في الوقت الذي كانت فيه الدولة العثمانية تعيش أسوأ حالاتها بسبب الانهيار الاقتصادي وخلوّ خزانتها من الأموال وذلك بالتزامن مع المؤامرات الخارجية والاضطرابات الداخلية؛ كان السلطان عبد الحميد الثاني يسعى إلى ربط الحجاز وغيرها من الأقاليم العربية بالعاصمة إسطنبول وذلك للحفاظ على هوية هذه الدولة مترامية الأطراف وحمايتها من الدول الاستعمارية التي عملت حينها على إضعافها داخليا وخارجيا؛ فأصدر أوامره عام 1900م بإنشاء خط سكة حديد من دمشق إلى المدينة المنورة مرورا بالعديد من المدن العربية، على أن يمتد الخط إلى مكة، إلا أن مخاوف شريف مكة على تجارته حالت دون قبوله لهذا الأمر، فتوقف الخط عند المدينة.
وقد كانت فلسطين التاريخية جزء من الدول التي شملها خط هذه السكة، وأسهم بالتالي في تشكيل هويتها الجغرافية فضلا عن تكريس هويتها وانتمائها العربي الإسلامي.
تعود فكرة إنشاء خط سكة حديد في منطقة الحجاز بحسب المصادر التاريخية التركية إلى النصف الثاني من القرن الـ19 الميلادي، حيث تم طرحها من قبل مهندس ألماني ذي أصول أمريكية، وبحلول عام 1891، أرسل عثمان نوري باشا، القائد العثماني المسؤول عن منطقة الحجاز تقريرا إلى عاصمة الخلافة إسطنبول، يشير فيه إلى أهمية بناء سكة حديدية بين جدة ومكة المكرمة، من أجل الحجاج.
وخلال نفس العام، وصل تقرير مفصل عن المشروع من جانب مدير أوقاف جدة أحمد عزت أفندي، إلى إسطنبول، وأولى السلطان عبد الحميد الثاني أهمية كبيرة بالتقرير، وكلّف مختصين بدراسته.
وشمل التقرير على تصور لإنشاء خط سكة حديد تبدأ من دمشق، وتتجه نحو المدينة المنورة، ومنها إلى مكة المكرمة.
وقال الدكتور عبد القادر حمّاد الأستاذ في جامعة الأقصى والباحث والخبير في السياحة الفلسطينية: "يعد مشروع السكة الحديد أحد مفردات المشروع الأكبر وهو إقامة الجامعة الإسلامية، حيث يهدف مشروع خط الحجاز إلى ربط الولايات العربية المتباعدة، والحفاظ على الوحدة الطبيعية لتلك الولايات، وبعث روح الوحدة الإسلامية، للصمود أمام التحديات الخارجية، فكان السلطان عبد الحميد الثاني يعلم أن هذه الفعاليات ستمكن العالم الإسلامي من استعادة مكانته في التوازن العالمي الجديد، ويعزز سلطته كخليفة للمسلمين".
وأوضح حمّاد في حديثه لـ "عربي21" أن السلطان عبد الحميد الثاني أعطى أوامره بإنشاء الخط في أيار/ مايو عام 1900م، وقرر أن يكون المشروع بأموال إسلامية خالصة فلم يلجأ للاقتراض، وشكل هيئة عليا من خيار رجال الدولة على مختلف تخصصاتهم، ترأّسَها عربيّ، وهو عزت باشا العابد من دمشق، حيث كان السلطان يُقرّب إليه العرب.
وقال: "أصر السلطان عبد الحميد الثاني على أن يكون تمويل قطار الحجاز قائماً على تبرعات المسلمين وان لا يتدخل الأجانب في تموينها أو إدارتها".
وأشار إلى أن السلطان وجه نداء للعالم الإسلام بأسره للتبرع من أجل هذا المشروع الذي يكون مِلْكا للأمة، وبادر هو بنفسه للتبرع من ماله الخاص وقرر دفع مائة ألف من صندوق المنافع، وأصدر قرارا بخصم 10% من رواتب الموظفين لصالح المشروع، إضافة إلى إجراءات أخرى منها التبرع بجلود الأضاحي وبيعها لصالح المشروع.
وقال حماد: "قدرت كلفة الخط بنحو 3.5 ملايين ليرة عثمانية، معظمها مساعدات شعبية من داخل السلطنة العثمانية وبلدان إسلامية أخرى إضافة إلى مساعدة ألمانية، من دويتشه بنك وشركة سيمنز على وجه الخصوص، فيما تبرع خديوي مصر عباس حلمي بكميات كبيرة من مواد البناء إضافة إلى تبرعات كثيرة من المسلمين عبر العالم".
