هذا هو الشاعر الوحيد الذي أستطيع أن أؤكد أننا تربينا على أشعاره، واكب رواد الشعر الكلاسيكي الفصيح، وقاد الشعر العامي الفلسطيني، انتقل بين المدرستين برشاقة وتمكّن. كان يحيي حفلات الزجل والعتابا على امتداد لبنان وسوريا، وقبلهما في فلسطين (حيث أطلقوا عليه لقب شاعر الشاغور، أي قضاء عكا).
انتقل إلى الشعر العامي، حين رأى التصاقه بحياة الفلاحين الأميين بمعظمهم، وأشهد من تجربتي الشخصية أنني كنت أسمع قصائده العامية من جدتي ووالدتي الأميّتين اللتين تحفظان أشعاره لكونه كان يلقيها في أعراس قريتنا في فلسطين، وقد ذكرتُ ذلك في كتابي عن قريتي "شعَب وحاميتها". وهو كان حادي البلد وكان مشاركاً في معركة الدفاع عنها ضمن الحامية الشعبية قبل سقوطها عام 1948.
خرج من قلب القرية، إلى المدينة، وواكب كبار شعراء الزجل الفلسطيني واللبناني، وعلى رأسهم أبو سعيد الحطيني، وصاحب أشهر حداء ثوري فلسطيني، في برنامجه الشهير "غنى الحادي" في إذاعة "صوت فلسطين.. صوت الثورة الفلسطينية": فوق التل وتحت التل.. وبين الوادي والوادي.
كنت أنوي أن أؤجل الحديث عنه، إلى سلسلة شعراء العامية، لكن تأثيره في الشعر الفلسطيني وريادته لشعراء فلسطين، وكونه من المخضرمين بين النهضة الثانية والثالثة، كان الدافع لضمه إلى هذه السلسلة.
من هو شاعرنا؟
ولد الشاعر يوسف حسون في قرية شعَب الجليلية عام 1928. درس في مدرسة شَعَب، ولكن لم تكن المدرسة سبيله الوحيد لطلب المعرفة، بل كان يلتهم كل ما يقع بين يديه من كتب وكرّاسات. فكانت ثقافته بجهد شخصي جبار منه، حتى نظم الشعر في عمر 13 سنة. وكان من شدة تعلقه بالفن والعزف يضع الأسلاك بجانب بعضها ويعزف عليها ليحدث نغماً جميلاً.
وكان في طفولته يواظب على الأعراس التي يحضرها كبار الشعراء، وخصوصاً تلك التي كان يحضرها الشاعر أبو سعيد الحطيني، أشعر شعراء الزجل في ذلك الوقت. وفي أحد أعراس شَعَب سنة 1942، وبينما كان الحضور يستعدون لسماع الشاعر أبو سعيد الحطيني صاح الشاعر يوسف حسون من بين الحضور، وكان لا يتجاوز الثالثة عشرة، ببيت عتابا أثار إعجاب الحاضرين، فحاز إعجاب الحطيني الذي قال له: تابع معي. وصار يأخذه معه إلى الأعراس. وذاع صيته على مستوى الوطن، وصار يستعير "قمباز" جدّه ليحيي الحفلات به.
الوجود الصهيوني في فلسطين كان أكثر ما يثير حمية وغيرة هذا الشاعر المرهف الحس، فشارك الشاعر بالقتال مع حامية شَعَب والذود عنها خلال نكبة 1948، وكان لخروجه من فلسطين، شديد الأثر عليه ممّا دفعه لأن ينظم قصيدة من أجمل القصائد التي وصفت النكبة وتأثيرها على أهل فلسطين وهي قصيدة "مرسال فلسطين".
بعد النكبة درس الموسيقى في الكونسرفاتوار الوطني اللبناني. وأثناء وجوده في بعلبك أصبح أبو العلاء واحداً من أهم المراجع الثقاة في الشعر الشعبي وخاصة العتابا، فكان يساجل الشعراء اللبنانيين الذين كانت تربطه بهم علاقة قوية، وكان يكتب في بعلبك بمجلة "بنت العرزال"، وفي مجلة "بنت لبنان" سنة 1949، ومجلة "الثأر" الفلسطينية سنة 1952. في العام 1955 كتب قصيدة "نشيد فلسطين"، وقدم عدة برامج إذاعية عبر إذاعة صوت فلسطين من القاهرة أوائل الستينيات، منها "فلاحين بلدنا" في 65 حلقة تدور حول موضوع وطني بطريقة تمثيلية.
ذهب أبو العلاء إلى مصر ونال شهادته من هناك، وتوظف في مدارس الأونروا. وأصبح مديراً لمدرسة القادسية في الرشيدية ثم مدير مدرسة المجدل في تل الزعتر ومن ثم انتقل إلى الدامور.
