من خلال حكاية عائلة فلسطينية تعاني الأمرين تحت الاحتلال الإسرائيلي، يسلط الكاتب الصحفي الأمريكي نيثان ثرول، في هذا المقال الطويل، الضوء على صمود الشعب الفلسطيني في وجه مشروع صهيوني عنصري اعتمد السلب والنهب والتهجير وانتهاك حقوق الإنسان الأساسية منذ اليوم الأول.
بالإضافة إلى قصة العائلة الفلسطينية، يقدم الكاتب معلومات بالغة الأهمية وخلفيات تاريخية عن تهجير الفلسطينيين وتفتيتهم بشكل ممنهج من قبل الاحتلال، بهدف ضمان التفوق الديمغرافي لليهود في أرض فلسطين التاريخية.
وتنشر "عربي21" المقال على 8 حلقات، وتقدم لقرائها هذه الترجمة غير الرسمية للمقال الذي نشر أول مرة باللغة الإنجليزية في "ذي نيويورك ريفيو أوف بوكس"
طالع الجزء الأول: حكاية عبد سلامة.. تقرير عن معاناة الفلسطيني تحت الاحتلال ج1
طالع الجزء الثاني: حكاية عبد سلامة.. تقرير عن معاناة الفلسطيني تحت الاحتلال ج2
طالع الجزء الثالث: تقرير خطير عن "الأبارتايد" ومعاناة الفلسطيني تحت الاحتلال ج3
طالع الجزء الرابع: تقرير خطير عن فصول عنصرية الاحتلال تجاه الفلسطينيين ج4
طالع الجزء الخامس: تقرير خطير عن "الأبارتايد" ومعاناة الفلسطيني تحت الاحتلال ج5
طالع الجزء السابع: حكاية عبد سلامة.. معاناة الفلسطيني تحت الاحتلال ج7
وفيما يلي الجزء السادس من المقال.
الجزء السادس
يوم في حياة عبد سلامة
حكاية رجل يبحث عن ابنه تسلط الضوء على واقع الحياة الفلسطينية تحت الاحتلال الإسرائيلي
نيثان ثرول
نيويورك ريفيو أوف بوكس
19 مارس 2021
منحت إسرائيل الجنسية للفلسطينيين الذين يعيشون داخل الخط الأخضر، وتفاخرت على الملأ أمام العالم بقيمها الديمقراطية. ولكنها أخضعت هؤلاء الفلسطينيين لنظام عسكري قمعي فرض عليهم حظر التجول، وألزمهم بالحصول على تراخيص، وقيد حرية تنقلهم، وحظر عليهم تشكيل أحزاب سياسية، وعرضهم للاعتقال بدون محاكمة، وأقام مناطق أمنية بإمكان اليهود فقط التنقل داخلها بحرية بينما هي محظورة على الفلسطينيين.
بالإضافة إلى ذلك، سُدت في وجه القرى الفلسطينية سبل الوصول إلى الطرق التي خصصت لتنقل التجمعات اليهودية في الجوار. كانت الحكومة العسكرية التي استمرت من 1948 إلى 1966 تفرض عقوبات قاسية، مثل إجبار المواطنين الفلسطينيين على المشي لعدة أميال لكي يثبتوا حضورهم في مركز للشرطة ثلاث مرات في اليوم، أو على الوقوف تحت شجرة من شروق الشمس إلى غروبها لمدة قد تصل إلى ستة شهور. كان الأطفال من سن ثمانية أعوام يتعرضون للتحقيق ويستجوبون حول آرائهم السياسية. وكان الشباب يتعرضون للضرب أثناء التدقيق والتفتيش العشوائي عن بطاقات الهوية.
بل كانت العقوبات تنزل بحق من لا يبادرون الحاكم العسكري بالتحية. لم يكن من الممكن تبرير حكم إسرائيل العسكري على أساس أمني: فقد كان المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل غاية في الهدوء. قبل وقت قصير من مغادرة رئيس الوزراء بن غوريون لمنصبه، أخبره وزير العمل ييغال آلون بأن تفكيك الحكومة العسكرية سيكون "واحداً من المجازفات الصغيرة التي نكون قد قمنا بها طوال ثمانين عاماً من الاستيطان اليهودي في أرض إسرائيل." لقد كانت الغاية الأساسية من الحكم العسكري، كما هو الحال في الضفة الغربية اليوم، هي تسهيل عمليات مصادرة الأراضي والاستيلاء عليها. تقريباً ثلث الأرض التي تحت سيطرة إسرائيل كانت خاضعة للحكومة العسكرية، وهي نسبة أكبر بكثير من نسبة 22 بالمائة التي تخضع حالياً للاحتلال. بحلول عام 1964 كان المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل قد فقدوا أكثر من ثلاثة أرباع أراضيهم، وعندها لم يعد ثمة حاجة لاستمرار الحكومة العسكرية فصدر أمر بإغلاقها في ديسمبر / كانون الأول 1966.
