يثير ما حدث ولا يزال يحدث في تونس منذ تجميد دستور 2014 من جانب الرئيس قيس سعيد، وسيطرته على كل السلطات الأخرى في يديه، حالة من القلق الدائم، وهو المسار الذي بدأه في نهايات تموز/ يوليو الماضي بتجميد مجلس النواب وتفعيل الفصل 80 من الدستور بمبرر وجود الحالة الاستثنائية، وتجاهله للشروط الأخرى الواردة في النص وغير عابئ بإهدار الدستور، ثم إصدار الإجراءات الأخيرة في 22 أيلول/ سبتمبر الماضي التي جمع بموجبها السلطتين التنفيذية والتشريعية بين يديه، وهو ما يذكرنا بقيام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بإجراء عدد من التعديلات الدستورية في 2019، بما ينتهك الأساس القانوني والدستوري الذي وصل من خلاله للسلطة، ليطيل السيناريو الجديد إمكانية استمراره إلى 2030.
وللمفارقة أن كلا من الدستورين حظيا بأغلبية شعبية في نفس العام ولم يتجاوز تطبيق كل منهما 4 و7 سنوات على التوالي. وفتح دستور تونس الباب كاملا للحقوق والحريات المختلفة، وأضاف مساحة من التوازن السياسي بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. ولم يتوقع أشد المتشائمين السيناريو الذي قام به الرئيس التونسي القادم من خلفية مدنية، والمفارقة كونه أستاذا للقانون الدستوري، لا من خلفية عسكرية تؤمن بالأوامر والتعليمات ومفهوم السمع والطاعة، وهو ما لم يتجرأ عليه الرئيس الراحل قائد السبسي المحسوب على النظام القديم.
وحالة سعيد أو السيسي ليست الأولى ويبدو أنها لن تكون الأخيرة في العالم العربي، فقد سبق أن فعلها الرئيس الراحل أنور السادات بتعديل الدستور عام 1980، بما يفتح المدد الرئاسية إلى ما لا نهاية، وهو ما لم يستفد به بل استفاد به خلفه الرئيس مبارك الذي استمر في السلطة لثلاثين عاما.
وكان الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس الراحل محمد مرسي بداية لغضب شعبي انتهى بتظاهرات 30 حزيران/ يونيو، الأمر الذي استغلته المؤسسة العسكرية لإقصائه من السلطة، وتنفيذ سيناريو 3 تموز/ يوليو المعروف.
وللأسف دأب الكثير من القادة والرؤساء العرب على إهدار الدستور الذي يعد الوثيقة الأساسية الحاكمة للعلاقة بين السلطات، والتي تحدد حقوق وواجبات كل منها تجاه الأخرى، وحقوق المواطنين تجاه السلطة، بما يخالف الوضع الطبيعي الذي اعتدنا رؤيته في بلدان العالم المتقدم، كما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية في عهد ترامب بمحاولة إهدار نتيجة الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ووقوف الأغلبية بما فيهم الجمهوريون ضد هذا المسار.
ودائما ما يتم إهدار الدستور بمقولات فارغة المضمون لتبرير الاستبداد، بهدف تغيير الأسس الرئيسية التي قام عليها الدستور، بما يؤدي إلى تهميش السلطات الأخرى وجمع السلطات كلها بين يدي الفرد الملهم.
من هذه المقولات أن "الدستور ليس قرآنا"، أو أن الدستور "صيغ في ظروف خاصة" أو بتبريره بممارسات معينة لطرف سياسي ما، بينما واقعيا يأتي التعديل ملبيا لرغبات كامنة في ذهن الحاكم الديكتاتور. فالسلطة جذابة إلى حد لا نهاية له، ولا ترى أنه من الضروري أن تتقيد برقابة سلطة أخرى، فلا صوت يعلو على صوت الرئيس، وهو ما لن يستجيب له النظام الدستوري السابق في الحالتين التونسية والمصرية.
ويثير هذا الأمر من جانب آخر النظرة التي يتبناها الرئيس الجديد لنفسه، أو يسعى حواريّوه في أجهزة الإعلام والأجهزة الأمنية التي تريد تحقيق مصالحها الخاصة إلى الترويج لها، بأنه دائما المنقذ للشعب والذي سيُخرج البلد من الهاوية ويحارب الفساد ويصل إلى الاستقرار، وهو ما يبرر التضحية بنصوص الدستور التي تقيد إرادة الرئيس الذي يرى نفسه فوق السلطات، ولذلك لا بد من تصحيح الأوضاع بهندسة نظام سياسي جديد يتلاءم مع رؤية الرئيس الملهم، فالغاية تبرر الوسيلة.
الأمر الثاني أن هذه التغييرات رفعت لواء الإنقاذ من جماعة الإخوان وحركة النهضة في دول الربيع العربي، وخاصة مصر وتونس اللتين سادتهما الرغبات الانتقامية في البداية من الحركتين، ثم دارت الطاحونة ضد كل الاتجاهات والقوى السياسية الأخرى، وانتهت أيضا بحصار مطلق للحريات كافة وفتح أبواب السجون على مصراعيها في كل منهما.
السؤال الأهم، كيف يتم انتخاب هذا الرئيس أو ذاك وفقا لنظام سياسي محدد سلفا، وهو يعرف قواعده التي جاء على أساسها، ويتجرأ على تغيير هذه القواعد، لكي تتناسب مع رغباته بالاستمرار في السلطة أطول ما يستحق ويفرض هيمنته على السلطات الأخرى التشريعية والتنفيذية، خصوصا إذا كان قد قدم وعودا سابقة بأنه لن يرشح نفسه للرئاسة، أو أنه سيكتفي بمدتين فقط.
والتحدي الرئيس بوجود دور أساسي للشعوب في مواجهة هذا المنطق الذي يستهين بنظامها الدستوري السابق، ويبرر لكل من رغبات مستبدة بالوصول إلى السلطة ثم تركيزها بين يديه.
ويتصل هذا التحدي بضرورة الوعي الشعبي بحماية الدستور لحل أي نزاعات بين أطراف اللعبة السياسية، واستكمال بناء المؤسسات الأخرى الموكلة بهذا الدور، مثل المحكمة الدستورية، واحترام الدستور، والتوافق على نظام انتخابي يضمن تمثيل كافة القوى السياسية ومواجهة توغل الأجهزة الأمنية في المسارين السياسي والإعلامي.
وفي النهاية، لن يحدث تقدم في بلداننا العربية طالما استمر نظام الحاكم الفرد، والذي لن يستطيع تحقيق أي نهوض اقتصادي أو اجتماعي في ظل غياب الالتزام بنصوص الدستور وتغييب المشاركة السياسية من جانب الأطراف الأخرى.
بعد حشود 26 سبتمبر.. هل يراجع قيس سعيد نفسه؟