في العام 1976 بدأ أبو العلاء يقدم برنامجاً إذاعياً في إذاعة "صوت فلسطين.. صوت الثورة الفلسطينية" هو الأشهر في تاريخ الثورة الفلسطينية بعنوان "غنّى الحادي" في 104 حلقات إلى أن وافته المنية. وقد اشتُهر مطلع هذا البرنامج الذي يقول فيه:
غنى الحادي وقال بيوت .. بيوت غناها الحادي
سدّوا الدرب منين أفوت .. أفوت وأقدر بعنادي
فوق التل وتحت التل .. وبين الوادي والوادي
مين تسأل عنا بتندل .. بتلقاني وتلقى ولادي
وكذلك اشتهر أبو العلاء بـ "يا حلالي يا مالي" والتي فيها:
جينا على اســم الفدا .. نعطي الجمـاهير اليقين
بشمالنا غصن الزّتون .. البنـــدقية باليميــن
ولم يكن من خلال هذه البرامج فناناً عادياً بل كان حاملاً لهمّ سياسي، وكرّس برامجه لخدمة القضية، وكان يستعرض بعض الأحداث والمواقف شعراً، كما في القصيدة الشهيرة عن غولدا مائير، التي أُشيع أنها كانت تقول إنها تشعر بالنار تشتعل فيها كلما ولد طفل فلسطيني، وتتمنى أن ترفس كل امرأة فلسطينية حامل على بطنها لإسقاط جنينها:
في مرة قالت مائير .. كلمة عنا بتعنيها
كل ما يخلق طفل صغير .. نارو بتشعلل فيها
ققد أنشد الحسون أنواع الغناء الشعبي مثل الشروقي والعتابا والميجانا ولم تغِب الأرض عن كل قصائده. لم ينسَ أبو العلاء المعتقلين والمعتقلات في السجون الإسرائيلية وكان يذكر أسماء بعضهم في أغانيه الشعرية، وكذلك غنى للمقاتلين وتغنّى بالبندقية، خلّد في شعره معركة الكرامة ويوم الأرض ومجزرة دير ياسين وتل الزعتر وجنوب لبنان، لقد كان مؤرخاً صادقاً لعمليات الثورة الفلسطينية، وانتقد كامب ديفيد بأسلوبه الساخر. وكان أبو العلاء يشارك في العديد من المهرجانات العالمية كمهرجان برلين في العام 1977 والذي حظي فيه الشاعر باحتفاء قل نظيره، ومهرجان قطر، وقدّم أبو العلاء في مهرجان رام الله (قبل العام 1967) أوبريت وطنية.
وكان الشاعر لشدة حماسه الوطني يقيم العديد من المهرجانات لصالح الثورة الفلسطينية، ومن تلك المهرجانات مهرجان في الجامعة العربية شارك فيه المطرب اللبناني نصري شمس الدين والمطربة سميرة توفيق. وغنى شمس الدين له:
يا طير يا طاير على فلسطين .. بكّير صبحها ومسّيها
سلم عليها وقلها جايين .. جايين نحرّر أراضيها
وغنت سميرة توفيق للشاعر:
حرّروني يا رجالي .. وافتدوني بكل غالي
تعامل الشاعر مع العديد من الملحنين منهم: صبحي أبو لغد، عفيف رضوان، زكي ناصيف. ومن الفنانين الذين تعامل معهم: نصري شمس الدين، سميرة توفيق، فايزة أحمد، سعاد هاشم، سمير يزبك، فهد بلاّن، غازي الشرقاوي، وبعد وفاته غنى له عدد من الفنانين مثل علي حليحيل وعاصي الحلاني. كما كان مرجعاً ومراجعاً لغوياً للعديد من الشعراء أبرزهم الشاعر الفلسطيني معين بسيسو.
وفي 24/10/1979 توقف قلب الشاعر عن الكلام، وفي اليوم التالي خرجت جماهير الشعبين الفلسطيني واللبناني تودّع الشاعر الثائر يوسف حسون (أبو العلاء) في موكب مهيب انطلق من أمام مسجد الجامعة العربية ليوارى الثرى في مقبرة شهداء فلسطين. وقد أعلنت الأونروا والمؤسسات الفلسطينية إضراباً عاماً حداداً على روحه.
لم يترك شاعرنا ديوان شعر، لكنه ترك مئات الساعات من الحفلات الفنية الشعبية. وفيما يلي قصيدته الشهيرة، التي سُجن بسببها لدى السلطة اللبنانية في الخمسينيات.
مرسال فلسطين
مرسال يا ممتطي شملال كالسرحان تسبق نسيم الشمالي حين ترخيها
حثّ المطية وسير برفقة الرحمان وفي أقرب السبل يا مرسال مشّيها
وخذ هالرسالة وفيها من الدما عنوان ودمع الحزانى مطرّز عا حواشيها
ومضمونها منتهى النكبات والأحزان أسرع بها ولملوك العرب ودّيها
الأردن
اقصدْ سليل النبي "الهاشمي" بعمان وقللو على لسان قاصيها ودانيها
يا صاحب التاج هيك الأمل ما كان تفنى فلسطين وعيونك تراعيها
يِخْوي عليها الدويري وحولها عقبان وينوشها الذيب والآساد حدّيها
فلسطين مهد المسيح ومعرج العدنان عَمّال تبكي على حالة أهاليها
الجوع والبرد والتشريد والحرمان وأمراض عمْ يعجز الدكتور يشفيها
حيفا ويافا وصفد والناصرة وبيسان وعكا وبلدان لا أحصي أساميها
صارت أسيرة وفيها تحكموا العدوان ورايات صهيون رفّت في أعاليها
يا حيف يا حيف يا حسرة ويا خسران يا للأسافة ويا خيبة أمانيها
بعد الأردن ينطلق إلى مصر والعراق والحجاز واليمن والشام ولبنان ثم يوجه كلامه للقادة العرب، ثم يصف عودة المرسال، ويختم بأن الرهان على الشعوب.
توفيق زياد.. شاعر الأرض في يوم الأرض
أسمى طوبى.. نموذج المثقف العضوي النسائي الفلسطيني
راضي صدّوق.. الفلسطيني الذي غنّت أم كلثوم قصيدته المسروقة