يهيمن ملف الذاكرة الاستعمارية على العلاقات الجزائرية الفرنسية،
خصوصا في الفترة الأخيرة التي شهدت إعادة فتح هذا الملف بعد التقرير الذي أنجزه المؤرخ
بن جامين ستورا.
ويقوم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في كل مرة بخطوة في
هذا الاتجاه، لمحاولة فتح آفاق جديدة لعلاقات بلاده مع الجزائر، بعيدا عن آلام الماضي،
وفق ما يقول في تصريحاته.
وخلال الأسبوعين الماضيين، أعلن الإيليزيه عن قرارين بخصوص
الذاكرة الاستعمارية، الأول اعترف فيه بارتكاب الجيش الفرنسي جريمة التعذيب والقتل
في حق المناضل الجزائري علي بومنجل، والثاني أعلن بموجبه ماكرون عن فتح أرشيف الاستعمار
الفرنسي في الجزائر إلى غاية سنة 1970.
واستقبل قرار الاعتراف بقتل المحامي علي بومنجل ببرود في
الجزائر، كون الجرائم الفرنسية لا يمكنها أن تقتصر على بعض المناضلين، مثلما تحاول
السلطات الفرنسية إظهاره بشكل انتقائي؛ لتجنب الاعتراف بارتكاب مجازر جماعية بحق الجزائريين.
اغتيال بومنجل والأرشيف
وفي رد فعل غاضب، قال محند واعمر بن حاج، الأمين العام بالنيابة
لمنظمة المجاهدين، أهم وأكبر منظمات الأسرة الثورة في الجزائر، إن هذه الأسلوب الغريب في التعامل مع الذاكرة "ليس مقبولا بالمرة"، متسائلا في حوار مع جريدة "الخبر" الجزائرية: "هل علينا انتظار مئات السنين حتى تنتهي
قائمة الشهداء الذين تعترف فرنسا بتصفيتهم، لأن عددهم عشرات الآلاف؟".
أما إعلان فتح الأرشيف الجزائري للباحثين، فاعتبر خطوة جيدة
طال انتظارها، حتى وإن كان الطلب الجزائري يتمثل في استعادة الأرشيف وليس مجرد جعله
متاحا للاطلاع.
وفي اعتقاد حسني عبيدي، أستاذ العلاقات الدولية بجنيف، فإن
الكثير من الملفات المتعلقة بالأرشيف على الرغم من فتحه أمام الباحثين ستبقى من الأسرار.
وذكر عبيدي في تصريح لـ"عربي 21" أمثلة عن ذلك، كالتجارب النووية في رقان في صحراء الجزائر، أو الدور الفرنسي في حرب الرمال بين الجزائر
والمغرب سنة 1963، أو المواقف الفرنسية من خلافات القادة الجزائريين بعد الاستقلال.
وأضاف الباحث السياسي أن الرئيس الفرنسي من خلال هذه القرارات
الأخيرة، يقوم بتنفيذ ما ورد من توصيات في تقرير بن جامين ستورا، الذي كان قد اشتكى
من تباطؤ الخطوات الفرنسية في هذا المجال.
"معالجة ملفات الذاكرة بالتقطير"
ويسود شعور في الجزائر بأن القرارات الفرنسية تبدو متثاقلة
وموجهة نحو الداخل الفرنسي أكثر منها سعيا لمعالجة إشكالات الذاكرة وآلامها التي ما زالت
حاضرة بقوة في الجزائر.
ويرى المؤرخ الجزائري، أرزقي فراد، في إجابته عن أسئلة
"عربي 21"، أن مسألة الذاكرة المشتركة لا تعالج بالتقطير المفضي إلى تمييع
القضية.
وأوضح فراد أن "الواجب يقتضي من الدولة الفرنسية التحلي
بالشجاعة من أجل الاعتراف بأن الاستعمار الفرنسي في الجزائر هو جريمة ضد الإنسانية،
كان الشعب الجزائري ضحية لها، ولا يزال يعاني منها من خلال ضحايا الإشعاعات النووية
الناجمة عن التجارب العسكرية الفرنسية في صحرائنا، وكذا نتيجة زرع الألغام المضادة
للأفراد على حدودنا الشرقية والغربية".
لكن الرئاسة الفرنسية كانت قاطعة، من البداية، في رفض تقديم
أي اعتذار أو إعلان أي توبة عن جرائمها في الجزائر، وذلك خلال الساعات الأولى لتسلمها
تقرير ستورا.
