كما شاركت المرأة الفلسطينية في النضال والبناء السياسي الفلسطيني، فإنها لم تتوانَ عن المشاركة في البناء الثقافي أيضاً. وتحديداً، لم يقتصر بناء النهضة الشعرية الفلسطينية المعاصِرة على الرجال، غير أنها تأخرت قليلاً، فلم تظهر في الموجة الأولى للنهضة ولا الموجة الثانية، بل ظهرت في جيل المخضرمين بين الموجتين الثانية والثالثة، الجيل الذي الذي عاش ما قبل النكبة وصعود الشعر ودوره في تلك الحقبة، وشهد النكبة ومآسيها، وعايش تردداتها بعد ذلك حتى انطلاق الموجة الشعرية الثالثة.
لائحة الشعر الفلسطيني تزخر بأسماء شواعر فلسطينيات، لمعت أسماؤهن في سماء الشعر الفلسطيني وظهر دورهنّ وعطاؤهنّ في مسيرة الشعر الفلسطيني. ومن أبرز شواعر فلسطين: فدوى طوقان، سلمى الخضراء الجيوسي، ليلى السايح، مي الصايغ، ليلى علوش، لينة الجيوسي، سميرة أبو غزالة، أسمى طوبى، دعد الكيالي، نتالي حنضل، حنان شعراوي، أمينة قزق، ليزا سهير مجج، نيومي شهاب ناي، نبيلة الخطيب، مريم العموري، وغيرهنّ..
فدوى طوقان التي بدأت في كتابة الشعر الرومانسي بالأوزان الخليلية التي أجادتها، ثم انتقلت إلى الشعر الحر في بدايات حركته واستمرت فيه، وعالجت الموضوعات الشخصية والجماعية والوطنية. وكانت من أوائل الشواعر اللواتي عملن على تجسيد العواطف الصادقة في شعرهن، وقد وضعت بذلك أساسات قوية للتجارب الأنثوية في الحب والثورة واحتجاج المرأة على المجتمع. وما لبثت أن سيطرت على شعرها موضوعات المقاومة حين سقطت البلاد في براثن الاحتلال الصهيوني.
وفي هذا قالت قصيدة جاء فيها:
يا فلسطين اطمئني
أنا والدار وأولادي قرابين خلاصك
نحن من أجلك نحيا ونموت..
وأيضاً قصيدة "بعد الكارثة":
فالضربة الصّمّاء قد ألهبت .. في كل حرّ جذوة تضطرمُ
لن يقعد الأحرار عن ثأرهم .. وفي دم الأحرار تغلي النقم
لا تكمن أهمية فدوى طوقان في كونها استمراراً لأخيها إبراهيم، أو لأنها ذكّرت العالم به وخلدت ذكراه من النواحي العائلية والاجتماعية وتعليمه لها من خلال كتابها عنه "أخي إبراهيم"، بل لأنها تابعت صيرورتها ومسارها لتكون رمزاً شعرياً وطنياً نسوياً، ولم تتوقف عند القوالب الجاهزة حتى في الشعر، فكانت من أوائل الذين كتبوا الشعر الحر (بِغضّ النظر عن رأيي الخاص بما يسمى الشعر الحر). حتى أُطلقت عليها عدة ألقاب تدل على ريادتها، كان منها اللقب الذي أطلقه الشاعر محمود درويش عليها "أم الشعر الفلسطيني".
فمن هي شاعرتنا؟
شاعرة وأديبة ولدت في مدينة نابلس الفلسطينيّة عام 1917 وتوفيت فيها عام 2003، تنتمي إلى عائلة عُرفت بتشدّدها وتقاليدها الخاصة، مما جعلها تجد في الشعر سبيلاً للتعبير عن ذاتها وعمّا يختلج في نفسها.
تلقّت فدوى تعليمها الابتدائي في مدارس مدينة نابلس، لكنّها لم تتمكن من إكمال إلا المرحلة الابتدائية قبل أن تضطر لمغادرة المدرسة، فقد شاء القدر أن تصطدم بصخرة التقاليد الأسرية الصارمة التي حرمتها من متابعة دراستها في المدرسة، لكنّها وجدت إلى جانبها أخاها شاعر فلسطين إبراهيم طوقان الذي أخذ بيدها وأصبح معلّماً لها.
وكان لقصيدتها في رثاء أخيها إبراهيم أثر بالغ على مسيرتها الشعرية، فقد تلونت القصيدة بلوعة الفراق والحسرة والتأثر الشديد، فجاءت صادقة المشاعر والأحاسيس، وحققت انتشاراً واسعاً، ومنها:
حياتي دُموعْ
وقلبٌ وَلوعْ
وشوقٌ وديوانُ شعرٍ وَعودْ
وفي ليلِ سُهدي
يُحرِّكُ وَجْدي
أخٌ كان نَبْعَ حنانٍ وحبّ
وكان الضياءَ لِعيني وقلبي
فهبَّتْ رياحُ الرّدى العاتية
وأطفأتِ الشعلةَ الغاليةْ
كتب فدوى في بداياتها الشعرية باسم "دنانير" وأطلق عليها شقيقها إبراهيم اسم "أم تمام"، لكنها ما لبثت أن اشتُهرت باسم "المطوّقة" إشارة لانتسابها لآل طوقان، وربما إشارة إلى أنها كانت مطوّقة في بيت أبيها، وربما أيضاً للتعبير عن رومانسيتها متمثلةً كتاب "طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي.
