(1)
الأولاد في الحديقة والنساء في المطابخ والرجال في العمل..
لا بأس من هذا التقسيم، فهو طريقة ارتضاها الناس في فترات كثيرة لتنظيم الحياة، حسب النوع والمرحلة العمرية والتوصيف الوظيفي وتوزيع الأدوار.
لكن في فترات أخرى ومجتمعات أخرى قد ترى النساء في العمل والرجال في المقاهي والأولاد في أماكن غير معلومة، أو تجد الأطفال في العمل وكذلك الرجال وكذلك النساء!
النتيجة: ليس هناك تقسيم ثابت ولا توصيف نهائي ولا أدوار واضحة.
يقولون إن هذه "الهيولة" هي القانون الساري في المرحلة التي يعيشها العالم، حيث انهارت التقسيمات وسالت القيم وتداخل كل شيء مع نقيضه، بحيث طغت "ضرورة الجوار" على "فضيلة الحوار". وهذا يعني أن المدرسة أو المصنع أو ديوان العمل أو "الوطن" لم تعد أماكن لجمع أشخاص أو قيم متجانسة بالضرورة، فالوجود في نفس المكان أو "المؤسسة" أو "التنظيم" أو "الدولة" لم يعبر عن هوية مشتركة، لكن المدارس والمدن والأحزاب والأوطان تحولت إلى مجرد "أوعية" و"سلال"، مثل ساندوتشات "الكومبو"، تضم أرقاما وكميات وألوانا ونوعيات تتجاور ولا تتحاور، لذلك يظل الخيار خياراً ولا يحمر لونه مهما التصق بالطماطم.
(2)
لا تتناول هذا المقال كوجبة فلسفية، فالفلسفة عسيرة الهضم في مجتمعاتنا العربية، تناوله كطبخة جديدة من "الطبخات" التي يتفنن مقدمو برامج الطهي (الغزيرة) في تقديمها بأشكال جديدة ومصطلحات عجيبة، ومع ذلك استطاع الإعلام المكثف تعليم الناس كل جديد في مصطلحات الطهي وأنواع الأكلات وأسماء التوابل والإضافات النادرة، ونفس الشيء في ثقافة كرة القدم والاصطلاحات التي يصعب على جاهل كروي من جيلي معرفتها، مثل البلوجرانا والريمونتادا والسيليساو والفار.
(3)
قالت وسائل إعلام إن
السيسي منع أغنية "يا بلح زغلول" من أحد العروض المسرحية، ثم قرأت الخبر بنفس الصياغة والمصادر والإيحاءات في عشرات المواقع: "السيسي يمنع.."، و"النظام
المصري يمنع.."، وحاولت بكل جهدي أن أصل إلى صحيفة تحرت وسألت مصدراً وحققت أصل القصة فلم أجد ما أبحث عنه، برغم أن هناك وسائل إعلام اجتهدت في إضافات لتوسيع السياق وتوجيه الخبر لاتجاهات معينة، مثل تحرج السيسي من لقب "بلحة"، وبالتالي تم منع الأغنية لأنها تغمز على الرئيس. لكن هذا التفسير لا ينطبق على أغنية ثانية تم منعها في العرض نفسه، وهي "اهو دا اللي صار"، وكان واضحا أن المنع في هذه الحالة له أسباب تتعلق بكلمات تثير الوعي والتحريض مثل: مالكش حق تلوم عليّ/ تلوم عليّ إواس يا سيدنا/ وخير بلادنا ماهوش في إيدنا"؟
كما ربطت وسائل إعلام أخرى بين منع "يا بلح زغلول" ومنع مجلس قيادة ثورة 23 يوليو أغنية "يا مصطفى يا مصطفى" في الستينيات، لأن الرقيب فهم أن مصطفى المقصود في الأغنية هو الزعيم الوفدي مصطفى النحاس، وأن جملة "سبع سنين في العطارين" تدل على حب الشعب للنحاس برغم مرور سبع سنوات على الثورة (وهذه قصة قد أعود للكتابة فيها لأنها من القصص اللطيفة والمهمة في كشف مساحات الالتباس بين التاريخ الرسمي والتاريخ الشعبي، لكن يهمنا الآن أن أسلوب "التورية" نفسه يتجدد اليوم (بفهم سيساوي) في كلمات "يا بلح زغلول" التي لحنها سيد درويش لمطربة شعبية أثناء ثورة 1919، للتحايل على قرار لسلطات الاحتلال بمنع ذكر اسم سعد زغلول في الصحف والمصنفات الفنية، بهدف حصار وتهدئة الثورة الشعبية التي أعقبت قرار نفي زغلول ورفاقه من مصر!