وتبدو خطوات الرئيس الفرنسي محسوبة بدقة، فهو يحاول أن يضع
نفسه ضمن منطقة آمنة، استعدادا للانتخابات الرئاسية المقبلة في بلاده سنة 2022، التي
يراهن فيها على ولاية ثانية.
وتقوم الاستراتيجية الانتخابية لماكرون على استقطاب أصوات الجالية الجزائرية، التي تشكل نحو 3 ملايين في فرنسا، والتي تذهب في الغالب إلى اليسار،
من دون تضييع أصوات اليمين الحساس جدا من مسألة الاعتذار للجزائر.
"الإصرار على الاعتذار"
ويعتقد المؤرخ فراد أن عدم تقديم فرنسا للاعتذار مرتبط أساسا
بإدراكها أن السلطة الجزائرية ليست بالقوة ولا الدعم الشعبي الذي يجعلها تفرض مثل هذا
المطلب عليها.
وتساءل المؤرخ: "ماذا فعلنا نحن الجزائريين من أجل إرغام
فرنسا على تقديم الاعتذار؟ هل سنّ برلماننا قانونا يجرّم الاستعمار؟ علما أن البرلمان
الفرنسي أصدر قانونا يعتبر الاستعمار الفرنسي في العالم ظاهرة إيجابية نشرت الحضارة
في البلاد المستعمرة".
ولتبيان ضعف الحجة الفرنسية في عدم تقديم الاعتذار، استشهد
المتحدث ببعض الوقائع التاريخية الشبيهة، قائلا: "لماذا اعتذرت فرنسا لليهود وترفض
الاعتذار للجزائريين، علما أن مأساة اليهود لم تصل عشر معشار ما عاناه الجزائريون في
ظل الاستعمار الفرنسي، الذي جثم على صدور أجدادنا لمدة قرن ونصف القرن من الزمن؟".
وتابع في نفس السياق: "لماذا تلحّ فرنسا على وجوب اعتراف
تركيا بجريمة إبادة الأرمن في الحرب العالمية الأولى، وتتنكر لجريمتها في الجزائر، التي
وصفها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر بـ"العار" الذي شوّه مبادئ الثورة
الفرنسية الإنسانية؟".
والغريب في موقف فرنسا، حسب فراد، أنها تعتبر جهاد الجزائريين
تحت راية جبهة التحرير الوطني التاريخية عنفا يتساوى مع عنف الاستعمار الفرنسي، أي
أنها تضع الجلاد والضحية في خانة واحدة.
وأشار المؤرخ إلى أنه لا يتصور بأي حال من الأحوال طيّ هذه
الصفحة، وبناء علاقة طبيعية بين البلدين قبل اعتراف فرنسا بجريمتها النكراء في الجزائر،
كما فعلت ألمانيا عقب انهزام النازية بعد الحرب العالمية الثانية.
"الاعتذار لن يغير شيئا"
وعكس هذه النظرة التي توجب على فرنسا الاعتذار، يقدم النائب
السابق عن حزب العمال، رمضان تعزيبت، مقاربة أخرى مغايرة تماما تعتبر أن الاعتذار لن
يغير شيئا من التاريخ.
وأوضح تعزيبت، الذي شغل منصب نائب رئيس المجلس الشعبي الوطني،
أن حزبه لا يرافع من أجل الحصول على الاعتذار، لأنه ببساطة لا يؤمن بالمسؤولية الجماعية
لكل الفرنسيين.
وأبرز تعزيبت في تصريح لـ"عربي21"، أن حزبه يعتقد
بوجوب قيام علاقة "ند لند" بين الجزائر وفرنسا، تأخذ بعين الاعتبار مصالح
الطرفين دون أبوية.
وأضاف النائب السابق، أن الاعتذار لا يغير شيئا من التاريخ،
فقد كانت هناك قوة قاهرة مغتصبة مدعومة من الناتو يقابلها شعب معزول وقوي بإرادته،
استطاع رغم قلة الإمكانيات العسكرية والمادية تحقيق الانتصار، ودفع الثمن غاليا بمليون
ونصف المليون من الشهداء.
اقرأ أيضا: صحيفة: فتح الأرشيفات السرية.. هل أراد ماكرون ذلك فعلا؟
التهميش يحول الجنوب الجزائري لـ"قنبلة موقوتة" بوجه الدولة
هل يعود حراك الجزائر للشارع في ذكراه الثانية؟
مشاورات تبون مع الأحزاب.. هل تذهب الرئاسة نحو التهدئة؟