تتعرض تجربة الانتقال إلى
الديمقراطية في
تونس لاختبار عصيب، مفتوح على أكثر من احتمال، فقد تُفتح البلاد على موجة حادة من الانقسام المجتمعي والتوتر السياسي لا تُعرف على وجه اليقين تطوراتها ومآلاتها، وهو أفق لا يقبله عاقل، كما لا يرضاه متابع لتجربة أبهرت العالم والمنطقة العربية من محيطها إلى خليجها، وراهنت عليها القوى الحية، التواقة إلى التغيير الديمقراطي السلمي على نجاحها، وترسخ ثقافتها في مجال سياسي عربي؛ أصيبت تربة ثقافته السياسية بالجفاف والتصحر منذ عقود. كما قد تُشكل مجرد كبوة، سرعان ما تخرج منها تونس سالمة ومتعافية؛ إن أنصتت لصرخات أبنائها، كل أبنائها، ورجحت نداء المستقبل، وحفظ الوطن، وهو أيضا ليس أفقا عصيا على الإنجاز.
يستمد التخوف أعلاه أهميته، ومشروعية استحضاره، من طبيعة الوقائع المتعاقبة في تونس، منذ لجوء الرئيس التونسي إلى إعمال الفصل الثمانين من دستور 2014، والتفاعلات التي صاحبت الإعلان عن حالة الاستثناء داخليا ودوليا. فقد تم تأويل
الدستور، وتحديدا فصله الثمانين بطريقة أكثر ما يقال أنها خاصة، وشخصية، وغير متناغمة مع الوثيقة الدستورية في مبناها ومعناها. والحال أن في غياب جهة دستورية (المحكمة الدستورية) كفيلة بممارسة وظيفة التأويل الدستوري، لم تكن هناك إمكانية لترجيح التوازن، وتجنيب الدستور غلو التحكم الشخصي في قراءة أحكامه وتوظيفها لترتيب أوضاع سياسية؛ قد يكون لها بالغ الأثر على سلامة تطبيق الدستور، وضمان السير العادي والطبيعي لمؤسساته، بل قد تُفضي إلى إيقاف تجربة الانتقال الديمقراطي برمتها، وإرجاع البلاد التونسية إلى المربع الأول، فتضيع لمجتمعها عشر سنوات من التدافع السياسي، والصراع الاجتماعي من أجل الوفاء لشعارات "ثورة الياسمين"، أي "حرية، كرامة، وعدالة اجتماعية".
من جهة ما حصل ويحصل على مستوى مؤسسة الرئاسة، ثمة شبه إجماع بأن رئيس الدولة، مدعوما بالجيش ومؤسسة الأمن، سائر في تطبيق منظوره لإخراج تونس من النفق الذي وصلت إليه
يمكن التأكيد، دون تردد، بأن واقع الحال لا يسمح بمعرفة إلى أن تسير تونس؟ وفي أي أفق هي متجهة؟ وما هي المشاهد الممكنة التي ستنعطف صوبها تطور وقائعها السياسية؟ فمن جهة ما حصل ويحصل على مستوى مؤسسة الرئاسة، ثمة شبه إجماع بأن رئيس الدولة، مدعوما بالجيش ومؤسسة الأمن، سائر في تطبيق منظوره لإخراج تونس من النفق الذي وصلت إليه، والذي بتقديره، موسوم بـ"مرض النفوس وفساد روحها، وتغلغل أصحابها في مستنقع السياسة غير الصالحة للبلاد والعباد"، وأن الأوان حان لإيقاف المرض، وبتر تعفناته من جذورها. لذلك، لم يتراجع الرئيس في إنهاء حالة الاستثناء عند انقضاء أجلها الدستوري (شهر واحد)، بل قام بتمديدها إلى إشعار غير مسمى، ولم يوضح جزئيا خطته في الإصلاح إلا بعد مرور مدة، وتحت تصاعد مطالبات الداخل والخارج.
