المصفقون لفشل
المصالحة الفلسطينية كُثر، ورهان الفشل يُعول عليه أكثر من النجاح، بسبب الخيبات المتتالية لهذا الملف، مما يدفع بالمتشائمين لإدارة الظهر لكل ما يتعلق بها، غير أن المؤشرات والسياسات الضاغطة على الفلسطينيين، سواء على السلطة و المنظمة أم الفصائل الفلسطينية، تقتضي مراجعة جدية وحقيقية طال انتظارها لإعلان الأطراف المختلفة نيتها لتحقيق مصالحة ونهاية حالة
الانقسام؛ وما وصلت إليه الرهانات الفاشلة والسياسات الخاسرة بأثمان مفجعة لقضية حركة التحرر الوطني الفلسطيني.
استعصاء المصالحة الفلسطينية هو الجدار الذي استند إليه الجميع، بمن فيهم أعداء الشعب الفلسطيني، ومنه أُحدثت الثغرة التي تسلل منها وتضخم من خلالها العجز العربي، بإلقائه ذرائع مختلفة على كاهل الفلسطينيين. وتكررت الحالة في كل المناسبات واستخدمت مطية للتخاذل والتصهين والتآمر.
في كل الأحوال، لا يجد الفلسطينيون أمامهم في هذا الوقت سوى التطلع إلى آخر الآمال التي تمكنهم من لملمة تشتتهم السياسي، رغم حالة العجز التي يصاب بها العمل الفلسطيني المشترك والانهيار العربي المشترك، فالخطوة الأخيرة والنيات توحي بجدية مختلفة عن سابقاتها لإغلاق ملف الانقسام. وفتح وحماس وبقية الفصائل الآن مضطرة للقبول بالمصالحة حتى لا ينهار كل شيء أمامهما.
وما تم الإعلان عنه دفع أطرافا عربية وصهيونية للتعبير عن الامتعاض والخشية من هذه الخطوة، وهذا أمر طبيعي؛ أن تكون الوحدة الفلسطينية نقيضاً لما يتمناه كثيرون في بقاء الانقسام إلى ما لا نهاية.
ودون أدنى شك، تبقى المراجعة الجدية لكل السياسات الماضية هي المفتاح لباب المصالحة الحقيقي، وهذا ما أقرته اعترافات وتصريحات فلسطينية مختلفة، عن فشل رهاناتها السابقة بالتعويل على تغيير السياسات الإسرائيلية والرضوخ لها، وفشل أوسلو، ووضوح الموقف الأمريكي، مع الاصطفاف خلف أجندات النظام الرسمي العربي أو الإقليمي والدولي، لتحصيل مكاسب ضيقة وآنية، حصدت من خلفها حركة التحرر الوطني الأوهام بعد ربع قرن من تجربة الفشل وعقد ونصف من الانقسام. وبات معروفاً وبديهياً لكل فلسطيني أن الرعاية الرسمية العربية أو الإقليمية والدولية، من موسكو إلى القاهرة وطهران ودمشق والرياض، لا هدف لها بدعم الحقوق الفلسطينية وتصليبها، بل احتواء المواقف الفلسطينية وتدجينها، والأمثلة كثيرة وطفحت من كثرة سيل المواقف المتاجرة بهذا الملف.
حين يتساءل فلسطيني عن عجز المنقسمين عن التصالح إذا كانوا إخوة، وأصحاب قضية واحدة، يجمعهم الاحتلال في قهر واحد.. فلمَ البحث عن رعاية "مصرية" تشرف عليها عيون الموساد في القاهرة، أو المخابرات الإيرانية، أو البحث عن رعاية روسية وسورية وسعودية وغيرها؟ ألا يفترض أن يتم توحيد الصف الفلسطيني خلسةً، بعيداً عن المتربصين بالقضية في ذروة الهجوم على حقوق الفلسطينيين؟
تلك حاجة وطنية صرفة وطبيعية، لا تقبل الانقسام والخلاف، ويُعلن عنها بدون بهرجة التنقل من عاصمة لأخرى، ومن بيان لآخر، وبعيداً عن تدوين أجهزة المخابرات الصهيونية والعربية لكل ما يدور في خلد السياسيين الفلسطينيين ومراقبة نيّاتهم وابتزازهم بفضح "مكاسبهم"، كي يبقى الملف الفلسطيني أهمية أولى لأجهزة المخابرات العربية والصهيونية.
أن يتحد أو يتفق الفلسطينيون على برنامج نضالي ويرتبوا بيتهم، فهذا أمرٌ مقلق لكل من يرعى المصالحة الفلسطينية "بمخابراته"، فهذا يعني أن تصبح الارادة الفلسطينية أكثر قساوة وبعيدة عن التطويع والابتزاز، وهذا له أثمان أقل من الثمن الذي دفعته قضية الفلسطينيين في تحديد راعٍ على عزيمتهم التي سرعان ما تنكسر بعد كل نيّة عن قرب إتمام مصالحة بعيدة عن الشعب الفلسطيني ومصالحه الوطنية.
الخسائر كثيرة بالانقسام، وفادحة، تعويضها صعب في المدى المنظور. ولا نقول هنا بطي صفحة التصدع، وأنه سيكون للفلسطينيين مستقبل وردي، لكن أقله يمكن وقف الانهيارات الحاصلة والمتتالية، ولجم جرأة التصهين والعدوان عليهم.
وحدة الموقف الفلسطيني تتطلب التخلي عن معظم المكاسب التي جنتها السلطة، والتخلي عن الخدمات التي أوكلت لها، وهذا يُصعب الكيفية التي ينظر بها أصحاب القضية. والمصالحة لها ثمن يجب أن يتجهز له الشارع الفلسطيني، بإعادة كسب ثقته بالعمل لا بالشعارات والطعنات. دون هذه الجاهزية سيرتفع صوت المصفقين للفشل الذي ينتظره المراهنون على التمسك بالمكاسب الكثيرة.
وهذا يتطلب العودة للشارع بتجرد كلي من التعالي عليه بنفخات الوهم المتضخم، والإقرار بآليات عمل جدية وجديدة دون دوامة المكاسب التي غرقت بها حركة التحرر وأغرقت شعبها معها، ولا من وراء ملهاة الانتخابات السابقة أو القادمة وغيرها. يجب التجهز لمواجهة عدو استيطاني استعماري يمزق أوهام الدولة والسلطة صباح مساء منذ أوسلو إلى اليوم، وتجريب الفشل والارتجال السابق يجب أن ينتهي، بل نسفه من جذوره والعودة لجذور الحقوق والثوابت النضالية.
كل فلسطيني وعربي حر، تسرهُ أخبار المصالحة، وكل عربي يتطلع أن يعود الفلسطينيون لحاضنتهم العربية، وأن يتصالحوا مع شعبهم، ومع عمقهم العربي، وأن يقفوا مع قضايا الحرية والكرامة والمواطنة كي تنتظم المعادلة في التحرر، لأنها الأرضية التي يتحد معها كل متأهب للخلاص من المحتل والطاغية، فهل سيُفاجئ المنقسمون المتشائمون الشامِتين بهم والشاتمين لفلسطين؟ نتمنى.
twitter.com/nizar_sahli