قضايا وآراء

عن حوار "حماس" و"فتح" والرجوب.. أين المصداقية؟

1300x600

 المشكلة العصيّة في سلوك القيادة الرسمية الفلسطينية بالنسخة الفتحاوية (ياسر عرفات ومحمود عباس) وبطانتيهما، كانت وما زالت هي "اللامصداقية".

وما قالته سلسلة المذكرات وتناقلته يوميات الأخبار على مدى عقود الصراع يبرهن على هذه الحقيقة.

يخبرنا سليم الزعنون في مذكراته أن سبب استقالة أحد أهم مؤسسي حركة فتح، وكاتب نصوصها التأسيسية وأكثرهم هيبة وجدية (عادل عبد الكريم) في فترة مبكرة (1966)؛ كان يتمثل في تحفظه على شخص ياسر عرفات (عندما كان لا يزال واحدا بين متساوين) من حيث خفته واتباعه لأهوائه، وعدم ملاءمته مع متطلبات الثورة والعمل الثوري!

 أما عالم الاقتصاد الضليع والرفيع، والمنحدر من أهم عائلات فلسطين علما ومعرفةً (د. يوسف الصايغ) والذي عمل مع ياسر عرفات في منظمة التحرير (رئيسا لمركز التخطيط)، فقد قال في ندوة عقدتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية: "منذ أول يوم تعرفت فيه على "أبو عمار" أدركت أن هذا إنسان لا يمكن أن أثق به..". ثم يضيف بصراحة مرة: "رئيس حركة لا يصدق في كلامه، لا يمكن أن تثق بأفكاره، ولا توجد لديه رؤية، وأحاط نفسه بمجموعة تشاركه في عدم وجود رؤية". ويذكر أمثلة يدلّل بها على هذا الاستنتاج. ولشقيقه د. أنيس الصايغ (الذي أبدع أثناء رئاسته لمركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير في تثقيف العالم العربي بالقضية الفلسطينية) مرارات أشد وأنكى سجّلها في مقالاته ومذكراته. كما أن التقييمات والملاحظات التي سجّلها كبار الشخصيات الفكرية والسياسية والأدبية الفلسطينية حول مناقب ياسر عرفات تضيق على الحصر. وكانت صورة عرفات الموصوفة عند القادة العرب (الأسد، الملك حسين، سليمان فرنجية، الملك فهد، أمراء الخليج... الخ) هي أنه "كاذب".

عمل محمود عباس، في حياة عرفات وبعد مماته، على تعديل الصورة بالظهور، وبشكل مقصود، بمظهر صاحب المصداقية والنزاهة، وأنه يحترم كلمته. وبالفعل وجدناه في محطات عدة يظهر ذلك، وكان أهمها على الإطلاق قراره بتمرير نتائج انتخابات المجلس التشريعي في 2006 (باعتقادنا أن أي قائد آخر من قيادة فتح التاريخية لو كان مكانه لما قام بتمرير تلك النتائج كما هي). ولكن مع الممارسة وسني الحكم نكتشف تلك المناقبية المتجذرة في بنية حركة فتح، والتي أسفرت عن مفاجآت مذهلة، لدرجة ذهاب "أبو مازن" معها مثلا "للسياسي الذي لا صاحب له"، ففي فترة رئاسته انقلب حتى على أشد الناس صلة وصداقة وقربا منه، سواء أكانوا أشخاصا أو تنظيمات سياسية أو حتى دولا!!

هناك نظريات حاولت تفسير تناقضية الفلسطيني، لعل أهمها ما كان يذكره الأستاذ فيصل حوراني عن "أخلاقيات اللجوء" بقوله: "المرء يفعل الشيء ونقيضه بانسجام وراحة ضمير، ومن دون أن يرفّ له جفن". ويغض النظر، فقضية مقدسة كقضية فلسطين يعتبر الجانب الأخلاقي أهم مكوّن لها، ويفرض نفسه حيثما دارت الدوائر. ولقد قال بعض المفكرين الفلسطينيين: إن القضية الفلسطينية قضية حق، وقضية عادلة، لكن لها محامٍ فاشل (ليس بمنطق بندر بن سلطان!!)، وباعتقادنا أن الحق والعدل يحتاجان إلى حامل أخلاقي ومناقبي مكافئ، وليس فقط إلى ذلاقة وفصاحة لسان وقوة حجة!!

