يبرز السؤال دائما لماذا بقيت فلسطين من بين قضايا العدالة والظلم العالمية عصية على الحل وعصية على النسيان؟
سؤال وجيه طرح علي منذ عقود عدة إبان نقاش حول مسألة فلسطين. وقد أجبت في حينها بأن حجم الظلم الذي وقع في فلسطين فاق الخيال، والأخطر أن الطرف الذي سيطر عليها بصهيونيته كان استمرارا وامتدادا لظلم الاستعمار وتمدده، مما أدى لتشابك قضية الاستيطان والظلم والتهجير العرقي من جهة، وقضية الاستعمار من جهة أخرى.
لكن العامل الثالث مرتبط بطبيعة الصهيونية، التي بدأت مشروع استيطان فلسطين ولم تنجح بفضل مقاومة الشعب العربي الفلسطيني والعمق العربي في حسم المعركة على الأرض، وهذا يعني أن المشروع الصهيوني لم يستكمل عام النكبة ولم يستكمل في كل المراحل السابقة، وأن للظلم والاستيطان والمواجهات بقية مستمرة للمستقبل القادم.
لكن من جهة أخرى كون فلسطين امتدادا لدولة إسلامية عمرها 1400 عام، تشمل الأقصى وتشمل القدس وكنيسة القيامة وكنائس عديدة يعني عمليا أن للمكان قدسية للمسلمين وللمسيحيين من سكانها، كما يعني أنها مكان لا يمكن التخلي عنه بسبب العمق الحضاري العربي والإسلامي بنفس الوقت.
من هنا الهجوم على فلسطين كان هجوما على الحضارة الإسلامية والعربية لكنه كان هجوما يهدف لإخضاع تلك الحضارة ومعاملتها كما عامل الرجل الأبيض عبر تاريخه الحديث سكان البلاد الأصليين في أماكن كثيرة.
لم تكن الحضارة العربية في فلسطين بدائية، بل احتوت على مدن زاهرة ومناطق متقدمة، وطبقة وسطى متعلمة ونامية. وأدى هذا لتقوية روح المقاومة والصمود أمام شراسة الصهيونية وشدة هجمتها.
وقد تداخل هذا العامل مع الجغرافيا العربية ففلسطين بوابة آسيا وافريقيا، وسيطرة الخارج عليها يقطع أوصال المنطقة العربية وامتدادات بلاد الشام باتجاه مصر وشمال إفريقيا. هذا أضاف كثيرا على الإشكالية الاستعمارية، كما و يفسر لنا دور شخصية عظيمة كعز الدين القسام القادم من سوريا، ثم دور شخصيات عربية ولبنانية امتد دورها على مدى تاريخ الصراع كشكري العسلي(من سوريا) في أواخر القرن وبدايات القرن العشرين، ونجيب نصار الصحافي الذي اصبح في بدايات القرن العشرين شيخ الصحافة الفلسطينية.
لقد أصبحت فلسطين بطبيعة الحال على حدود كل الإيديولوجيات في العالم. فالصهيونية من جهة، والقومية العربية والإسلام السياسي من جهة اخرى ثم المسيحية الإنجيلية المتطرفة ثم القوى العالمية التي تؤمن بالعدالة والحقوق ثم الامبريالية والعصر الأمريكي والحرب الباردة وما تلى الحرب الباردة، كل هذه التوجهات تلاقت في فلسطين واشتبكت باشتباكات أبدية لا حدود لها.
في الجوهر لم يتوقف الشعب الفلسطيني ليوم عن المناداة بفلسطين وبحقوقه وبالعودة وبتحرير المكان، لم تتوقف المطالبة قبل نكبة 1948 وبعد نكبة 1948 ليومنا هذا، لو نظرنا للتاريخ منذ النكبة سنجد معارك شرسه انتفاضات مقدامة، سنجد اشتباكات، شبان وشابات قضوا في الطريق عبر الحدود العربية وفي داخل فلسطين وفي كل مكان، الكثير منهم من الفلسطينيين وانضم اليهم الكثير من العرب المؤمنين بعروبة قضية فلسطين.
واستمرت القضية باصحابها وبالمؤمنين بها من العرب وضمن رحاب العالم، لهذا نجدها وقد عبرت أراضي العرب الشاسعة وأراضي المسلمين كما وأصبحت عابرة للقوميات والجهات والقارات. في يومنا هذا أصبحت فلسطين آخر قضايا الاستعمار الاستيطاني الإجلائي في عصر متحول.
أستاذ العلوم السياسية/ الكويت