وبينما كان كبار المسؤولين في الحكومة يقررون أي المناطق العسكرية المغلقة سوف تُفتح وبأي ترتيب، صرحوا بأن المناطق التي كانت قد أغلقت في وجه الفلسطينيين "لأسباب تتعلق بالأرض" – أي لمنع المواطنين المهجرين داخلياً من الوصول إلى بيوتهم – سوف تفتح فقط "بعد أن يتم الوفاء بالشروط المنصوص عليها." وتشتمل هذه الشروط على "هدم المنشآت في القرى المهجورة، والتحريج (التشجير)، وإعلان المحميات الطبيعية، والتسييج والحراسة." انتهت الحكومة العسكرية ولكن كثيراً من أساليب سيطرتها انتقلت بكل بساطة إلى الكيانات المدنية التي وُسعت صلاحياتها. وحينها قال مستشار رئيس الوزراء للشؤون العربية إن التغيير كان بشكل رئيسي "نفسياً".
بعد ستة شهور، عندما غزت إسرائيل المناطق المحتلة أثناء حرب يونيو / حزيران 1967، أقيمت حكومة عسكرية جديدة، ودُشن مشروع استيطاني جديد. ولكن كان العالم حينها قد تغير، وكذلك الصهيونية. بدأ أبناء الجيل الجديد يعرفون أنفسهم بوصفهم إسرائيليين أكثر من كونهم يهوداً. وذبلت الأيديولوجيات القديمة التي كانت تحفز على الاستيطان الصهيوني في فترة ما قبل قيام الدولة. ولم تعد رنانة مهدوية ما يسمى الزعماء العلمانيون (أو على الأصح الزعماء المعادون للحاخامية) مثل بن غوريون الذي كان في عام 1952 قد تحدث عن الرؤية التنبؤية العظيمة لأنبياء إسرائيل، رؤية الخلاص اليهودي ضمن إطار إنقاذ البشرية،" والتي "تربط الخلاص الوطني بخلاص العالم، واستقلال إسرائيل بسلطة السلام والعدل لجميع الناس." كانت مهولة تلك القطيعة بين الشعارات القديمة المبتذلة للصهيونية الاشتراكية – "خلق مجتمع اشتراكي غير طبقي وعالم تسود فيه الأخوة بين الشعوب" – وواقع الممارسة الصهيونية. لم تكن تتوفر لدى الشباب الإسرائيليين العلمانيين أيديولوجية تمكنهم من تبرير الإقامة في الضفة الغربية التي احتلت مؤخراً. وقلة قليلة منهم استطاعوا استيعاب منطق إيه دي غوردون، ذلك المنظر روسي المولد الذي كان له نفوذ كبير في أوساط الموجة الثانية من المهاجرين الصهاينة في الفترة من 1904 إلى 1914.
إنه المنطق الذي أنجب أول ثلاثة رؤساء وزراء، والقائل: "كل من يعمل بجد أكثر يصنع أكثر ويعطي أكثر من روحه، وسيكتسب حقاً أخلاقياً أعظم ومصلحة حيوية أعمق في الأرض." في عام 1937 قال الزعيم الروحي للصهيونية العمالية بيرل كاتزنلسون "لم يسبق من قبل أن قام الرجل الأبيض باستعمار وهو يشعر في داخله بالعدل والرقي الاجتماعي، إنه نفس الشعور الذي يملأ نفوس اليهود الذين يأتون إلى فلسطين". لم يعد من الممكن التلفظ بمثل هذا الكلام في عام 1967.