هناك مشكلة جوهرية تتعلق بالمكانة "المقدسة" التي يحتلها شخص الزعيم أو القائد عند الأتباع في الأحزاب والحركات السياسية في العالم الثالث، فما البال بالحالة الفلسطينية ذات القدسية الموصوفة، بالإضافة إلى موروث "العقلية القبلية" حيث تغدو الحركات السياسية في تصرفها ومسلكها (ما دون الديموقراطي) أشبه "بقبائل سياسية"!! في حالات كهذه يغدو الزعيم، وليس أي شيء آخر، هو "الضرورة"، ويصبح هو القضية، وهو الوطن وكل شيء. تبرَّر له الأخطاء مهما كبرت وعظمت، حتى لو كان اسمها الحقيقي هو "الخيانة!!

 وفي حالتنا، ومع تطاول الزمن العرفاتي (1969-2004)، فقد ورث أتباعه عنه أهم صفاته ومناقبه، وبالأخص "الأنا المتضخمة" (التي ليس لصاحبها من أجندة غير الأنا والذات، وتمسخ هنا القضية لتغدو قضية الدور الشخصي. وهنا تستخدم "فلسطين" وقضيتها لتنقلب إلى مجرّد دعامة في خدمة "قضية المطامح الشخصية"). ثمّ التعطش للحكم والسلطة و"التسّلط"، ثمّ ما يتعلق بمواهب "اللّعبنة"، ولا أقصد اللعب بالرجال فقط (وهي موهبة عرفات المفضلة)، بل وأيضا، اللعب بالقيم والمقدسات والمحرمات!!

 جبريل الرجوب، أحد الذين يصّرون على تعريف أنفسهم بأنهم "عرفاتيون"، يعود إلينا هذه الأيام كداعية تصالح وتآلف ورجل العلاقات الوطنية الجديدة مع حركة حماس، ثم كرجل مواجهة التطبيع وصفقة القرن وكل المؤامرات!! ونجده يقوم بهذا الدور من عدة منطلقات:
1- تحاول حركة فتح (الذي هو أمين سرها) بعد الانسداد التفاوضي، الالتفات إلى الساحة الداخلية في نوع من تقطيع الوقت، حتى تأتي الانتخابات الأمريكية، وهذه المرة تأتي فتح إلى الوحدة الوطنية، والمصداقية في الحضيض، وليس كما كان عليه الحال عشية انتفاضة الأقصى عام 2000.

2- يريد الرجوب أن يرث دور عزام الأحمد في العلاقات مع حماس (وعزام كان فتحاويّا نموذجيّا من حيث جرأته على الكذب العلني واللامصداقية). فكأن جبريل يريد أن يفتح صفحة جديدة مع حماس ويسوّق نفسه كرجل الوحدة الوطنية، وقد صرّح بأنه يجازف ويغامر عندما يقوم بذلك.

3- كغيره من الطامحين لخلافة محمود عباس، يسعى إلى استمالة حركة حماس إلى جانبه، وربما يطمح، كما يفعل زميله مروان البرغوثي منذ سنوات، إلى أن تقوم حماس (المتورّعة عن المنافسة على منصب الرئاسة- كما يعتقدان) إلى تزكيته، باعتبارها أهم صوت داخلي يمكن أن يُحسب حسابه، ويُضمن موقفه.

