كتاب عربي 21

البرهان يسعى الى حتفه بظلفه

1300x600
تحوَّل عبد الفتاح البرهان من نكرة الى معرفة في 12 نيسان/ أبريل من عام 2018، عندما صار رئيسا للمجلس العسكري الانتقالي الذي شكلته قيادات الجيش السوداني ليمثل رئاسة الدولة بعد سقوط نظام عمر البشير. ومنذ يومه الأول في القصر بدا واضحا أن البرهان ناكر لجميل الثوار السلميين الذي رابطوا في الشوارع والساحات بالملايين منذ منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2018 ناشدين إسقاط نظام البشير، ثم جاء الفريق عوض بن عوف، نائب البشير، إلى القصر رئيسا للمجلس العسكري، ولكن الثوار أطاحوا به بعد 24 ساعة مما مهد الطريق للبرهان للحلول محل ابن عوف. وهكذا فإنه لولا ان الجماهير التي اسقطت حكم البشير أرغمت ابن عوف على الاستقالة لما كان للبرهان شأن في العمل العام.

لم يكن البرهان أهلا للثقة في أي مرحلة من مراحل صعوده لتصدر المشهد السوداني، فقد أنكر جمائل جمهور الثورة عليه، بل انقلب على من صنعوا الثورة، وسعى لتنصيب نفسه حاكما مطلقا للسودان مسنودا بعسكريين لا يعصون له أمرا، جلس معهم بعد أقل من شهرين من سقوط البشير، ورتبوا ونفذوا مجزرة بشعة بحق الثوار المدنيين، قطعوا إثرها خدمة الإنترنت في عموم البلاد، وتجلت ساعتها عبقرية الناطق باسمهم شمس الدين الكباشي الذي أعلن أنهم وبعد تلك المجزرة اكتشفوا أن الإنترنت "مهدد أمني"، ولكن تسونامي الغضب الشعبي في 30 حزيران/ يونيو 2019 أرغم العسكر على القبول على مضض بتقاسم السلطة مع المدنيين، والقنوع بمناصب تشريفية في مجلس السيادة (رئاسة الدولة الجماعية).
لم يكن البرهان أهلا للثقة في أي مرحلة من مراحل صعوده لتصدر المشهد السوداني، فقد أنكر جمائل جمهور الثورة عليه، بل انقلب على من صنعوا الثورة، وسعى لتنصيب نفسه حاكما مطلقا للسودان مسنودا بعسكريين لا يعصون له أمرا

ويوم الاثنين (24 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري) كشّر البرهان عن أنيابه ونفّذ مخططا ظل يعد له على مدى شهور طوال بالاستيلاء على السلطة، ولأنه يدرك أنه بلا شرعية ثورية او دستورية فقد برر الانقلاب بدواعي تصحيح "مسار الثورة"، بالاستناد إلى الوثيقة الدستورية التي تقنن وتحدد شكل الحكم الانتقالي بعد سقوط نظام البشير. وهنا تجلت السذاجة وقلة الخبرة السياسية، فعلى سبيل المثال فقد أعلن كما يفعل جميع الانقلابيين عن فرض حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد، بينما تنص الوثيقة التي يزعم أنه يتكئ عليها؛ على أن فرض حالة الطوارئ يكون بطلب من مجلس الوزراء يصادق عليه المجلس التشريعي (كانت صلاحياته مؤقتا بيد مجلسي السيادة والوزراء مجتمعين)، ولكن البرهان أعلن حل المجلسين المناط بهما قرار الطوارئ.