وأضاف: "ولما كانت الميزانية المُخصصة للمشروع من خزانة الدولة (18%) لا تكفي لإنجازه، فقد أمضى السلطان عدة إجراءات لسد النقص حتى لا يلجأ للاقتراض من الدول الأجنبية".
وتصل سكة حديد الحجاز وهي سكة حديد ضيقة (بعرض 1050 ملم)، ما بين مدينة دمشق والمدينة المنورة في منطقة الحجاز، حيث بوشر العمل في سكة الحديد عام 1900 وافتتحت عام 1908 واستمر تشغيلها حتى 1916 في الحرب العالمية الأولى إذ تعرضت للتخريب بسبب مؤامرة إسقاط الدولة العثمانية بعد الحرب.
وأوضح حمّاد انه وخلال أعمال التصميم، قام المهندس التركي مختار بيه وهو مهندس أساسي في المشروع وكان له دور في اختيار المسار بمسح الطريق فوجد أنه من الأنسب تتبع خط قوافل الإبل القديمة (حج الشام) مع إجراء بعض التعديلات البسيطة.
وقال: "كان مسار خط الحج ينطلق من مدينة دمشق ويعبر سهل حوران ويمر بالمزيريب وعدد من المناطق جنوب سوريا وصولاً إلى مدينة درعا ثم إلى الأردن، حيث يمر بمدن المفرق والزرقاء وعمّان ومعان على التوالي، ويكمل سيره جنوباً إلى أن يدخل أراضي الحجاز حيث ينتهي بالمدينة المنورة".
وأوضح شارك في تشييد السكة حوالي 5000 إلى عامل أغلبهم من الجيش العثماني وللاهتمام بصيانتها، تم افتتاح معهد لتخريج مهندسي سكة الحديد في إسطنبول.
وقال: "وبما أن السكة تمر بأودية كثيرة تم إنشاء حوالي 2000 جسر من الحجر المنحوت، كما تم توزيع محطة على بعد كل 20 كم وأحيانا أقل لحراسة السكة وتوفير بئر أو خزان لحفظ المياه في كل محطة إذ تعبر في مناطق منعزلة موحشة لا يوجد قربها أي تجمع مدني".
وأضاف: "أن عمال السكة الذين وفدوا من جميع أنحاء العالم، عانوا كثيرا خلال عملهم في الصحراء من شدة الجوع والبرد والعمل الشاق، حتى أن بعضهم دفن على جوانب السكة، وكان معظمهم من الدول العثمانية والمغرب ومن جزيرة العرب نفسها ومن بعض الدول الأوروبية كإيطاليا واليونان".
وتطرق حمّاد إلى العقبات التي واجهت هذا المشروع والتي كان على رأسها عداء القبائل ونقص المياه الذي تم التغلب عليه لاحقا عن طريق حفر الآبار وإدارتها بمضخات بخارية أو طواحين هواء، وجلب المياه في صهاريج تسير على أجزاء الخط.
وقال: "إن بريطانيا كانت أكثر الدول قلقا من المشروع، فبعد أن ظنت على إثر الحرب الروسية العثمانية أن الدولة العثمانية دخلت مرحلة الانهيار، فوجئت بالمشروع الذي قلب تصوراتها رأسا على عقب، وبدا لها أن العثمانيين يستعيدون نفوذهم في المنطقة، خاصة وأن الدولة العثمانية لن تكون بحاجة إلى قناة السويس التي تسيطر عليها بريطانيا، والتي سعت لإفشاله عن طريق منع التبرعات الوافدة من المسلمين في شتى البلاد، وبثت أكاذيبها من خلال الجرائد التي تصدرها في مستعمراتها بأن الدولة العثمانية غير قادرة على إتمام هذا المشروع، وأن الأمر لا يعدو أن يكون دعاية لتنهب بها الدولة أموال المسلمين المتبرعين.
وأضاف: "ولما كانت الدولة العثمانية تمنح المتبرعين أوسمة، فقد منعتهم بريطانيا من تعليقها على صدورهم، كما قدمت بريطانيا اعتراضها على عبور الخط من مدينة معان الأردنية ووصوله إلى خليج العقبة، وبعد أن تم المشروع عملت على إفشاله بكل قوتها إبان الحرب العالمية الأولى.