كرّست فدوى طوقان حياتها للشعر والأدب حيث أصدرت العديد من المجموعات الشعرية والمؤلفات وشغلت عدة مناصب جامعية، بل كانت محور الكثير من الدراسات الأدبية العربية (أُعدّت عنها تسع رسائل ماجستير ودكتوراه).
إضافة إلى ذلك فقد حصلت فدوى طوقان على العديد من الأوسمة والجوائز منها: جائزة الزيتونة الفضية الثقافية لحوض البحر الأبيض المتوسط، إيطاليا 1978. جائزة سلطان العويس، الإمارات العربية المتحدة، 1989. وسام القدس، منظمة التحرير الفلسطينية، 1990. جائزة المهرجان العالمي للكتابات المعاصرة، إيطاليا 1992. وسام الاستحقاق الثقافي، تونس، 1996. وسام أفضل شاعرة للعالم العربي، الخليل.
وأصدرت هي الكتب التالية: ديوانها الأول وحدي مع الأيام (1952). وجدتها (1957). الليل والفرسان (1969). اللحن الأخير (2000). على قمة الدنيا وحيداً. تموز والشيء الآخر. أمام الباب المغلق.
ومن آثارها النثرية: أخي إبراهيم (1946). رحلة جبلية رحلة صعبة (سيرة ذاتية، 1985). الرحلة الأصعب (سيرة ذاتية، 1993).
من شعر فدوى طوقان
لم تتردد شاعرتنا في إعلان تفاؤلها بالمقاومة بعد نكسة عام 1967 كما عبرت في قصيدتها "الطوفان والشجرة":
ستقوم الشجرة
ستقوم الشجرة والأغصانْ
ستنمو في الشمس وتخضر
وستورق ضحكات الشجرة
في وجه الشمس
سيأتي الطير
لا بدّ سيأتي الطير
سيأتي الطير
سيأتي الطير
ثم توجهت إلى الأرض المحتلة عام 1948، والتقت بمجموعة من الشعراء الشبان (رواد النهضة الثالثة)، وأهدتهم قصيدتها "لن أبكي"، ومنها:
على أبواب يافا يا أحبائي
وفي فوضى حطام الدورْ
بين الردمِ والشوكِ
وقفتُ وقلتُ للعينين: يا عينين
قفا نبكِ
على أطلالِ من رحلوا وفاتوها
تنادي من بناها الدارْ
وتنعي من بناها الدارْ
وأنَّ القلبُ منسحقًا
وقال القلب: ما فعلتْ؟
بكِ الأيام يا دارُ؟
وأين القاطنون هنا
وهل جاءتك بعد النأي، هل
جاءتك أخبارُ؟
هنا كانوا
هنا حلموا
هنا رسموا
مشاريع الغدِ الآتي
فأين الحلم والآتي وأين همو
وأين همو؟
ولم ينطق حطام الدارْ
ولم ينطق هناك سوى غيابهمو
وصمتِ الصَّمتِ، والهجرانْ
وحققت شاعرتُنا أمنيتَها بالموت في فلسطين، الأمنية التي سطرتها بالأبيات الآتية:
كفاني أموتُ على أرضِها
وأُدفنُ فيها
وتحتَ ثراها أذوبُ وأفنى
وأُبعثُ عشباً على أرضِها
وأُبعثُ زهرةْ
تَعيثُ بها كفُّ طفل نَمَتْهُ بلادي
كفاني أظلُّ بحضنِ بلادي
تراباً
وعشباً
وزهرة
ختاماً، تبقى فدوى رمزاً من رموز القضية الفلسطينية في جانبها الثقافي وجانبها النسوي، وقد جاورت كبار شواعر العرب المجددات مثل نازك الملائكة وغيرها، رغم أن التجديد لم يكن مستحباً لدى شعراء فلسطين في ذلك الوقت..
هذا "التجديد" سيسميه البعض تخريباً للقصيدة العربية، وهذه القضية لن تنتهي اليوم ولا غداً، وستظل مثار نقاش مستمر بين الشعراء والنقاد.. غير أن هذا لا يمنع أن فدوى طوقان نظمت الشعر و.. والنثر.
*كاتب وشاعر فلسطيني
الشاعرة كلثوم عرابي.. ذات المأساتين الجزائر-سطينية.. الهوية والأرض
الشاعرة سلافة حجاوي.. حملت اسم فلسطين في كل منافيها
دعد عبد الحي الكيّالي.. من غربتها صاغت "أغاريد الحنين للوطن"