وكما يفعل كل من يريد أكل الكعكة والاحتفاظ بها في نفس الوقت، فقد قام البرهان في بيان انقلابه بتعطيل العديد من مواد الوثيقة الدستورية التي زعم التزامه ببنودها، كي يعطي نظامه المنشود صلاحيات واسعة، ولكن فات عليه تعريف نفسه: أي بأي صفة قام بما قام به، وأشبع وثيقة انقلب عليها ترقيعا، وقام بتفكيك جميع هياكل الحكم. وكانت سذاجته السياسية في أبهى تجلياتها عندما قرأ بيان الانقلاب بوصفه رئيسا لمجلس السيادة؛ الذي قام بحله واعتقال بعض أعضائه المدنيين.
كانت سذاجته السياسية في أبهى تجلياتها عندما قرأ بيان الانقلاب بوصفه رئيسا لمجلس السيادة؛ الذي قام بحله واعتقال بعض أعضائه المدنيين

وكما فعل البرهان وصحبه بعد تنفيذ مجزرة حزيران/ يونيو 2019، فقد قطعوا يوم تنفيذ انقلابهم خدمات الإنترنت، وعطلوا المكالمات الهاتفية المحلية تحسبا لردود الفعل الشعبية الرافضة للانقلاب، ولمنع رافضي الانقلاب من التواصل لتنظيم صفوفهم وفضح افتقار البرهان للسند الشعبي، ولكن تفجرت نوافير الغضب حتى قبل أن يذيع البرهان بيانه الذي رمى من ورائه تنصيب نفسه حاكما عاما على السودان بسند من كبار معاونيه من العسكر (سيقوم حتما بتشكيل مجلس يضم عددا من قيادات الجيش لتولي المهام التي كانت مسنودة إلى مجلس السيادة، على أمل أن يبعد عنه ذلك شبهة "حكم الفرد"). وشهدت مدن السودان الكبرى مظاهرات حاشدة رفضا للانقلاب، وعاد جنجويد محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ساعد البرهان الأيمن، إلى الشوارع ليشبعوا الناس تنكيلا وبطشا.

كان مقالي هنا في "عربي21" في 16 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري بعنوان "انقلاب البرهان الناعم يخشوشن"، وها هو اليوم يبلغ شأوا عاليا في الخشونة، فقد شهد يوم الاثنين (يوم إشهار الانقلاب) مدى الوحشية التي يتسم بها العسكر في مسعاهم للسطو على السلطة، عندما تم استخدام الذخيرة الحية بعشوائية حصدت الأرواح وأوقعت زهاء 200 جريح.
قوى الثورة التي أسقطت نظام عمر البشير الأكثر عتوّاً وقوة من أي نظام قد يحاول البرهان إنشاءه، عازمة ليس على التوصل الى صيغة جديدة لشراكة مدنية- عسكرية لإدارة مرحلة انتقال السودان الى نظام ديمقراطي حقيقي، بل - وكما هو معلن - طرد البرهان وبطانته من المشهد

ما جعل البرهان يلجأ الى انقلاب مكتمل الأركان بدلا من السعي الناعم للحصول على مزيد من الصلاحيات لنفسه كرئيس لمجلس السيادة، هو أنه كان يتعين عليه النزول عن رئاسة المجلس المدني في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، وكان بذلك سيفقد رئاسة خمسة لجان ومفوضيات عليا. ولكن ما يقلق منام البرهان وحميدتي أكثر، هو أن لجنة التحقيق في مجزرة حزيران/ يونيو شارفت على الانتهاء، وطالما اعترفا بأنهما شاركا في التخطيط لها، فإن كليهما ضالع بشكل أو آخر في جريمة لا تسقط بالتقادم.

لم يكن البرهان يحظى بسند شعبي ذي وزن منذ أن جلس على كرسي رئاسة مجلس السيادة، وبانقلاب يوم الاثنين الماضي يكون قد شرع في السقوط العمودي المتسارع، فقوى الثورة التي أسقطت نظام عمر البشير الأكثر عتوّاً وقوة من أي نظام قد يحاول البرهان إنشاءه، عازمة ليس على التوصل الى صيغة جديدة لشراكة مدنية- عسكرية لإدارة مرحلة انتقال السودان الى نظام ديمقراطي حقيقي، بل - وكما هو معلن - طرد البرهان وبطانته من المشهد تماما، وبهذا يكون البرهان قد انقلب على حظوظه فكان كمن مشى قاتلا فعاد قتيلا.