وأشار حمّاد إلى أن موقف فرنسا لم يختلف كثيرا عن بريطانيا، فعارضت بشدة إنشاء خط بين القدس والعفولة، للحفاظ على نفوذها في سوريا وفلسطين، إلا أن ذلك لم يمنع الدولة العثمانية الأتراك عن إنجاز هذا المشروع.
وعن دوافع السلطان عبد الحميد الثاني لإنجاز هذا المشروع أكد حمّاد على أن هناك عدة دوافع منها ما هو ديني، ومنها ما هو سياسي وعسكري.
وأوضح أن من أهم هذه الدوافع هي تيسير وصول الحجاج والمعتمرين إلى الحرمين، حيث كانت تصل رحلة الحج إلى شهرين ويزيد تحت وطأة الظروف المناخية القاسية، فضلا عن التعرض إلى أخطار قطّاع الطرق، وأدى المشروع إلى ازدياد عدد الزائرين للأراضي المقدسة إلى 300 ألف زائر، واختصر المسافة التي كان تقطع في أربعين يوما وتصل لشهرين أو يزيد، إلى ثلاثة أيام فقط.
وأشار إلى أن تسهيل مهمة الدفاع عن الدولة العثمانية في أي جبهة تتعرض للاعتداء كانت من أهم الدوافع العسكرية حيث يساعد هذا الخط الحديدي على سرعة نقل القوات العثمانية إلى الجبهات وتوزيعها.
وشدد على أن المشروع كان يهدف إلى تعزيز سلطة الدولة في غرب الحجاز باستيعاب تلك الولايات التي لا تخضع للدولة بصفة تامة، ودفْع هذه الولايات وغيرها إلى الامتثال للقوانين العسكرية العثمانية التي تقضي بالدفاع المشترك عن دولة الخلاف، وتطوير الأنشطة التجارية، والتوسع الحضري ذو الحيوية.
وأشارت الباحثة في التاريخ أمية جحا إلى أن الدولة العثمانية حاولت في أواخر عهدها وتحديدا عام 1916م الربط بين مصر وفلسطين بخاصة وبين الدول العربية في آسيا وإفريقيا بشكل عام، من خلال استكمال مشروع خط حديد الحجاز البالغ طوله 1464 كيلو مترا، والذي تم إنشاؤه عام 1908م، واستغرقت مرحلة إنشائه ثماني سنوات؛ ولكن خط سكة حديد الحجاز توقف عن العمل بسبب ما تعرض له من تخريب واعتداءات على الدولة العثمانية, التي دخلت الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918).
أمية جحا.. كاتبة وباحثة فلسطينية
وأكدت جحا في حديثها لـ "عربي21" على أن خط السكة الحديد أدى إلى ازدهار مدن وقرى فلسطينية بأكملها، خاصة تلك التي تقع على مسارها، كما كانت سببًا لإنشاء كثير من التجمعات الاستيطانية اليهودية لاحقاً.
ويمتد شارع السكة بحسب جحا من جنوب القطاع حتى شماله، وقد كانت تلك السكة جزءاً من خطوط سكك حديد فلسطين، المملوكة بالكامل لحكومة الانتداب البريطاني (1920 ـ 1948م).
وقالت جحا: "كانت القطارات قبل عبورها مصر تقابل بلجنة للتفتيش عن الجوازات والتذاكر عند رفح، فقد كانت السكة تتكون من أربعة خطوط، خطان للمسافرين واثنان للتجار والبضائع".
وأشارت إلى أن شارع السكة، هو جزء من "خط سكك حديد سيناء العسكري"، الذي أنشأه الإنجليز عندما كانوا يحتلون مصر في بداية الحرب العالمية الأولى؛ لخدمة أغراضهم العسكرية في فلسطين، وأنشأوا لذلك كوبري الفردان الأول، وبحلول كانون الثاني/ يناير 1917 وصل الخط إلى العريش ومن ثم رفح في آذار/ مارس 1917، وبعد أن استقرت بهم الأوضاع في فلسطين، مدوا هذا الخط إلى داخل مدنها مثل القدس وبئر السبع.
وقالت جحا: "إن القوات البريطانية قامت بالاستيلاء على بئر السبع في تشرين الأول/ أكتوبر 1917 ودخلت غزة في تشرين الثاني/ نوفمبر، وقد تم تحويل فرع من هذا الخط إلى القدس بحلول حزيران/ يونيو ليستمر إلى طولكرم على مسار سكة الحديد الشرقية، ومنْ هناك قام الإنجليز ببناء خط مقياس معياري على شمال غرب الطريق الجديد إلى الساحل ثم شمالاً ليصل إلى حيفا بحلول نهاية عام 1918م".
