قمع إسرائيلي بلا هوادة، وصمود فلسطيني جبار، يقابله سلطة فلسطينية تمارس قمعا منطلقه الخوف من أن يتحول من في الضفة الغربية للثورة عليها من أجل نظام سياسي مقاوم أكثر جرأة وأكثر تفاعلا مع المواطنين واحتياجاتهم. تداخلت الأمور، فهناك سلطة فلسطينية في الضفة الغربية، لكنها قامت قبل التحرير وقامت في ظل سلطة احتلال إسرائيلي تسيطر على كل شيء، وهناك سلطة أخرى في غزة لكنها سلطة محاصرة تمارس على الأرض صمودا أسطوريا في ظل معركة تاريخية حول الحقوق الوطنية.
في غزة قاعدة ارتكاز للمقاومة، فلا يوجد تنسيق أمني
ولا تسليم مناضلين لجهات أمنية إسرائيلية، بينما في الضفة تختفي الشرطة عندما يكون
هناك للإسرائيليين مهمة اعتقال مناضلين في مناطق السلطة الفلسطينية. في غزة تكتسب
حماس هيبة المقاتل والمناضل الذي سبق وأن ميز حركة فتح التاريخية لكن في الضفة
تكتسب السلطة بوضعها الحالي الكثير من الصفات التي لا تليق بالنضال والمناضلين
الذين يقاومون المحتل.
في فلسطين كل شيء قابل
للتحول لنقيضه، ففي انتفاضة سيف القدس الأخيرة، تحولت غزة لبؤرة مقاومة هزت الكيان
من أعماقه، وتحول فلسطينيو 1948 من الهدوء إلى الثورة واجتياح مناطق ومطاردة
مستوطنين، بل تحولت المستوطنات للدفاع وتحول الأقصى لرمز يسند الشيخ جراح ويتصدى
لسياسة التهجير. لكن السلطة الفلسطينية وقفت في مكان مبهم، ضاعت بين التناقضات،
ولم تقدر اللحظة ولم تعرف كيف تتعامل معها.
المعضلة الكبرى في فلسطين انفجرت عندما قتل
نزار بنات، فبعد معركة بحجم سيف القدس، كيف لجهات أمنية فلسطينية خلفيتها بالأساس
أنها جزء من شعب يعاني من خطر التهجير والاستلاب والموت أن تقوم بعمل مثل هذا؟
أليست هذه هي أعمال أنظمة غير مساءلة وديكتاتورية دمرت عالمنا العربي؟ يمكن أن
نقول ماذا تعلمتم من تجربة النضال الطويلة إن كانت النتيجة سلوكا وحشيا مثل هذا في
ظل الاحتلال والاستيطان؟
الآن دخل النظام السياسي الفلسطيني الذي نشأ
تحت مسمى أوسلو والذي أدى لنشوء السلطة الفلسطينية في رام الله في واحده من أعمق
أزماته. فقد انكشف الأمر للرأي العام الفلسطيني بل والعربي والعالمي دور الأجهزة الأمنية
وتجاوزاتها وأصبحت هذه الأجهزة قضية رأي عام. ما الذي ستفعله السلطة في التعامل مع
هذا الوضع الشائك؟ هل تستمر في تفادي مواجهة المشكلة مع الاستمرار في القمع
والتهديد على أمل أن ترهب الناس والشعب ليعود كل شيء كما كان قبل معركة سيف القدس.
الأجهزة الأمنية الفلسطينية بشكلها الراهن
مصلحة إسرائيلية لأنها تحمي إسرائيل من المقاتلين والمقاومين، وهذا يعني عمليا أن
مزيدا من التمسك بالشكل الراهن للأجهزة في ظل التنسيق الأمني هو مطلب إسرائيلي.
فهل هذا يعني أن الأجهزة الأمنية الفلسطينية سوف تنزلق نحو المزيد من الاعتماد على
إسرائيل وعلى دعمها؟ هل نسمى هذا تطبيق للسياسة الأمريكية في فيتنام عندما سعت لأن
تكون المعركة فيتنامية فيتنامية، وذلك لتدفع خسائر أقل؟ أو حتى هل نسميها سياسة الأفدنة
كما سعت أمريكا في أفغانستان؟
لكن ألم تنته تلك الأنظمة المعتمدة على الاحتلال
بالكثير من المخاسر والفضائح والسقوط كما نشاهد اليوم في أفغانستان على سبيل
المثال؟ وفي المقابل هل لدى السلطة القدرة لقلب الطاولة لفتح الباب لمرحلة جديدة؟
تفاءلنا خيرا بالدعوة منذ شهور للانتخابات، لكن إلغاء تلك الانتخابات ساهم بالمأزق
ووضع السلطة في مواجهة الناس.
السياسة الراهنة للسلطة الفلسطينية يمكن إدامتها
في ظل مزيد من القمع للمجتمع. لكنها أيضا ستصطدم بحائط مرتبط برفض المجتمع
الفلسطيني لها. إن روح التحرر تسود فلسطين، والمجتمع الفلسطيني يرى أن السلطة تفشل
في أبسط مهامها الوطنية كالحفاظ على الأرض، والحقوق الوطنية، والتصدي للاستيطان،
وبناء استقلال حقيقي عن العدو، واكتشاف طرق اقتصادية تعزز صمود الناس، كما وأنصاف
الطبقات الشعبية وبناء وحدة وطنية تشمل حماس وغزة.
كل سلطة لا تساءل ستتغول على الناس، وكل سلطة
لديها امتيازات ستغض النظر عن الكوارث الوطنية إن لم يكن لديها قضية واضحة وأهداف
وطنية نتجت عن النقد والتصويب والمساءلة. إن ملاحقة النشطاء والنقاد والإعلام
وغياب التمثيل الحقيقي والانتخابات الحرة الدورية لكل المناصب في السلطة
الفلسطينية جزء من المأزق الحالي، لكن أيضا إن فقدان السلطة لروح التحرر والروح
المقاومة والأهداف الواضحة أساسي لمأزقها التاريخي. الاحتلال هو جوهر الموضوع، لكن
في ظل عدم التصدي لهذا الاحتلال فما هو مبرر وجود السلطة بشكلها الراهن؟
هذا النوع
من الأنظمة يتحول مع الوقت للهشاشة والضعف، فمع مزيد من استخدام القوة ضد المجتمع
ومع تفادي المواجهة مع الاحتلال ومع الفشل في المهام الوطنية والإدارية ستفقد
السلطة الفلسطينية المزيد من الشرعية ومبررات الوجود.
على السلطة الفلسطينية أن تغير الكثير قبل
فوات الأوان. خياراتها الأهم تقع بين الاستقالة وترتيب مرحلة انتقال، والقبول
بانتخابات حقيقية، والاستعداد لاستعادة وحدة الصف الفلسطيني. الخيارات كثيرة، لكن الإرادة
السياسية عندما تكون مكبلة لن تصنع إلا الكوارث.