لا يمكن لعاقل، أن يرفض مصالحة بين طرفين متنازعين، فما بالك لو كان هذان الطرفان من نبت أرض واحدة طيبة، روت من ينبوع واحد.. ولكن أيضا لا يمكن للعقل أن يصدق حدوث مصالحة بين نقيضين، كل يسير في طريق معاكس للآخر، وإن كان المرء يتمنى، بل يرجو من الله أن يغير الطرف المعاكس للتاريخ والجغرافية والدين مسارَه ويلحق بالطرف الآخر، هنا فقط تكون نقطة التلاقي، ومحطة اللقاء، وتكون المصالحة ممكنة وواجبة أيضا، بل فرض عين على كليهما..
أقول هذا بمناسبة مسعى "تركيا" لتحقيق المصالحة الفلسطينية، بين حركتي "فتح" و"حماس"، بعد أن دعا رئيسُ "سلطة التنسيق الأمني" محمود عباس، الرئيسَ التركي "رجب طيب أردوغان"، لدعم جهود المصالحة الفلسطينية.
لم يتضح بعد، الدور الذي يمكن أن تلعبه تركيا في ملف المصالحة الفلسطينية، وهل ستعمل على تهيئة المناخ والبيئة الملائمة؛ لإنهاء حالة الانقسام وتحقيق المصالحة بالفعل؟ وهل ستتحمل تركيا كلفة هذه المبادرة والغرب والدول العربية المتصهينة يتربصان بها؟ وهل ستنجح اجتماعات "أنقرة" في ما فشلت فيه اجتماعات القاهرة ومكة وموسكو وبيروت؟
وسط هذه التساؤلات والتوقعات، اجتمع قادة "فتح" و"حماس" في أنقرة، وبعد القبلات السياسية المعتادة، والذي منه، من كلام معسول، أعلنوا الاتفاق على إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية بعد ستة أشهر، ولم تكن هذه المرة الأولى التي يعلنون فيها عن تلك الانتخابات، ولكنها لم تحدث..
على مدار أكثر من أربعة عشر عاماً، تُجرى جهود للمصالحة الفلسطينية، بذلتها مصر ودول أخرى، تبدأ بقبلات سياسية بين ساسة الطرفين، تخفي وراءها ما تخفي، تعقبها مفاوضات ومباحثات تُجرى هنا وهناك، تخرج عنها وثائق واتفاقيات وأوراق، سرعان ما تعصف بها الرياح، وتتناثر قصاصتها في الهواء المسموم، وتصبح هباءً منثوراً..
ولنعرف أسباب فشل كل الاتفاقيات المبرمة سابقاً، بين "فتح" و"حماس"، لا بد لنا أن نطرح سؤالاً بديهياً: على أي قاعدة تتم هذه المصالحة بين الفصيلين المتناقضين أيديولوجياً؟ فـ"حماس" تؤمن بالمقاومة لتحرير فلسطين، من البحر إلى النهر، بينما "فتح" انحرفت عن هذا الطريق، واتخذت مساراً معاكساً له تماماً، تخلت فيه عن دماء آلاف الأبطال الذين ضحّوا بأرواحهم فداءً لفلسطين، في سوق النخاسة بـ"أوسلو"؟
حركة "فتح" الجديدة التي تفاوضت في مدريد وأوسلو ليست هي حركة "فتح" التي أسست على قاعدة النضال والمقاومة، فقد تحول مسارها على يد مؤسسيها إلى حركة تُجرم المقاومة وتحاربها وتعتقل رجالها!!
يا لها من مفارقة مؤلمة، ونهاية مؤسفة لحركة نضالية عظيمة، كنا نقدر كفاح أبطالها، ونفتخر ببطولة رجالها، ونحترم قادتها ونأمل منهم خيراً، فإذا بهم يتحولون ويسقطون في بئر الصهيونية!!
