تقارير

الشاعر عدنان النحوي ودور التديّن في صياغة هويته الفلسطينية

الشاعر الفلسطيني عدنان رضا النحوي كتب نحو خمس عشرة ملحمة شعرية لقضايا العالم الإسلامي

ماذا يحدث حين ينشأ فتى نَبِيه في أحضان مكتبة عامرة وديوان ثقافي كبير وفي كنف والد هو عالم من علماء مدينته؟

الأجواء العلمية والثقافية في فلسطين كانت على درجة عالية من الحيوية، فكان العلماء ينتقلون من بلد إلى بلد ويتزاورون بين الأقطار ليستفيدوا من سهرة أو ندوة ثقافية، أو حلقة علم لأحد العلماء، أو مناظرة علمية بين متخصصين، أو كتاب نادر مخطوط لم يصلهم وعرفوا بوجوده في إحدى المكتبات.

عن هذه الأجواء، تحدث الباحث محمد كرد علي في كتابه "خطط الشام" عن مكتبة آل النحوي الضخمة "التي زارها عدد من رجالات العرب". ومنهم العلماء والمُفتون والقضاة ورجال القانون والإدارة والأدباء والشعراء. بالمقابل، فقد خرّجت هذه المكتبة من عائلة النحوي عدداً وافراً من هؤلاء. وستكون لنا عودة إلى نكبة المكتبات مع نكبة الإنسان عام 1948 في مقالات لاحقة.

في كنف والده الشيخ المجاهد والسياسي علي رضا النحوي، وخاله الشاعر الإسلامي محيي الدين عيسى (راجع مقالنا عنه في الموقع)، ولد الشاعر عدنان النحوي في مدينة صفد في مطلع العام 1928. فنشأ نشأة الإيمان والعلم والأدب.. حتى بدأ يقرض الشعر في الرابعة عشرة من عمره (1942) وكتب المقالات ونشرها. فكان شاعراً إسلامياً من مرحلة المخضرمين (بين النهضتين الثانية والثالثة).

وفضلاً عن البيئة الدينية في بيتهم، كانت بيئة مدينة صفد وطبيعتها وجمالها لها الأثر الجمالي في نفسه، وكذلك البُعد التاريخي الذي تكتنزه صفد، وخصوصاً في عهد صلاح الدين وجيوشه التي حررت البلاد من الفرنجة. بالإضافة إلى الثورات المتتابعة في فلسطين وصولاً إلى النكبة، أثرت في شعر النحوي وفي طفولته وجدّيّته، فانطلق للعمل الجاد والمكثّف، فلم يتلكأ عن العلم فأنهى دراسته الابتدائية والثانوية في صفد، ثم انتقل إلى الكلية العربية في القدس، ودرس مختلف العلوم الآداب وفق المنهج الذي يشرف عليه الانتداب. وفي البيت كان منذ النشأة قد حفظ القرآن ودرس التفسير والتجويد والعلوم القرآنية، ودرس السنة والحديث والفقه واللغة والتاريخ الإسلامي للمنطقة.

فَهِم من سورة الإسراء، بركة بيت المقدس وفلسطين وأهميتهما في الدين. وفهم من آيات الجهاد والقتال ماذا يعني الدفاع عن الدين والأرض والعرض. ودرس من التاريخ الإسلامي أهمية الذود عن فلسطين والقدس التي روتها الجيوش الإسلامية بدماء الصحابة والمجاهدين.. فانغرست في وجدانه منزلة فلسطين الدينية من حادثة الإسراء والمعراج حتى يومنا هذا، مروراً بالفتوحات الإسلامية والحروب الصليبية.

وانطلق من بيت والده إلى ميادين الدعوة الإسلامية والفكر الإسلامي. وقرنها بدراسة الهندسة الكهربائية، التي استمر فيها حتى نال الدكتوراه. 

في القدس، أثناء دراسته في الكلية العربية، عايش تجربة الشهيد عبد القادر الحسيني، ومن القدس انتقل في الطرقات الخطرة إلى عكا، وشارك في الدفاع عنها.