4- ويبدو أنه يطمح في أن يتمكن من استلال تنازلات جديدة من حماس- على غرار "وثيقة الأسرى" التي تباهى مروان البرغوثي، وسوّق نفسه أمام المسؤولين الصهاينة مختلفي المناصب والمشارب الذين التقوه لمئات الساعات- كما صرح بذلك زعيم حركة ميرتس- في سجنه، بأنه القادر على جلب حماس إلى نادي التسوية والحل. وعلى غرار قبول حماس الموثّق بدولة 1967؛ كأن الرجوب يطمح إلى استلال تنازل جديد، ليقدمه كأحد أوراق اعتماده لدى الاحتلال ولدى الأمريكان ومن ورائهما الدول الكبرى!! والذي يشجعه على ذلك أنه لم يدفع شيئا مقابل استحقاق التعاطي معه مثل سحب الاعتراف الفعلي بدولة الاحتلال، والإلغاء الفعلي لأوسلو، والتبني الفعلي لكافة أشكال المقاومة...الخ.

ومع أن الصّفوة القياديّة في حركة فتح (لجنتها المركزية) لا يوجد فيها شخص مرشح لقيادة مقاومة حقيقيّة، لا سلمية ولا غير سلمية، [فنصف أعضائها أو أكثرهم من المتجاوزين سن الـ (75) عاما، والنصف الثاني الذي هو فوق الستين ضالع حتى النخاع في علاقات من التنسيق الأمني والمدني والتفاوضي والتطبيعي مع الاحتلال، ولا يمكن هنا حتى أن يقوم أحدهم بالدور الذي قام به ياسر عرفات في انتفاضة الأقصى، وبالأخص جبريل الرجوب الذي لحماس بالتحديد عليه ألف تحفظ واشتباه واتهام وإدانة، منها:

1- توليه مسؤولية الأمن الوقائي في الضفة الغربية، على مدى ثمان سنوات متتالية، كما أن أثره في الجهاز ومحض الولاء له، لا يزال قائما وبفعالية حتى اليوم. ونعلم أن قيامه بهذا "الدور الوسخ" تم من خلال لقاءات تمهيدية جرت في عدة دول أوروبية عشية التوقيع على اتفاق أوسلو، جمعته هو ومحمد دحلان وأمين الهندي، كمسؤولين عن ملف الأمن والاستخبارات في السلطة الفلسطينية العتيدة، مع قادة الموساد والشاباك الذين أشرفوا على عملهم وأوضحوا لهم طرائق العمل.

2- قام أثناء تولّيه قيادة الأمن الوقائي بجرائم مشهورة، هذا فضلً عن التعاون اليومي المنهجي ضد أبناء شعبه، حيث كان يسلّم ملفات المجاهدين والمناضلين جاهزة للعدو، ومن هذه الجرائم على سبيل المثال لا الحصر:

1-         تسليمه لأعضاء في مجموعة صوريف البطلة على أحد الحواجز العسكرية الصهيونية عام 1997.

2-         تسليمه جثمان الجندي الصهيوني الذي كانت خطفته مجموعة صوريف عن طيب خاطر، وربما لترتفع مكانته لدى الصهاينة، ويتم ترقيته.

3-         ضلوعه وضلوع جهازه في حادثة اغتيال الشهيد محيي الدين الشريف عام 1998، ثم قيامه بتوجيه اتهامات مريضة لخيرة رجال شعبنا من قيادات كتائب الشهيد عز الدين القسام، والقيام بتحقيقات زائفة، الهدف منها الابتعاد عن حقيقة تورطه وضلوعه في الحادث.

4-         تشكيله " وحدة خاصة" من أجل ملاحقة كبار المطارَدين في كتائب القسام، وكان من أهمهم في التسعينيات الشهداء: عادل عوض الله، وشقيقه عامر، محيي الدين الشريف، محمود أبو هنود، أمجد الحناوي، نسيم أبو الروس، يوسف السركجي، صالح التلاحمة، وغيرهم العشرات الذين تم اعتقال بعضهم واستشهاد بعضهم الآخر.