وبذلك تركت مهمة الإقامة في المناطق المحتلة للجيل الأكبر من الصهاينة العماليين المؤمنين بحق – ييغال آلون، يزرائيل غاليلي ويتزهاك تابنكن – بالإضافة إلى، وبشكل متزايد عبر الزمن، القوميين المتدينين الذين يشكلون القلب الأيديولوجي لحركة الاستيطان. لم تتردد أي من المجموعتين في الدفاع عن الاستيطان اليهودي انطلاقاً من الأسس الصهيونية القديمة التي عبر عنها غوردن بالكلمات التالية: "لدينا صك ملكية لأرض إسرائيل، لم تنته صلاحيتها يوماً، ولن تنتهي أبداً: إنه الكتاب المقدس." خلال العقود التي تلت، نشب صراع مرير بين الإسرائيليين الذين صدقوا هذه الكلمات وأولئك الذين لم يصدقوها.
بينما كان يجول أمام جمهوره في حيفا جيئة وذهاباً، قال داني دايان إن جميع الحكومات الإسرائيلية "أسقطت من يدها الكرة" في دبلوماسيتها العامة لأنها أخفقت في صياغة حقيقة في غاية البساطة، إنها حقيقة "حقنا في هذه الأرض." ههنا يبدأ الأمر كله، وهنا يكمن أساس المسألة برمتها. إذا لم تبين حقك في هذه الأرض، وهذا لا يعني فقط تل أبيب، بل وبدرجة أولى حقك في المواقع التي تعتبر مهد الثقافة اليهودية، أرض آبائنا وأجدادنا، فلن تتمكن من النجاح. ومع مجيء اتفاقية أوسلو الأولى عام 1993 بلغ الصدع بين اليهود المتدينين والإسرائيليين العلمانيين حد الصدام المباشر. حينها كان نفوذ الصهاينة المتدينين يواجه تحديين اثنين.
أما الأول فكان تدفق ربع مليون مهاجر غير يهودي جاءوا من الاتحاد السوفياتي سابقاً. وأما الثاني فكان الاتفاق على إقامة حكم ذاتي فلسطيني في ذلك الجزء من أرض إسرائيل الذي يسمونه يهودا والسامرة. دافع أنصار أوسلو عن الاتفاقية بالقول إن الحركة الصهيونية كانت تقبل باستمرار، براغماتياً، فكرة التقسيم كتسوية، ولكن بالنسبة لمعارضي أوسلو، كانت الصفقة بمثابة خيانة للصهيونية. فقد كان ثمة فرق شاسع بين ما عمله بن غوريون – أي القبول بما لم يكن ملكه بعد كنقطة انطلاق للحصول على كل ما كان يرغب فيه – وما وافقت عل القيام به حكومة إسحق رابين – أي التنازل عن الوطن التاريخي الذي كان حينها في يد إسرائيل. والأسوأ من ذلك بالنسبة للمعارضين هو أن حجة المدافعين عن اتفاق أوسلو تقوض الأساس الذي قامت عليه الصهيونية.
فإذا كان للفلسطينيين الحق في تقرير المصير في الضفة الغربية وغزة، فإن اليهود لا يملكون ذلك الحق. وهذا يعني الاعتراف بأن الكتاب المقدس لم يكن، في الحقيقة، صكاً لملكية الأرض، وأنه ما من جماعة يحق لها ادعاء ملكية الأرض بعد غياب ألفي سنة، وأن اللاجئين لا ينبغي أن يمنعوا من العودة بسبب انتمائهم العرقي، وأن الأقلية ليس من حقها فرض إرادتها على الأغلبية، وأنه، كما هو الحال في بقية العالم، لا يوجد أساس أخلاقي أو قانوني للمحاولات التي تبذل لاسترجاع الأراضي المفقودة، بما في ذلك حتى تلك التي فقدت في أوقات قريبة جداً. وكل هذه الحجج تنطبق بنفس الدرجة على إسرائيل داخل الخط الأخضر. بحثاً عن تبرير شامل غير توراتي لوجود إسرائيل، أكد الصهاينة العلمانيون على أن اليهود المضطهدين والمعذبين يستحقون ملاذاً آمناً. إلا أن هذه الحجة تحتوي على عدد من العيوب.