وأضافت: "تعرضت خطوط سكة حديد فلسطين، بما فيها خط سيناء العسكري، إلى هجوم الثوار الفلسطينيين بالألغام، إذ كانت وسيلة لنقل عربات الجنود الإنجليز خلال ما كان يمسى بـ الثورة العربية الكبرى (1936 ـ 1939)، لمعارضتهم الهجرة الجماعية اليهودية إلى فلسطين، فقام البريطانيون بتحصين الجسور وزيادة الدوريات العسكرية المنتظمة على طول خطوط السكك الحديدية لصد الثوار".
وأكدت انه تمَّ حل شركة قطارات فلسطين عملياً في عام 1948 بعد انسحاب بريطانيا من فلسطين، وانتهاء فترة الاحتلال البريطاني، وقد استولت الدولة العبرية على الشركة بعد إعلان تأسيسها في نفس العام، ومنذ عام 1948 أخذت الحكومة الإسرائيلية على عاتقها إدارة خدمات القطارات.
وأشارت جحا إلى أن هذا الخط في الجانب المصري تعرض إلى مشاكل عديدة خلال الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945م)، كما تم نسف كوبري الفردان، خلال العدوان الثلاثي علي مصر عام 1956، وأعادت مصر إقامته بعد الانسحاب البريطاني ـ الفرنسي ـ الإسرائيلي، وأصبح هذا الخط هو وسيلة الاتصال مع قطاع غزة، ثم تم نسف الكوبري مجددا خلال نكسة 1967، واستخدمت إسرائيل فلنكات الخط وقطبانه في إنشاء خط بارليف الدفاعي بالنسبة لهم في حرب عام 1973م، وتوقف العمل به نهائيا في قطاع غزة.
ومن جهته أكد الكاتب والمحلل السياسي إبراهيم المدهون على أن خط السكة الحديد التي أنشاها السلطان عبد الحميد الثاني يعتبر مشروعا استراتيجيا أراد من خلاله وحدة الأمة ووحدة الدولة العثمانية ومواجهة الأخطار، حيث كانت المواصلات هي السلاح الأكثر تطورا في ذلك الوقت ممثلة بـ السكك الحديدية.
واعتبر المدهون في حديثه لـ "عربي21" المشروع نقلة نوعية في إدارة الدولة العثمانية آنذاك وفي سهولة الاتصال والتواصل مع أركانها المختلفة خصوصا سهولة التنقل بين المسلمين وبين رعايا الدولة في أقطارها المختلفة.
وقال: "مشروع سكة الحجاز كان يعتبر سلاح متطور ومتقدم، سلاح استراتيجي عمل على توحيد الأمة وتوحيد الدولة وزيادة التنسيق ما بينها والتواصل وزيادة العمل على تسهيل المهمات وأيضا له أهداف كانت دينية من بينها تسهيل نقل الحجاج والتواصل ما بين أقطار الدولة والحجاز وكان يعتبر هذا علامة من علامات الازدهار ولهذا تم محاربة هذا المشروع من قبل بريطانيا والدولة الاستعمارية من أجل فت عضد الدولة العثمانية والعمل على محاصرتها وتقطيع أوصالها وتم استهداف هذا المشروع بشكل كبير".
وأضاف: "كانت هناك حالة من حالات الإرادة الكبيرة من قبل السلطان عبد الحميد الثاني من اجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه ومن اجل تطوير الدولة والسلطة العثمانية وأيضا تطوير الأمة وهو الذي كان يمثلها وكان رأسها وكان هذا المشروع عبارة عن حالة من حالات الدفاع والهجوم معا، الدفاع عن مصالح الأمة والهجوم على كل من يمس مصالح الأمة".
وأعرب المدهون عن أسفه لاستهداف هذا المشروع والعمل على ضرب الدولة العثمانية، مؤكدا على أن استقرار الدولة العثمانية وقوتها كان ضد المستعمر وضد جيوبه وضد المتآمرين معه.
واعتبر أن مثل هذه المشاريع التي كانت سابقة لأوانها وسابقة ولزمانها هي من أهم ما مميز حقبة السلطان عبد الحميد الثاني الذي تكالبت عليه الأمم والدول وحالت دون أن ينفذ مشاريعه الإستراتيجية الكبيرة.
التأريخ الشفوي لاحتلال فلسطين.. الباحث عادل مناع نموذجا
"أجنادين" على أرض فلسطين.. أول مواجهة للمسلمين بالبيزنطيين
هارون هاشم رشيد في ذكراه.. شاعر النكبة والثورة والعودة