واللافت للانتباه، أن قرار تعيين الوزيرة الأولى، وباقي أعضاء الحكومة، تم في إطار حالة الاستثناء، ودون العودة إلى أحكام الدستور ذات العلاقة، لأن البرلمان، وهو صاحب الحق في الموافقة على رئيس الحكومة وأعضائها، معطّل منذ صدور الإجراءات الاستثنائية في 25 تموز/ يوليو 2021. وفي المقابل، لم تنفع المطالبات بإرجاع الحياة السياسية التونسية إلى حالتها الدستورية العادية، والعمل على تغليب الحوار لإيجاد مخارج حقيقية لما سمي "الأزمة التونسية". والواقع، أن فئات واسعة من المجتمع التونسي، حتى من كان منها مترددا في بداية اندلاعها، سرعان ما بدأ ينفد صبرها، ويزداد تخوفها من استمرار حالة الاستثناء، وتوسع آثارها السلبية والعميقة على الاقتصاد والمجتمع.
فئات واسعة من المجتمع التونسي، حتى من كان منها مترددا في بداية اندلاعها، سرعان ما بدأ ينفد صبرها، ويزداد تخوفها من استمرار حالة الاستثناء، وتوسع آثارها السلبية والعميقة على الاقتصاد والمجتمع
فهكذا، لو افترضنا أن الرئيس "
قيس سعيد" استمر في تمديد حالة الاستثناء، وذهب بعيدا في تأويل أحكام الدستور، أو الإقدام على تغييره بالتدريج، وهذا ما يبدو ممكنا من خلال الإجراءات التي أقدم عليها حتى الآن، فإن الآفاق المنتظرة في البلاد لن تسمح بتوقع حصول استقرار فعلي ومتوازن، بل ستنعطف تونس نحو احتمالات صعبة ودقيقة، وستضيع نتيجة ذلك فرص إنجاز التغيير المنتظر في ربوعها.
ثم إن مجتمعا حيا، كما هو حال تونس، لن يتقبل - دون شك - تغيير وثيقته الدستورية بغير الطريقة التي وضعت بها، أي الحوار المتنوع والمتعدد، والأفقي بين كل مكونات مجاله السياسي والاجتماعي. فعلاوة على مشهد الانقسام السياسي والمجتمعي الممكن حصوله في حالة استمرار مؤسسة الرئاسة في إدارة البلاد لوحدها، واستنادا إلى تأويل خاص لأحكام الدستور، فإن ثمة أضرارا أخرى ستطال اقتصاد البلاد ومكانته الدولية، وهو ما يخاف الكثير من التونسيين تعرض بلادهم إليه، إذ كل التقارير الاقتصادية والمالية والتجارية عن حالة تونس لا تطمئن التونسيين في الداخل، ولا تحفز شركاءهم في محيطهم الإقليمي والدولي على المحافظة على الثقة في مؤسساتهم الاقتصادية والمالية.
يمكن أن تكون لرئيس الجمهورية نية حسنة في التغيير، وهو ما لا يشك فيه الكثير ممن يعرفونه عن قرب، بل إن الرئيس حظي بأغلبية 72 في المائة من أصوات المشاركين في الاقتراع الرئاسي، الذي مر في ظروف لا غبار عليها، لكن التغيير نحو الأفضل يحتاج إلى بناء التأييد، وأكثر ما يحتاج إليه استيعاب سياقات التغيير، وترجيح الممكن واستبعاد المستحيل، لأن "السياسة في النهاية فعل الممكن"، وليست عملا إراديا مقطوعا عن بنيته الحاضنة.. تونس في حاجة إلى كل أبنائها الخيّرين لحفظ استقلالها، وصيانة سيادتها، وهي في حاجة أيضا إلى الإنصات لنداء المستقبل.. مستقبل تونس لن يكون سوى بوحدة أبنائها.