لقد وقعت منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقية "أوسلو" في الثالث عشر من أيلول/ سبتمبر عام 1993 مع الكيان الصهيوني، والتي بموجبها تم الاعتراف بالكيان، وأسقط بند الكفاح المسلح لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر من ميثاقها القومي، مقابل سلطة وهمية لم تكن أكثر من تنسيق أمني بينها وبين الكيان الصهيوني، ووعد بإقامة دولة لم تر النور، بل رأت مزيداً من سرقة أراضي تلك الدولة المزعومة وإقامة المغتصبات (المستوطنات) عليها حتى تقلصت مساحة الأراضي المتبقية للفلسطينيين إلى أقل من عشرين في المئة من أرض فلسطين التاريخية، وها هو نتنياهو اليوم يريد أن يجردهم من هذه الأراضي أيضا ويضمها للكيان الصهيوني!
لقد أخذ الكيان الصهيوني بموجب اتفاقية "أوسلو" الملعونة، ما لم يستطع أخذه في الحرب، تحت مظلة السلام المزعوم، الذي مكّنه من مزيد من القتل والاعتقال لأبناء الشعب الفلسطيني المناضل، بمعاونة "رجال أوسلو" تحت ذريعة التنسيق الأمني مع سلطة الاحتلال (كما جاء في الاتفاقية)، والذي مهمته الرئيسية حماية المغتصبين "المستوطنين" الصهاينة، وقمع المقاومة الفلسطينية، التي كانت تقض مضاجع الصهاينة، والبحث والتحري عن المقاومين لتسليمهم للكيان الصهيوني أو نقل المعلومات إليه ليغتالهم، فاستحقت بجدارة أن تكون "سلطة التنسيق الأمني"!!
لقد أحكمت "سلطة التنسيق الأمني" الطوق على الشعب الفلسطيني وأذلته، فقد كان يرى وعيناه تفيض بالدمع سلبَ أراضيه وتدنيس مقدساته، وحينما كان يقاوم وينتفض؛ يتعرض لبطش وقمع هذه السلطة، بل كان قلبه ينزف دماً، وهو يرى بأم عينه اقتحام الجنود الصهاينة قراهم ومدنهم وهدم بيوتهم بحماية قوات التنسيق الأمني!!
وما هرولة الدول العربية إلى التطبيع والفُجر في إعلانها على الملأ، إلا نتيجة ذلك التعاون الأمني وتنازل تلك السلطة؛ عن كل الثوابت والحقوق الفلسطينية..
لقد مثلت اتفاقية "أوسلو" القاعدة أو الأساس لكل الاتفاقيات العربية الصهيونية اللاحقة له، من اتفاقية "وادى عربة" مع الأردن إلى اتفاقية "أبراهام" أو اتفاقية السلام الإماراتية والبحرينية مع الكيان الصهيوني. والمفارقة المخزية، أنه يجرى العمل حاليا على التنصل من تلك القاعدة، بعد أن أدت مهمتها وحققت الهدف المراد منها ولم يعد لها حاجة أو فائدة. لقد كسرت اتفاقية "أوسلو" مبدأ العداء للكيان الصهيوني، وأرست قاعدة الأرض مقابل السلام، وكرست مبدأ السلام كخيار استراتيجي عربي مع الكيان الصهيوني. وها هو الآن "بنيامين نتنياهو"، يتخطى هذه القاعدة، بل ينسفها نسفاً، ويطرح قاعدة جديدة أو مبدأ جديدا و"هو السلام من أجل السلام" ويحاول أن يسوقه، قائلاً: "إنه نابع من قوة الدولة العبرية"، في كلمته بحفلة التوقيع على ما تسمى "اتفاقية السلام" في البيت الأبيض..
ولكي يدعم "نتنياهو" هذا المبدأ، فقد اختار تاريخ توقيع اتفاقيتي السلام الإماراتية والبحرانية، بعناية شديدة، ليتزامن مع ذكرى توقيع اتفاقية "أوسلو" بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني، وفي نفس المكان قبل 27 عاماً. فللرمزية معنى مهم ودلالة خبيثة لدى الصهاينة، وهم حريصون على ربط التواريخ ببعضها البعض. لقد سعى نتنياهو لاستحضار "أوسلو" من أجل المقارنة مع الاتفاقيات الراهنة، والرسالة واضحة للشعب الصهيوني أولاً ثم للعرب، مفادها أنه لا يوقع اتفاقية قائمة على معادلة "الأرض مقابل السلام"، تتضمن الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، وإنما وفق مبدأ "السلام مقابل السلام".