5-         القيام بحملات اعتقال واسعة ضد رجال المقاومة من شتى التنظيمات.

6-         قيامه بتسليم مجموعة من المطلوبين للاحتلال أثناء اقتحام جيش الاحتلال لمقر الأمن الوقائي في بيتونيا في عملية السور الواقي عام 2002، وهم من تنظيمات مختلفة، ومعظمهم حكم بالمؤبد.

7-         ومع أنه يعرّف نفسه كعرفاتي حتى النخاع؛ كان سبب خلافه المباشر مع عرفات يتمثل في سخريته من هذا الأخير عندما زاره جورج تينت (رئيس C.I.A) عام 2002 وخاطبه عرفات بأنني وإياك جنرالان نفهم على بعضنا البعض. حينها سخر جبريل من عرفات قائلا: "مصدّق نفسه إنه جنرال". [وحتى في هذه لم تكن لعرفات مصداقية لدى أحرصنا معه!]. وعندما علم عرفات بذلك أقاله من جهاز الوقائي ووجّه له إهانات موصوفة تناقلها الناس!!


8-         أثناء عمله كمسؤول للرياضة الفلسطينية، قام مرارا وتكرارا بدور العراب، والدليل للكثير من شخصيات دول الخليج التي كان يمسك بيدها ويعرّفها على معظم مكاتب المسؤولين الصهاينة في القدس وتل أبيب. وقد اشتهرت مصاحبته للجنرال السعودي أنور عشقي في زياراته المتتالية للكيان الصهيوني، ولقيت تغطية إعلامية.

9-         أما عن فساده فلن نتحدث هنا عن دوره في "كازينو أريحا"، لكن من الملفت أنه له في معظم المدن الفلسطينية قصرا أو قصرين، وهناك شيء كثير يقال عن ملكياته في فنادق تل أبيب.

 كل هذا غيض من فيض، فإذا كان رجال فتح مطعون في مصداقيّتهم ومناقبيّتهم، فإن جبريل الرجوب على وجه الخصوص شخص فاقد للمصداقيّة بالكامل. وحتى في حال قررنا أن نصدّقه ونطوي صفحة الماضي، فإن أبسط الأمور وما تقتضيه اللياقة السياسية أن يقف ويعلن عن تراجعه وأسفه عن كل الماضي الخاطئ، خاصة وأن الإعلانات تكاثرت في السنين الأخيرة، من خلال قرارات مجالس وهيئات السلطة المختلفة، من أن أوسلو كانت خطأ، والاستمرار به حتى يومنا هذا كان خطأ آخر. ليقف ويقل ما يقوله السياسيون بالعادة إذا ما أراد فتح صفحة جديدة مع شعبه ومع نفسه؛ هو والآخرون.

 المشكلة ليست هنا. إنها في حركة حماس التي تقوم بارتكاب نفس النوع من الخطأ عندما تقبل، هكذا، الجلوس مع أمثال الرجوب، وبناء مواقف وسياسات معه من دون تنظيف الطاولة، صحيح أن ظهور الفلسطينيين بصوت واحد في هذه اللحظة على غاية من الأهمية، ولكن لا يعني هذا التضحية بالمصداقية. وإلا فلتعلم حماس بأنه سيصيبها ما أصاب فتح من مرض "التآكل".. تآكل المصداقية. فرأس المال الذي يمكن أن تفاخر به حماس أو غيرها ممن يريد أن يلعب دورا حقيقيّا في الساحة الفلسطينية هو المصداقية، المصداقية فقط. أشبعتنا هذه التجربة زيفا وكذبا وتدليسا ومداورة و"لعبنة"، وإن أخشى ما يخشاه المرء من (مرض فتح) والذي سبق وأصاب تنظيمات المنظمة الشائخة، أن يتسلل ويصيب من مثّلوا الأمل والفتوة والمصداقية في التجربة الإسلامية الجهادية الواعدة.