(4)
لا بأس من استخدام وسائل الإعلام للربط التاريخي لوضع الخبر في سياق أوسع أو للتذكرة بحالات مشابهة، ولا بأس من تضمين الخبر إيحاءات سياسية وتوجيه ذهن القارئ لاتجاهات بعينها، لكن البأس يظهر عندما نشاهد الرجل يلعب بالطين في الحديقة، والطفل يكسر الحجارة في الجبل، والمرأة تدخن الحشيش وتلعب الطاولة على المقهى. فوسائل الإعلام الاحترافية صارت (في معظمها) تكتفي بالنقل من مواقع التواصل الاجتماعي، وتبدأ أخبارها ببادئة جديدة ومعيبة تقول فيها: قال رواد على مواقع التواصل كيت وكيت..".
كنا نقول للمتدربين في الصحافة إن حديث الناس مجرد "مفجر للخبر"، بمعنى أن اهتمام الناس بقضية أو حدث يفرض على وسائل الإعلام الاحترافية أن تتناول الحدث بالمتابعة الدقيقة من مصادره، وتتوسع في التحقيق والتحليل والمعلومات التي تقدمها للقراء، بحيث لا تقف هي وراء المتابعين وتعيد صياغة ما يقولون، وتكتفي بالنقل والتكرار الكمي، لأن هذا يضر بوسائل الإعلام ويؤخرها، ويضعف مصداقيتها وأهميتها ودورها في صنع أفق عقلي ووعي مجتمعي. صحيح أن التحريض مهم، لكنه يسيء إذا تغافل عن الحقائق. والمؤسف أن آلاف الأخبار اليومية من هذا النوع لم يعد لها إلا مضمون واحد هو: "السيسي فاسد وانقلابي وخرب البلد".
وهذا المضمون معروف من قبل نشر الخبر، لكننا كل صباح نحاول إثبات ما هو مثبت ومتفق عليه بيننا. ربما يريحنا أن نكايد أنصار الفريق الآخر من دون تفكير في الخطوة التالية لمواجهة هذا الفساد، وربما صارت لدينا متعة معيشية نتسلى بها في توصيف ما نعرفه ونحن نقزقز الأخبار ونطرقع التعليقات والإفيهات: السيسي يقتل.. السيسي.. يحجب.. السيسي يمنع.. السيسي يفرط..
أقرأ وأشارك ثم أنتظر إلى الغد لأعرف ماذا سنفعل في مواجهة ما تحدثنا عنه من خراب بالأمس، فلا أجد إلا أخبار وتعليقات أخرى تحاول إقناعي بأن السيسي يحبس ويتخذ القرارات الخاطئة، وينطق بالتصريحات العجيبة..
السيسي يفعل ونحن نعلق على ما يفعله، وعندما يسألنا أحد عن موقفنا من ذلك نقول ما قاله الممثل الكوميدي المنتصر بالله في أحد مسرحياته: "ما انا استغربت". كأن هذا الاستغراب يكفي!.. كأن هذا التنكيت يكفي!.. كأن السيسي يقدم لنا وجبتنا اليومية لنستعين بها في تسلية حياة الفقر والقهر والحجب والحبس.
(5)
أعود إلى ما بدأت عن التوصيف وتقسيم العمل لأوضح أنني لا أعيب هذه التصرفات وهذه اللغة وهذه السخرية على رواد التواصل الاجتماعي. فلا أحد يملك مفاتيح الناس، ولا احد يجب أن يفرض على الأفراد لغة دون غيرها، وذائقة دون غيرها، واهتمامات دون غيرها، لكن التوصيف يرتبط بالوظائف والأدوار ترتبط بطبيعة العمل، وبالتالي فإن من يتصدى للعمل العام لا يصح أن نحاسبه محاسبة المواطن الفرد الذي يحق له اللهو في أوقات فراغه وتسلية نفسه بما يراه من تنكيت وتبكيت.