فالحاجة إلى ملاذ لا تمنح تصريحاً بالاغتصاب. لم يأت الصهاينة إلى فلسطين من أجل الاندماج في المجتمع المحلي وإنما لإقامة دولة خاصة بهم حصرياً وعلى حساب أهل البلاد الأصليين. لم تكن الحاجة إلى ملاذ آمن هي المحفز الأصلي من أجل إقامة وطن قومي لليهود. فكما يكتب مايكل ستانسلاوسكي، بروفيسور نيثان جيه ميللر للتاريخ اليهودي في جامعة كولمبيا: كانت الغاية الأصلية من القومية اليهودية الحديثة هي منع ذوبان اليهود في البلدان التي كانوا يعيشون فيها – أي إنقاذ الهوية اليهودية وليس اليهود. وفي الفترة من 1903 إلى 1905، عندما عُرض على الحركة الصهيونية الاختيار بين الهجرة الفعلية والمباشرة – وهو العرض الذي جاء من البريطانيين في شرق أفريقيا – وبين الاستمرار في تعقب حلم صهيوني غير يقيني، كانت حجتهم لصالح الخيار الثاني. ثم ساهمت المذابح التي تبعت صعود القومية اليهودية الحديثة في زيادة جاذبية الصهيونية لدى بعض اليهود، إلا أن عدداً أكبر رد على ذلك بالهجرة إلى الولايات المتحدة.
وحتى بعد فترة من بدء هذه المذابح في 1881-1882، وحتى نهاية الهولوكوست (المحرقة) ظلت الصهيونية حركة أقلية يرفضها معظم الحاخامات وقادة المجتمعات اليهودية. واليوم، عندما ترفع أعلام إسرائيل أمام الكثير من المعابد اليهودية الأمريكية، من السهل أن ينسى المرء أنه خلال نصف القرن الأول من تاريخها، كانت الصهيونية طائفة ضمن طائفة منشقة: فلم يكن معظم اليهود ينتسبون إلى القومية اليهودية، وحتى كثير من اليهود القوميين لم يكونوا صهاينة وإنما أعضاء في جمعية سياسية اشتراكية علمانية تطالب بحكم ذاتي لليهود في الأماكن التي كان يقيم اليهود فيها وليس في فلسطين. ولذلك اختار جميع اليهود تقريباً، من الذين بحثوا عن مهرب من الاضطهاد والتنكيل، التوجه إلى أماكن أخرى. منذ بدء الاستيطان الصهيوني في عام 1882 وحتى اشتعال الحرب العالمية الأولى، غادر ما يقرب من 2.5 مليون يهودي أوروبا الشرقية، معظمهم ذهبوا إلى أمريكا. ستون ألفاً فقط توجهوا إلى فلسطين، ثمانية آلاف منهم كانوا من الصهاينة الملتزمين – أي ما نسبته أقل من 0.5 بالمائة من الهجرة اليهودية من أوروبا الشرقية. ثم ما لبث نصف هؤلاء المهاجرين أن غادروا فلسطين. في عام 1992، وهي السنة التي سبقت أوسلو، حصد أكبر حزبين في اليسار الصهيوني، العمل وميريتز، نصف مقاعد الكنيست تقريباً. كان نصيبهما ستة وخمسين مقعداً.
أما في عام 2020، وقبيل الانتخابات العامة التي جرت في مارس / آذار من ذلك العام، فقد قرر الحزبان بأنه يتوجب عليهما توحيد الصفوف وجمع القوى بالاشتراك مع حزب ثالث اسمه غيشر حتى يتمكنوا من تجاوز العتبة الانتخابية. كسبت الأحزاب الثلاثة مجتمعة سبعة مقاعد، وخرج العمل وميريتز بثلاثة مقاعد لكل منهما. هناك العديد من الأسباب التي يمكن أن تفسر الانهيار الحاد لليسار في إسرائيل، إلا أن واحداً منها هو التناقض الأيديولوجي الذي كشفت عنه أوسلو. فقد أيد اليسار الإسرائيلي اتفاقية كانت الغاية منها التأسيس لتقرير المصير الفلسطيني، وإن كان محدوداً ومفتتاً، فيكون بذلك قد قبل، على الأقل في بعض أجزاء أرض إسرائيل التاريخية، بأن الحقوق الدينية والتاريخية المعلنة لليهود لا تنسخ حقوق الفلسطينيين.