بعد اللجوء، عمل في الكويت مدرساً لثماني سنوات، تابع دراسته الجامعية في مصر، ثم عاد إلى سورية مديراً للإذاعة السورية في حمص، وانتقل إلى السعودية مديراً للمشاريع الإذاعية في وزارة الإعلام. وأسس دار النحوي للنشر، وساهم في تأسيس رابطة الأدب الإسلامية.

ألّف شاعرنا تسعين كتاباً متنوعاً بين الدعوة والأدب والشعر والسياسة والعلوم الكهربائية والفيزيائية، وله سبعة دواوين شعرية، هي: الأرض المباركة، موكب النور، جراح على الدرب، مهرجان القصيد، عِبر وعبرات، درة الأقصى، حرقة ألم وإشراقة أمل. 

 



اشتهر بملاحمه الشعرية المتينة، كتب نحو خمس عشرة ملحمة شعرية لقضايا العالم الإسلامي، من طنجة إلى جاكرتا مروراً بالبوسنة والهرسك والهند وأفغانستان وغيرها، وخصص عدداً وافراً منها للقضية الفلسطينية، مثل: ملحمة فلسطين، ملحمة الأقصى، ملحمة أرض الرسالات، ملحمة الإسلام من فلسطين، إلى لقاء المؤمنين، ملحمة غزة وغيرها من الملاحم العربية والإسلامية.

توفي شاعرنا في الرياض مطلع العام 2015 عن عمر يناهز الـ87 عاماً، قضاها في الدعوة والأدب والعلوم والنشر.

 


 
كتب لمدينته الحبيبة صفد قصيدته "لوحة من صفد"، يقول فيها:

صفدٌ! عروسَ الدهر! دونكِ فانظري     ..           هذي وفود حواضرٍ وبوادٍ
تسعى إليكِ من الشآم شوامخٌ         ..           وجبال لبنانٍ على ميعادِ
والسهلُ والنهرُ البديع وخضرةٌ          ..           ألِقَتْ كأسْورةٍ لها بزنادِ

وكتب يحكي قصة "الشهيد عبد القادر الحسيني ومعركة القسطل":

عاد الهِزبرُ فما للقلب يضطربُ         ..          وللعيونِ وهذا الدمعُ ينسكبُ
جاء البشير إلينا والنَّعِيُّ معاً            ..          كلاهما خفقةٌ: فالنصر والحربُ
لم يقبل القلب غير البِشرِ من خبرٍ      ..          ولم يَرَ النَّعي إلا وهو يقتربُ
قالوا: الرصاص يحيّي بِشرَ عودته       ..          وهذه القدسُ حفَّت نحوه تثِبُ
لم يعلمِ الناسُ هل حيٌّ يقودهم     ..          إلى المعاركِ؟ أم موت ومُحتَرَبُ
لم يلمسوا فيه إلا أنّهُ بطلٌ             ..          حيٌّ يقودُ، ولا يُثنى، له أرَبُ

وفي العام 1974 كتب أجمل قصائده الفلسطينية، منها "عودة لاجئ"، ومنها رثاء الحاج أمين الحسيني في قصيدته "دمعة على رجل".. حيث يقول:

يا أيّها الجسدُ الثاوي على شرفٍ          ..             أكبادنا لشهيدِ الحقِّ أكفانُ
ستون عاماً وما لانتْ شكيمته            ..             ولا استكان، وهذا العودُ ريّانُ
عطاؤهُ من حنايا القلب يُفرغُه            ..            وَجودُهُ الصّدقُ إيفاءٌ وإحسانُ
أوْقَدْت معركةً للحقِّ صابرةً              ..            تقودها، وينير الدّربَ قرآنُ
دوّى الأذان من الأقصى وردَّدَهُ           ..            من الكتائب عُبّادٌ وفرسانُ

إلى أن يقول:

نصحتَ قومكَ أن لا يشتروا عرَضاً        ..           وقد شرى منهم الأرواحَ رحمانُ
لا يرتضي الوطنُ الغالي مساومةً       ..            ولا تقوم على التقسيمِ أوطانُ
مَن يقسمُ القلبَ تجري منه أوردةٌ      ..             ويحملُ الدّم في الأوصال شريانُ
لا يستعيد حمى الأوطانِ غيرُ هدى      ..             من الكتاب وعُبّادٍ لهُ دانوا
تشوّقت لجنان الخُلد أنفسُهم        ..              فأرعدت في البطاح الحُمْرِ فُرسانُ

واهتمّ شاعرنا لنكبات شعبه، فكتب عن مجزرة مخيم تل الزعتر، قصيدة طويلة بعنوان "جولة إيمانية في تل الزعتر" (أكثر من 85 بيتاً)، نختار منها:

رُدَّ السيوفَ إلى الأغمادِ وانتظرِ           ..               ما ينقلُ التلُّ من هولٍ ومن خبرِ
تَفَجَّرَ الحِقدُ أهوالاً مُدمّرةً               ..               تَمورُ أحشاؤها مَوراً على سُعُر
تُلقي به حمماً سوداء قاتمةً             ..               وتنجلي عن لظى في الدارِ مستعرِ
صفائح الزنكِ كم أفنيتِ قنبلةً           ..               وكم أَبَيتِ على الأحداثِ والغِيرِ
شبابُكَ الصيدُ أغنتهم خيامُهمُ          ..               عن القصور وعن لهوٍ وعن سمرِ
تطلّعوا.. فاشرأبّت من تطلّعهم         ..               إلى العلا أنجمٌ مشدوهةُ النظرِ
نهضتَ يا "تلُّ" فانفضّ الظلام على       ..                كواكبٍ نثرتها هالةُ القمرِ
قالوا سقطتَ أو استسلمتَ، ما صدقوا    ..               وأنت لؤلؤةُ الأمجاد والظفر.

واستعر القصيدُ في نفس الشاعر في الانتفاضات، من انتفاضة الحجارة إلى انتفاضة الأقصى فكتب القصائد الجميلة للقدس وغزة وجنين وأطفال الحجارة.

ونختم بأبيات من قصيدته الجميلة "رسالة المسجد الأَقصى إلى المسلمين":

أنا المسجدُ الأَقصى! وهذي المرابعُ           ..             بقايا وذكرى والأَسى والفواجـعُ
لقد كنـتُ بين المؤمنيـن وديـعـةً              ..             على الدّهرِ ما هبّوا إِليَّ وسارعـوا
يَضمُّـون أَحـنـاءً عليًّ وأعْيُـنـاً                   ..              وتحرُسني مِنْهم سيـوفٌ قـواطـعُ
زُحوفٌ مع الأَيامِ موصولـةُ العُـرا               ..              فترتجُّ من عزْم الزُّحـوف المرابـع
وفي كلِّ يـومٍ مَهْرَجَـانٌ يَضُمُّنـي              ..              وتَنْدُبُنـي بيـن القصيـد المدامِـعُ
فما أَنـا جُدْرانٌ تَـدورُ وسَـاحَـهٌ                   ..             ولكنّـنـي أُفْـقٌ غَـنـيُّ وواسِـعُ
فِمنْ مُهْجَـةِ الإِسْـلام مَكّـةَ خفقتي           ..             ومِنْ طيبَةٍ وحيٌ إلى الحـقِّ دافـعُ
ومـن كـلِّ دارٍ مِـنَبـرٌ ومـآذِنٌ                     ..             بيـوتٌ تـدَوِّي بالنّـداء جَـوامِـعُ
قُلـوبٌ لـهـا خفقُ الحيـاةِ وأضْلُـعٌ                ..             تجيـشُ وآمـالٌ غَـلَـتْ وَوَدائِـعُ

 

*كاتب وشاعر فلسطيني