تتفاوت الانتماءات بين أن نكون محليين في دولنا العربية المختلفة ومنعزلين عن بقية العالم العربي أو أن نكون عروبيين نتجاوز هذه المحلية دون أن نتخلى عن التوازن بين العروبة والمحلية. وتتفاوت المشاعر والآراء بين أن نكون محليين وعالميين أو مسلمين ووطنيين في ظل أوضاع عربية متغيرة.
ففي الشخصية العربية اليوم تداخلات كبيرة. فمن نحن في بلادنا العربية؟ هل نحن نتاج بناء الدولة الوطنية في القرن العشرين وسقوط الدولة العثمانية؟ وهل سنكتفي بهذه الحالة أم سنسعى لتجاوزها بوسائل مختلفة لنكسب بعض المناعة في التعامل مع العوالم التي تحيط بنا؟ سؤال الهوية لازال كبيرا في عالم عربي غني بالهويات وبالتاريخ ولكنه حتى الآن يقوم على تناقض الهويات وتواجهها لا تصالحها وتكاملها.
في الخمسينيات من القرن الماضي تداخلت الهويات العربية في إطار حركة سياسية واحدة هدفها وحدة العرب. وتبين مع الوقت أن وحدة العرب السياسية التي تقوم على العصبية العربية لوحدها لا تكفي ولن تكفي، خاصة وإن خلت من حقوق الإنسان، والعدالة، وقيم ديمقراطية أساسية، كما تبين أنها لا تكفي إن قامت على رفض الهويات الأخرى من سكان المنطقة أكانوا أكرادا أم بربرا أم إيرانيين ام شركسا وآشوريين.
إن القومية العربية في أوج تطورها تصادمت مع المشاعر الوطنية والمحلية ولم تسع لا ستيعابها وتفهمها لتقوية الفكرة القومية. لقد وقع التيار القومي العربي في أخطاء الفرز ووجد نفسه يسبح في بحر لا يستطيع أن يوحد كل مياهه. ومع ذلك لازال للقومية العربية أرضية، ولازال للإطار الجامع مكانه. فالتاريخ لم ينه ذلك الإطار، ولا بد من تجديد ومشروع جديد.
ستبقى حالة التجاذب الكبير بين أن نكون عربا أو أن نكون محليين، أو بين أن نكون إنسانيين وعالميين، وبين أن نكون مسلمين وحديثين، أو بين أن نكون وطنيين ومؤمنين بالقضية الفلسطينية وبين تنمية بلادنا.
ومنذ الثورة الإسلامية في إيران بدأ يحل الإسلام السياسي مكان التوجهات السابقة، فقد عبأ الإسلام السياسي الفراغ الناتج عن الهزائم والمواجهات الكبرى والحروب. حل الإسلام السياسي على المستوى الإسلامي والعربي مكان القومية، بل أصبح تعبيرا عن قومية جديدة تصنع أعمالها في الميدان. أصبحت الجماعة الإسلامية والإخوة الإسلامية وأفكار عديدة حول تطبيق الشريعة مدخل الوحدة الإسلامية والطموح الإسلامي الجديد.
وقد سارت التيارات الإسلامية في طرق مختلفة ومتناقضة. فمنها من سار في طريق تطبيق الشريعة فتصادم مع مجموعات في المجتمع وفئات هي الأخرى لديها فهم مختلف للشريعة وللحياة، بينما سارت فئات أخرى من التيارات الإسلامية في طريق المقاومة والمواجهة مع إسرائيل. كما أن جانب من التيارات الإسلامية أخذت طريقها باتجاه التحول إلى قوى معارضة سلمية بينما اخذ بعضها طريق العنف المطلق.
إن التيارات العابرة للأوطان والمؤثرة بها مستمرة في إقليمنا بصورتها القومية أم بصورتها الإسلامية هي جزء من عطش الإقليم للتعامل مع قضاياه الإقليمية بصورة تتجاوز الروح المحلية، وبنفس الوقت، فإن الدولة المحلية أصبحت أحد أساسيات البناء العربي الجديد، ولا يمكن تجاوزها. بل أصبح واضحا أن الدولة العربية الوطنية لا تستطيع الحفاظ على وجودها خارج سياق التوازن مع العمق الإقليمي والعربي، وخارج التوازن مع التيارات الإقليمية بصورتها القومية والوطنية والإسلامية. وأصبح واضحا أن الدولة الوطنية هي الأخرى لا تستطيع أن تسبح خارج النسق الإنساني والعالمي في كل ما يتعلق بقيم الإنسان والحقوق والعمالة والعولمة والاقتصاد.
إن هذه التناقضات الصعبة ربما تفسر لنا جزئيا كيف بدأت عدد من الدول العربية في السقوط أمام شدة الضغوط المحلية والإقليمية والدولية: فشل الدولة في اليمن، السودان، لبنان، سوريا والعراق، وآفاق امتداد هذا الفشل لدول عربية عدة تعبير عن أزمة الدولة الوطنية العربية. بل إن أزمة الدولة العربية هي التي فتحت الباب لقوى الخارج الأكثر تنظيما وحرصا على تنفيذ سياساتها الإقليمية.
هل يعني هذا ان العالم العربي سيبقى في أزمة وراء الأخرى؟ الإجابة صعبة لكن على الأغلب لن ينتهي التاريخ والعالم العربي سيبقى يعيش ويتفاعل مع أزمات قادمة. والأكيد أيضا أن مسألة الهوية ستبقى قضية أساسية تقلق آفاق الاستقرار في العالم العربي. ستبقى حالة التجاذب الكبير بين أن نكون عربا أو أن نكون محليين أو بين أن نكون إنسانيين وعالميين، وبين أن نكون مسلمين وحديثين، أو بين أن نكون وطنيين ومؤمنين بالقضية الفلسطينية وبين تنمية بلادنا. مخاضنا القادم كبير، بل يصعب أن نعرف من الآن أين سيقف.
* أستاذ العلوم السياسية- الكويت