ومع ذلك ظل نفس اليسار الإسرائيلي يصر على أن هذا المبدأ لا ينطبق على بقية الأرض. فقد زعم بأن الحقوق الجماعية لليهود في الخليل لا تنسخ حقوق الأغلبية الفلسطينية من السكان الأصليين بينما تنسخها في حيفا. بالنسبة لدايان ومجلس يشع، باتت الصهيونية العلمانية الحالية غير قادرة على تقديم تفسير مقنع لماذا ينبغي على اليهود أن يكون لهم دولتهم الخاصة بهم في أي مكان في أرض إسرائيل. بل تبدو حججها بالنسبة لليمين السياسي كما لو كانت بمثابة اعتذار قلق عن وجود إسرائيل. قبيل انتخابات عام 2015، ظهر نفتالي بينيت، الذي كان حينها رئيس حزب البيت اليهودي القومي المتدين، في إعلان للحملة الانتخابية وهو متنكر في شخصية عاشق موسيقى من تل أبيب يرتدي النظارات ويقضي يومه كله وهو يعتذر – عندما يسكب النادل القهوة عليه يسارع بالقول "اعذرني، اعذرني، حقيقة لم أقصد .. اعذرني"، وعندما يصدم سائق عدواني سيارته الصغيرة من الخلف يقول له "إنها غلطتي"، وعندما تخطف امرأة دراجة هوائية مستأجرة من يديه يقول "أعتذر لك حقيقة، حسناً، خذيها".
ثم، يجلس على مقعد في شارع روثتشايلد الأنيق، مركز تجمع أتباع الصهيونية العلمانية اليسارية، يمسك بيديه صحيفة هآريتز الليبرالية، يفتحها، ويهز رأسه تعبيراً عن الموافقة وهو يقرأ ترجمة لافتتاحية في صحيفة نيويورك تايمز عنوانها "إسرائيل بحاجة لأن تعتذر". ينتهي الإعلان بينما يقوم بينيت بتمزيق مظهر عاشق الموسيقي الذي كان متنكراً فيه، لتظهر من بعد ذلك على الشاشة عبارة تقول "لا مزيد من الاعتذار. نحن نحب إسرائيل." على السطح، يبدو القتال بشأن المستوطنات ومسألة ضمها كما لو كان قتالاً حول حدود الدولة. ولكن في مستوى أكثر عمقاً، يتعلق الأمر بسؤال: ما هو نوع الدولة التي ستتواجد ضمن تلك الحدود؟
نشطاء إسرائيليون وفلسطينيون يحتجون على الطريق رقم 4370، بالقرب من عناتا، الضفة الغربية، 23 يناير / كانون الثاني 2019- جيتي
يرى أنصار المستوطنات أن التخلي عن جزء من الوطن التاريخي إنما هو الخطوة الأولى في اتجاه إسرائيل ليبرالية كونية متخلية عن خصوصيتها اليهودية. لم يحدث أبداً أن اعترفت دولة إسرائيل بوجود جنسية إسرائيلية: فإسرائيل هي دولة الشعب اليهودي – ينظر إليها على أنها لأمة واحدة منتشرة في كل أرجاء الأرض. إن من شأن تأسيس جنسية إسرائيلية بدلاً من جنسية يهودية أن يخلق أمة منفصلة عن نصف يهود العالم الذين يعيشون في الشتات. وهذا سيؤدي إلى بتر اليهود – في إسرائيل، من بين كل الأماكن – عن أمة اليهود الذين إنما أسست الدولة لكي تخدمهم. لقد تم التأسيس لذلك في القانون الوطني لإسرائيل.
بعد حرب عام 1967، أصدرت المحكمة العليا في إسرائيل حكماً في قضية بنيامين شاليت، الملازم اليهودي في البحرية الإسرائيلية الذي تزوج من امرأة غير يهودية ولدت في اسكتلندا. طبقاً للقانون اليهودي، فإن أطفال الأم غير اليهودية ليسوا يهوداً. وبناء عليه فقد رفضت الحكومة الإسرائيلية طلب شاليت تسجيل جنسية أطفاله على أنهم يهود. ثم طلب شاليت، الذي كان علمانياً، بأن يسجل أطفاله باعتبارهم إسرائيليين أو عبرانيين. ولكن الحكومة رفضت ذلك أيضاً.
أثارت القضية كثيراً من الجدل، حيث أكد الصهاينة العلمانيون أن كل من يعتقد في نفسه أنه يهودي ينبغي أن يتمكن من تسجيل نفسه يهودياً، أما الصهاينة المتدينون وغيرهم فقالوا إن ابتداع تعريف جديد غير يهودي لليهودية، أو إنشاء هوية إسرائيلية، من شأنه أن يقطع روابط إسرائيل ببقية الأمة اليهودية بل وباليهودية نفسها، التي يقوم على أساس منها ادعاء إسرائيل بأحقيتها في الأرض. تلك كانت كلمات القاضي موشيه سيلبيرغ: كل من يفصل الجنسية اليهودية عن أسسها الدينية فإنه يضرب في الصميم ادعاءنا السياسي بملكية أرض إسرائيل. مثل هذا الفصل يرقى إلى الخيانة نفسها.
