دخل مصطلح "عبادة الفرد" القاموس السياسي عندما جاء على لسان الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف، خلال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي، لإدانة حكم سلفه جوزيف ستالين الذي طوقه من شايعوه، حبا أو خوفا، بهالة من القداسة وأسموه الأب الصغير للشعب، وكان ستالين باطشا بكل من يأنس منه اعتراضا على أساليبه في الحكم، وظلت عبادة الفرد ميسما لأنظمة الحكم الشيوعي في الصين (ماو تسي تونغ)، ورومانيا (تشاوتشيسكو) وكوريا الشمالية (كيم إيل سونغ وولده وحفيده).
وبصفة عامة فإنه ما من ديكتاتور إلا وحرص على تأليه نفسه بدرجة أو أخرى، بل جاء على البشرية حين من الدهر كان فيه الملوك وقادة الدول يزعمون فيه انهم مسنودون بالسماء ويحكمون بالحق الإلهي، وعرف التاريخ القريب نظائر لهم أمثال هتلر في ألمانيا النازية والذي كان الاعتراض على أي شيء يصدر عنه او عن حكمه يعتبر هرطقة تستوجب العقاب بالقتل او السجن، وفرانكو إسبانيا الذي أسبغ على نفسه لقب "نعمة من الله".
ولكن التاريخ يعرف رؤساء وصلوا إلى قصور الحكم برضاء شعوبهم إما عن طريق الانتخاب او الحر او عقب هبات شعبية على أنظمة شمولية، ثم ركبهم الغرور وحسبوا انهم معصومون من الخطأ وبالتالي من النقد، ولعل أبرز من يمثل هذه الفئة هو خوان بيرون الذي تم انتخابه رئيسا للأرجنتين ثلاث مرات، فأشبع معارضيه قمعا وبطشا ثم استخدم أبواق الدعاية والإعلام لإضفاء القداسة على شخصه وزوجته الأولى "إيفيتا"، ثم نصب زوجته الثالثة إيزابيل نائبا له، ورحل عن الدنيا عام 1974 وما زال في أرجنتين اليوم حزب يوصف بـ "البيروني"، تماما كما توجد أحزاب في العالم العربي توصف أو تتسمى ب"الناصرية" رغم رحيل الرئيس المصري جمال عبد الناصر عن الدنيا في أيلول/ سبتمبر 1970، دون ان يزعم أنه ناصري.
ولا شك أن السودان لم يعرف في تاريخه القريب رئيس حكومة يحظى بقبول شعبي واسع كما عبد الله حمدوك، الذي فاز بالمنصب عقب ثورة شعبية اقتلعت نظاما ديكتاتوريا دام ثلاثين سنة في نيسان/ أبريل 2019، وصار الرمز الداخلي والخارجي لتلك الثورة، وطوال العامين الماضيين ظل حمدوك يحظى بالاحترام والقبول من القوى التي أنجزت تلك الثورة، والتي اعتبرته الترياق المضاد للعسكر الذين انتزعوا لأنفسهم قسما كبيرا من السلطة في ظل شراكة مدنية عسكرية هشة.
علقت معظم القوى المدنية آمالا عراضا على حمدوك بوصفه حامل لواء الدولة المدنية المنشودة، ولم يخيب حمدوك الظنون في أسلوب معالجته لعدد من الملفات الشائكة، وعلى رأسها ديون البلاد الخارجية وشطب إسمها من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وبينما هو معلوم أن ما حمل العالم الخارجي إلى إعادة السودان إلى نادي المجتمع الدولي وإعفائه من قسم كبير من الديون كان التقدير للثورة الشعبية التي أطاحت بالنظام الذي راكم تلك الديون وزج بنفسه في أنشطة موصومة بالإرهاب، إلا أن كثيرين من أنصار "التحول الديمقراطي" رأوا أن حمدوك "شخصيا" هو صاحب الفضل في ذلك الإنجاز، فدخلت مجال التداول عبارة "شكرا حمدوك"، بل إن البعض يسميه "المؤسس" ويقصدون بذلك أنه مؤسس وواضع لبنة السودان الجديد.
وفي 25 تشرين أول/ أكتوبر المنصرم قام قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان بانقلاب على حكومة حمدوك، واعتقل حمدوك وعددا من الوزراء والنشطاء السياسيين، فانفجرت براكين الغضب الشعبي رافضة للانقلاب ومعلنة أن وجود العسكر في دهاليز الحكم كما كان الحال خلال العامين الماضيين فيه إجهاض لغايات الثورة، وأدرك البرهان وجماعته أنهم أقدموا على أمر عواقبه وخيمة عليهم وعلى طموحاتهم، فاستنجدوا بحمدوك وعرضوا عليه العودة الى منصبه، باعتبار أنه وجه مقبول شعبيا.
أوقع حمدوك شاكريه ومن رأوا فيه "المؤسس" في حرج بالغ، ولكن نزعات عبادة الفرد الكامنة في جينات الشعوب التي عانت من القهر طويلا وعاشت على أمل قدوم منقذ، جعلت هؤلاء يكابرون بدرجة إشاعة أن حمدوك هو الذي تلاعب بالعسكر، وأنه سيفاجئ الجميع في منعطف ما بإجراءات تجعل المكون المدني في الحكم هو الطرف الأقوى في المعادلة،
عاد حمدوك إلى منصبه بعد التوقيع مع البرهان على اتفاق إطاري هو في جوهره نفس بيان الانقلاب محفوفا ببعض الرتوش التجميلية، وليس فيه إشارة لدور القوى المدنية في الحكم، لأنه يعطي مجلس السيادة الذي أعاد البرهان تشكيله صلاحيات الحل والعقد، بينما غابت الإشارة لصلاحيات رئيس الوزراء ما عدا عبارة معممة عن سلطته في تشكيل حكومة من التكنوقراط (وحتى هنا لا يملك حمدوك حق تسمية وزيري الدفاع والداخلية، أو اختيار الوزراء الذين يمثلون الحركات المسلحة التي شاركت في الحكم بموجب اتفاق سلام تم ابرامه في تشرين اول/ أكتوبر 2020).
وبهذا أوقع حمدوك شاكريه ومن رأوا فيه "المؤسس" في حرج بالغ، ولكن نزعات عبادة الفرد الكامنة في جينات الشعوب التي عانت من القهر طويلا وعاشت على أمل قدوم منقذ، جعلت هؤلاء يكابرون بدرجة إشاعة أن حمدوك هو الذي تلاعب بالعسكر، وأنه سيفاجئ الجميع في منعطف ما بإجراءات تجعل المكون المدني في الحكم هو الطرف الأقوى في المعادلة، وبالمقابل ارتفعت أصوات عالية من دوائر شعبية كثيرة تتهم حمدوك بخيانة عهده مع قوى الثورة، والتنكر لزملائه الوزراء الذين عانوا من الاعتقال وقالوا إنه صار مجرد "باشكاتب" مدني لدى سلطة عسكرية قابضة وغاشمة.
وما بين الشيطنة والتقديس يجد حمدوك نفسه في مهب الريح، فقد انفضت عنه معظم القوى السياسية الفاعلة في الساحة، ووجد من ما زالوا يرجون منه "الخير" أنفسهم في نفس الخندق مع القوى التي تناصر الانقلاب والتي تسعى لأن تكون الحاضنة الجديدة لحكومة حمدوك الجديدة إذا.............. تسنى له تشكيلها.
البرهان عصِيُّ الفهم شيمته الغدر
زمرة البرهان بين العِيّ والغَيّ