كما كل عام في الثلاثين من آذار/ مارس، يُحيي
الفلسطينيون في الداخل الفلسطيني عام 48، وفي الضفة والقطاع والشتات، فعاليات
يوم الأرض الفلسطيني، الذي ارتبط بمواجهة أصحاب الأرض لخطط المؤسسة الصهيونية الاستعمارية للاستيلاء على أراضيهم، ومحاولات تهويدها وطمس هويتها.
ومنذ آذار/ مارس عام 1976 يعيد أصحاب الأرض التأكيد كل يوم على رفضهم السياسة الاستعمارية الصهيونية وفضحها وكشف زيفها. اليوم مع حقبة الانكسار والنكوص التي يزحف فيها المستعمر الصهيوني على الأرض، مشددا من قبضته الاستيطانية التهويدية عليها ويطبق حصاره على الفلسطينيين لينتزع منهم قيم الوفاء لأرضهم وتاريخهم، يعيد أصحاب الأرض التمسك بدلالة مفهومها وراهنها الذي يحيل كل الطروحات السياسية- السلمية المتعلقة بفلسطين لإعادة التعابير للأرض قبل "الدولة" المسلوبة الجغرافيا والكيان المنقوص منها.
أحال الفلسطينيون مفهومهم عن الأرض من حيز جغرافي مغتصب إلى فعلٍ إنساني مقاوم، وأعاد المنكوبون منها وفيها صياغة الأرض من حيز أخلاقي إلى ميدان فهمٍ لخطط المستعمر ومؤامراته عليهم، فبقيت الأرض هوية الفلسطيني ووطنه المتخيل يوماً ما، يحدد من خلالها مدى التزامه بالدفاع عنها بشروط صحيحة الهدف، وفي زمن آخر تكاد ظروفه تختلف اختلافاً كلياً عن ظروف الفلسطينيين وأرضهم وقضيتهم.
انشغل أصحاب الأرض بتوجيه البوصلة نحوهم هناك، في سخنين وعرابة وجنين والناصرة وأم الفحم وترشيحا. في ذلك الزمن كانت فلسطين خالية من سلطتها ومن أوسلو، وكان في المعادلة ما يوحي بأن أطرافها سليمة. والمآل البائس الذي وصل إليه أصحاب أوسلو وسلطتها وبلوغ التآمر العربي فجاجته العارية بتصهين مفضوح، أربك جميع الأسئلة وفرض إعادة القراءة لمعنى الأرض والقتال في سبيلها؛ إلى التفاوض بشأن أرض تتحدد فوقها سلطة أو دولة، لا شأن لملايين اللاجئين منها وفيها بما يتفق أو يتآمر البعض فيما بينهم وبين المستعمر بشأنها.
في مثل هذه الظروف لم يكن من السهل على الفلسطينيين في الجليل الفلسطيني المحتل؛ الإمساك مجددا بناصية الهدف والانتفاض مجددا على سياسات المستعمر الصهيوني، في أم الفحم والناصرة وكوكب أبو الهيجا وحيفا ويافا وعكا، وكل قرية ومدينة رفعت صوتها عالياً بوجه الجريمة الكبرى بحق الإنسان الفلسطيني وأرضه، وفي ظروف اللاجئين من الأرض التي ارتبط مفهومها في ذاكرة أجيال تعاقبت، يغدو يوم الأرض أبعد من حالة احتفالية رمزية تأسطرت في شعارات البعض.
فالأرض ليست "دولة وسلطة" ومصدر رزق يمارس فوقها ساكنها أعماله اليومية، إنها وطن بفضاء كبير يحقق فوقها الفلسطيني حريته الإنسانية ويتلمس فيها الجهود والتضحيات التي بذلت من أجلها، واللاجئ ابن الأرض وصاحبها كيف له أن يظفر بأرضه وإنسانيته؛ وحريته التي آمن وحارب من أجلها هي لرفع العذاب عن أرضه المغتصبة صارت لها معانٍ مختلفة في زمن الخسارة والارتحال الذي يعطيه صفة اللجوء الثانية والثالثة والرابعة؛ في رحلة عذاب بدأها الصهيوني وساعد في قسطٍ دموي من خاتمتها "أسد" سوريا.
البعض يذكر الأرض في يومها، دون الإشارة لمراتب اللجوء والقهر والتدمير والقتل الممارس لأصحابها في مخيمات لجوئهم السورية والعربية، وفي زنازين أنظمةٍ تتهم نزلاء فروعها الأمنية ببيع أرضٍ لم تزل وطنا في الذاكرة، بينما الأرض التي لجأ إليها لم تكن سوى فضاء لاغتراب جديد،
يتذكر الفلسطيني أرضاً لم يرها سوى في وجوه المنكوبين الذي لا يدور على ألسنتهم إلا شعور بالسلب والإهانة، ولذلك يبقى تطلع الفلسطيني لأرضه تحديدا لهويته الوطنية والتاريخية، ويجعل من تمسكه بها رداً أخلاقياً على أساطير وأكاذيب الرواية الصهيونية ومن بصم عليها في الدرس الرسمي العربي، الذي يردد أوصافا بائسة، تنزع صفة الانتساب لها، عن أهلها في سلوك الإذلال والقتل والتدمير والتشريد، بينما لا يمتلك الفلسطيني الانتساب إلى شيء آخر سوى لفلسطين كلها. فمن لا أرض له لا وجه له، لتبقى ثغور أهلها تردد اسمها من الجليل والمثلث والنقب والضفة والقطاع والقدس والأغوار.. كلها وجه الأرض وهويتها الباقية.
twitter.com/nizar_sahli