على غير ما هو حاصل في حال الدعوات القومية الأخرى، لا تعرف القومية اليهودية بناء على الصلة بالأرض. في الولايات المتحدة وفي أستراليا، استوعب المستعمرون، الذين كان لديهم تعريف منبثق عن الأرض لدولهم، في النهاية كل من بقي من السكان الأصليين، وذلك بعد أن أبادوا نسبة كبيرة منهم واستولوا على أراضيهم. مثل هذه النتيجة غير ممكنة في حالة إسرائيل، طالما أن إسرائيل تعرف نفسها على أنها دولة الشعب اليهودي. وكل فعل من أفعال الهيمنة العرقية القومية في البلد ينبع من الاعتبار التالي: تعرف الدولة نفسها باعتبارها ملكاً لمجموعة واحدة، ولذلك فإن الملايين من سكانها الذين هم جزء من مجموعة أخرى لن يتمكنوا من الانضمام إليها.
على النقيض مما يدعيه اليمين السياسي والمستوطنون في البلاد ، ليست لدى "معسكر السلام" الإسرائيلي رغبة في أن يحول إسرائيل إلى دولة كونية ليبرالية يتساوى فيها جميع المواطنين. والسلام الذي يقترحه هذا المعسكر غايته أقرب للفصل منها للتصالح. فحسبما قال إسحق رابين "من الأفضل للعرب ألا يتجمعوا ههنا." ولذلك يرى صهاينة التيار اليميني كثيراً من النفاق في الطريقة التي يقدم اليسار نفسه، كما لو كان يسعى بكل نبل من أجل السلام، بينما يعطي الانطباع عن المستوطنين بأنهم أوغاد. في المجلة الشهرية التي تصدر عن مجلس يشع، واسمها نيكودا، وصف فيريد ناعوم، أستاذ التلمود في جامعة تل أبيب والحائز على جائزة إسرائيل، أعلى وسام شرف في البلاد، تأييد اليسار الصهيوني لاحتجاز الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة خلف الأسيجة والجدران على النحو التالي: ينظر اليسار إلى الحاجز باعتباره وسيلة تعليمية، عاملاً محفزاً على الاعتراف اليهودي بالحاجة إلى الفصل بين السكان من الطرفين، تمريناً على ما الذي تعنيه الدولة الفلسطينية ... إلا أن المحفز المركزي ليس القلق على الحقوق المدنية للفلسطينيين. فالخنق والتجويع المستمر لمليونين من الناس (في غزة) لا ينسجم مع وجود مثل هذا القلق ... إن المحفز الحقيقي لليسار هو الانفصال عن العرب. ولذلك يكشف إغلاق المناطق الفلسطينية عن وجود تشابه مثير للدهشة بين أغلبية اليساريين واليمينيين المتطرفين، والتي ترفع راية الترانسفير (نقل الفلسطينيين إلى بلدان أخرى). إن الطموح المركزي للطرفين هو التخلص من الوجود العربي.
حافلة المدرسة محترقة بعد الحادث قرب جبع (2012)/ جيتي
رافعة تكمل جزءا من جدار العزل العنصري بالقرب من مخيم شعفاط (2011)/ جيتي
عبد سلامة (2021)/ تصوير: إيهاب جاد الله
عبد سلامة مع صورة لميلاد في (2021)/ تصوير إيهاب جاد الله
مسعفون في موقع الحادث بين حاجزي قلنديا وجبع (2012)/ جيتي
فلسطينيون وإسرائيليون يتظاهرون قرب عناتا ضد التهويد (2019)/ جيتي
ميلاد سلامة مع شقيقه الأكبر آدم (2009)/ عبد سلامة
خريطة لخطة دروبلس الاستيطانية عام 1978 للاستيلاء على أراض من الضفة/ مايك كينغ
خارطة لتقسيم المناطق في جزء من القدس المحتلة بناء على بيانات أممية/ مايك كينغ
تقرير خطير عن "الأبارتايد" ومعاناة الفلسطيني تحت الاحتلال ج3
45 عاما على ثورة "يوم الأرض" الفلسطينية (شاهد)
الخطيب لـ عربي21: يوم الأرض محطة فارقة للفلسطينيين (شاهد)