في منطقتنا طريق لا عودة
عنه، نجد له جذوره في ثورات وحراكات 2011، لكن الطريق أعمق من ذلك وأكثر ديمومة
واستمرارية من كل التوقعات. فبلادنا العربية التي تعاني من ضعف التنمية البشرية
وينتشر فيها الفساد والتعسف والظلم معرضة لانتفاضات ولخلق فرص إصلاحية في المجالات
السياسية والاقتصادية والإنسانية. الذي يؤخر كل هذا حتى الآن هو القمع المبالغ به
والشديد القسوة الذي تقوم به الدولة الأمنية والعميقة السائدة في الساحة العربية.
إن التجاذب الكبير بين الجهات الأمنية وقطاعات
واسعة من الشعب والتي تعبر عن نفسها من خلال السيطرة الأمنية على الصحافة والإعلام
ومن خلال التعسف والاعتقال والنفي يعني أن الدولة العربية اليوم هي في أضعف
حالاتها. استعراض القوة بالسجن والقتل والسحل دليل أن الناس لم تعد تطيع الدولة
طواعية، وأن شيئا هاما من الشرعية قد سقط. وتعيش الدولة الأمنية العربية نزيفا
يوميا بسبب هذا الصراع والاستنزاف مما يؤثر تراكميا على علاقاتها في قاع المجتمع.
و يثبت هذا النزيف فقدان الدولة الأمنية للقدرة على القيام بمهماتها الرئيسية في
الداخل والخارج في التعليم والصحة وفي البطالة والاقتصاد. وهذا يؤدي لخسارة الدولة
شريحة جديدة من المجتمع مع كل هزة في الأوضاع، كما وينتقل الكثيرين ممن ازروا
الدولة في السابق لموقف نقدي ومتذمر من الأوضاع. لهذا رويدا رويدا تفقد الدولة الأمنية
شبكاتها الاجتماعية وشبكات التأثير الخاصة بها.
لكن في المقابل الدولة الأمنية لا ترى كل هذا،
بل تؤمن أساسا بالقوة، لهذا تزداد سعيا لاحتكار كل شيء في السياسة والاقتصاد وفي
الإعلام، كما تزداد بطشا بالعلماء والمثقفين وأصحاب المبادئ الحرة، وهذا يؤدي
لمزيد من الفساد والاعتماد على شريحة صغيرة لا تمثل المجتمع بقدر ما تصبح ممثلة
للتعالي عليه. نزيف الدولة الأمنية لن ينتهي سوى بانفجارات مفاجئة. إن ما يقع في
الكثير من الدول العربية مرتبط بطبيعة التحولات من حالة سياسية تسودها الهرمية
والمركزية الأحادية وثقة المجتمع بقياداته إلى حالة مختلفة أساسها رؤية القيادات
كجزء من منظومة تضطهدها وتقمعها لأجل استمرار الفساد والمحسوبية.
ومن الطبيعي أن نتساءل من هي القوى الاجتماعية
الرئيسية المؤهلة لتغيير هذا الواقع العربي ودفعه نحو توازن جديد؟ إن أكبر قوة اجتماعية
محركة للوضع العربي منذ 2011 هي كتلة الشباب الضخمة. فهذا الجيل هو أكثف الأجيال
عددا في التاريخ العربي، فلا احتياجاته في معظم الحالات مؤمنة ولا مستقبله الشخصي
والمهني والإنساني واضح، ولا أحلامه قابلة للتحقيق في ظل سواد الفساد وضعف
المؤسسات وشخصنة القرارات. هذا الجيل يشعر بالتهميش كل يوم. لكن الجيل يشعر
بإمكانية وصوله لمبتغاه عبر التمكين الذي يستمده من الساحات العامة والتعبير عن
الرأي وتنظيم نفسه لمقاومة الفساد والأساليب غير المساءلة في الحكم. الجيل الراهن
يقف في مجرى تاريخي إجباري في ظل تنامي الأسئلة الصعبة وانسداد السبل والشعور
بالتميز والعنصرية بين عموم الشعب. ومن لم يقتنع اليوم بضرورة التغير من الأجيال الأخرى
والشرائح المختلفة للمجتمع سينضم لمدرسة التغيير بعد سنوات.
إن المواطن العربي الشاب يكتشف كل يوم كيف
يختلف العالم المحيط به عن عالمه المليء بالمشكلات، نجده يتعرف كل يوم على قصص
جديدة عن الفساد وقصص أخرى عن البطش والسجون، وثالثة عن التآكل الوطني وفشل الدولة
في أبسط مشاريعها، وفوق كل شيء يكتشف حجم البطالة التي تحيط بحياته وبأقربائه
وأسرته وشارعه بل ومنطقته. و يعي هذا الجيل أن الخطاب الذي قدم له في المدرسة
والإعلام لا يتناسب وواقعه واحتياجاته. لهذا يعيش هذا الجيل تحت واقع الصدمة، لكنه
أكثر استعدادا للتعبير عن نفسه لكسر حواجز الخوف والسعي للتمرد.
في بداية الربيع العربي، ورغم أن بوعزيزي في
تونس لم يكن ينتمي للطبقة الوسطى، إلا ان حركة الثورات العربية في 2011 وقعت تحت
تأثير مناخ وقيادات شبابية تنتمي للطبقة الوسطى. مع الثورات العربية حدث تفاؤل
كبير بالمستقبل العربي، وبإمكانية أن يعم الإصلاح وأن تتعلم النخب السياسية من دروس
المرحلة في جميع الأقطار العربية. لكن ذلك لم يقع، إذ جاء الصراع السياسي الذي تلى
الثورات العربية بهدف ملء الفراغ ثم القمع بعد ذلك (الثورة المضادة) مما بنى حالة
من الخوف والرعب، لكنه لم ينجح أبدا في استعادة الدولة لقدراتها أو لهيبتها أو حتى
للحد الأدنى من النجاحات. إن حالة التسيس والتغير والوعي بتناقضات الوضع العام
بدأت تنتقل لطبقات أكثر شعبية بما يتجاوز الطبقة والوسطى ووسطيتها.
الجيل العربي ضحية أمراض الاستبداد، ومع استمرار
المأزق العربي يطالبنا بمخرج جوهره: حقوقي وإنساني عادل، ديمقراطي انتخابي وتنموي واقتصادي.
لكنه بنفس الوقت يهددنا بتدمير الحالة العربية التي تقصيه وتمنع عنه حقوقه وتحتكر
السياسة. وفق كل المعطيات والمـؤشرات، هذا الجيل لن يهدأ في المرحلة القادمة،
سيزداد احتقانا وخبرة واحترافا. الحالة العربية حبلى بالمفاجآت، والدول العربية
أمام تحديات لم تعرف مثيلا لها في السابق: فإما ستستمر بسياسات تخلو من العدل
والتشارك مما يـؤدي لمزيد من التطرف والغضب، أم أنها ستبحث عن مشروع جاد يستند
لرؤى ديمقراطية وحريات وأنسنة واقتصاد عادل يسمح لها بتمكين هادف لجيل في بداية
صعوده أو ثورته و تمرده والتغلب على انتكاساته.