القلق، لم يعد هناك من جريمة لم ترتكب في غزة، مذابح جماعية وجوع وحصار وتطهير عرقي وإعادة احتلال وتهجير قسري، ولم يعد هناك ما يبنى عليه لـ"اليوم التالي" في فلسطين، فجرائم الاستيطان والتهويد والقتل وخطط وسياسات اليمين الفاشي في إسرائيل بلا رتوش، وتخالف كل ما تعهد به السياسة العربية لنفسها عن السلام وغيره في المنطقة بخصوص المستقبل "السعيد" بعد القضاء على من يقاوم محتله؛ ومن يتقاسم حلم أو وهم شرق أوسط جديد يفترض بـ"الحضارة الصهيونية" أن تشع على بعض العيون وتعميها عن واقعها.

أخيرا، التدقيق في سياسة عربية وأمريكية وغربية فيما يجري على أرض فلسطين، وحتى بدون التدقيق، يكشف يقينا أن المشكلة ليست في طبيعة المواجهة الدائرة الآن بين طهران وإسرائيل، أو بين ما تروج له إسرائيل عن خوضها حربا على سبع جبهات، بل تكمن من حيث وجودها كقوة احتلال استعماري بنظام فصل عنصري.

ومقاومة شعب فلسطين لإبادته ستستمر لا محالة حتى وإن بدا الأفق العربي والدولي بعيدا، ذلك أن الدماء التي تسيل كل يوم وكل ساعة على أرض فلسطين، تجعل من انتظار مستقبل الخلاص من المحتل أمرا مستحيلا بحسب سياسة الاستسلام للأمر الواقع، لكن من المؤكد أن للشعب الفلسطيني والعربي كلمة أخرى سيقولها ويكررها كما فعلها من قبل في ثوراته رغم عجز رموزه الراهنة، فالمقاومة في فلسطين هي التي تفتح باب الأمل، رغم "المستحيل العربي" بالتغيير الذي يكرس نفسه مهزوما أمام المحتل وجرائمه.

x.com/nizar_sahli