فإذا كان "نتنياهو" قد أسقط المبدأ الذي بنيت عليه اتفاقية "أوسلو" ما يعني تخليه عن الاتفاقية ذاتها، فلا أقل من أن تتخلى عنها أيضا "سلطة التنسيق الأمني" وتمزقها وتعود إلى سيرتها الأولى، كمنظمة كفاح ونضال من أجل تحرير فلسطين، من النهر إلى البحر، كما كان ينص في ميثاقها الأول، قبل أن تعيش في وهم السلام، وتقع في غيّ زهو المناصب الخادعة وإغراء الألقاب الزائفة، وتصور رئيسها "محمود عباس" أن استقبال رؤساء دول العالم له، وسيره على البساط الأحمر، وطائرات الرئاسة، وموكب السيارات الذي يخلفه، أنه رئيس بجد كباقي رؤساء العالم، لدولة قائمة بالفعل مثل باقي الدول، وتغافل أنه لا يستطيع مغادرة منزله في رام الله إلا بعد أخذ الإذن من سلطة الاحتلال الصهيوني، وهو ما صرح به بلسانه بمنتهى البجاحة!
هذه السلطة الفاسدة التي أنجبتها "أوسلو"، ما هى إلا ترس يدخل في منظومة الاحتلال الصهيوني، يخادعون بها الشعب الفلسطيني ويريدونه أن يعيش معهم، في وهم السلام مع كيان مغتصب لأرضه ولا يعرف لغة السلام، ولا يفهم معنى السلام؟ فالمغتصب لا يسعى للسلام مع الضحية، بل يسعى للقضاء عليها والتخلص منها، والضحية التي تطلب منه السلام وهي في حالة ضعف تكون قد استمرأت الوضع وأصبحت بلا كرامة.
السلام لا بد له من قوة تفرضه على الأرض وإلا أصبح استسلاماً وليس سلاماً، فهل الفلسطينيون الآن بعد "أوسلو"، وإنهاء حالة المقاومة في الضفة والقدس، يملكون القوة التي تفرض أو تجبر عدوهم على السعي لتحقيق السلام معهم، كما أجبر بعد الانتفاضة الأولى عام 1988، واضطر لإبرام خديعة "أوسلو"؟!..
وما بالكم فيمن لا يزال يريد أن يتجرد من مصدر قوته الوحيدة، من أجل إرضاء عدوه والعالم الغربي المُخادع. لقد تعهد "محمود عباس" في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، بمحاربة الإرهاب، وهو يعلم أن أمريكا والكيان الصهيوني يصمان المقاومة بالإرهاب، رغم أن المقاومة، حق مشروع للدول المحتلة، شرعته جميع الدساتير والمواثيق الدولية، ولكنه أراد أن يغازل الصهاينة والغرب بهذه المغازلة الوقحة..
فإذا كان "محمود عباس" صادقا حقاً في المصالحة مع حماس، من أجل لحمة الشعب الفلسطيني، وليس من أجل أن يقطع الطريق على غريمه "محمد دحلان"، الذي يعده الآن الصهاينة والمتحالفون معه، من الأنظمة العربية المتصهينة، لخلافته؛ فعليه أن يمزق اتفاقية السلام، ويخلع معطف "أوسلو"، ويحمل راية المقاومة، ويرتدي الكوفية الفلسطينية، رمز العزة والكرامة، لرأب الصدع ولتعود اللحمة بين الشعب الواحد وتنتهي حالة الانقسام، التي لم يجنوا منها غير الخسارة للقضية الفلسطينية، ليستطيعوا أن يواجهوا التحديات الراهنة ويقفوا سداً منيعاً ضد تنفيذ صفقة القرن..
فهل يستطيع؟! إذا فعلها، وأغلب الظن لن يفعلها، سأرفع له القبعة، وأنحني له ومعي كل أحرار العالم تقديراً واحتراماً..
twitter.com/amiraaboelfetou
المتشائمون بالمصالحة والشاتمون لفلسطين
الإمارات من "السِفاح" إلى "النكاح"
هكذا نظر الإسرائيليون لصواريخ غزة.. وهكذا نظر لها وسيم