ومن هنا نفهم خطورة الخلط بين وظيفة الطبيب في المستشفى أو العيادة، وبين مشاركاته وتعليقاته الساخرة على مواقع التواصل، فالطبيب في عمله ملزم بكود وظيفي وأدوار تحكمها قوانين وجدوى ونفع للمجتمع، بينما يمكنه أن ينشر النكت او الصور العارية على صفحته، حسب نوعية الأصدقاء ومؤشرات الإعجاب ولوثة الترافيك وغواية الانجذاب الجماهيري.
(6)
مشكلة تقسيم العمل والتوصيف الوظيفي قد تبدو تافهة إذا حصرناها في مساحة تعليقك أو تعليقي على "فيسبوك"، لكن التهاون فيها هو الذي يجعلك من المشجعين على عكس ما تريد وتجاهد، لأن نشر معلومة بدون تحقق هو البذرة التي تبرر للجيوش أن تحكم، وللرئيس الفاشل أن يستمر، فالموقع الصحفي الذي يكتفي بالنقل ويردد معلومات مغلوطة لا يقل إساءة وإفسادا للمجتمع عن مسؤول غير كفؤ في عمله.
وكما قلت، فلنؤخر سلوك الناس إلى ما بعد مسالة القطاع الرسمي ومهام الاحتراف، فللشعوب أعذارها حتى يتم إلزامها بقوانين عادلة ولوائح منصفة، ونقابات حامية، ومؤسسات قادرة على تقديم أعمالها بكفاءة وخضوعها للمحاسبة التي تستهدف الترقي والتصحيح.
(7)
المواعظ عادة ثقيلة الدم في "أوقات المهرجانات"، حيث ينتشر الهزل على حساب الجِد، وحيث نغتصب المعلومة لصالح النكتة ونتوسع في المبالغات على حساب الحقائق، فلا السيسي منع، ولا مجلس قيادة الثورة تدخل إلا بإلغاء قرار المنع الذي اتخذه موظف فاشل في منظومة فاشلة، وهو الموظف نفسه الذي رأى في
أغاني بديع خيري وسيد درويش تعريضا وتحريضا ضد نظام السيسي، وكأنه نظام احتلال تستخدم معه المعارضة المحلية أسلوب التورية والاستعارات.
لكن للأسف هذا كلام ساذج يجعل من عناوين الصراع والمعارضة مجرد أخبار حريفة لا تدوم أكثر من يوم أو اثنين حسب شهية الجمهور الجائع للمعارك المؤقتة، ثم يموت الخبر لصالح خبر جديد. فالتورية والغمز ضد نظام السيسي تقلل من مستوى لغة المعارضة الحادة التي وصلت إلى التخوين والسب المباشر. كذلك فإن خبر منع مسرحية أقل كثيرا من حشد الاهتمام ضد سياسات الحجب والمنع والقهر التي صارت بحجم وطن وحريات عامة.
وهذا لا يعني إهمال الخبر، بل يعني وضعه في سياقه الجزئي، ومحاولة تشكيل موقف فني من خلال السؤال عما حدث بالفعل، لأن التحري وتتبع الخبر من مصادره قد يؤدي إلى محاسبة ذلك الموظف الذي تدنى في عمله، حتى من منظور السيسي ودولته، لذلك كنت أتمنى معرفة من فعل؟ وما هو موقف مدير الرقابة؟ وما رأي وزيرة الثقافة ورئيس الوزراء، حتى يشعر السيسي أن نظامه نفسه هو الذي يحقره ويصغره ويسيء إلى صورته العامة.
ولا شك أن هذا التحري والتحقيق والمساءلة سيؤدي إلى إحراج أكبر للنظام ويجبره على محاسبة أعوانه، حتى لو كان الحساب بسبب إساءتهم للنظام، فمن يتعلم الإجادة قد يصلح يوما للإفادة.
(8)
أخشى أن يتساهل البعض مع موضوع المقال ويراه متزيدا و"يعمل من الحبة قبة"، لأن هذا يعني أن المعارضة والمؤسسات التي تقدم نفسها كمؤسسات ثورة، تفكر وتعمل بنفس الطريقة التساهلية الرعناء الذي فكر وتصرف بها "موظف السيسي". فالانحدار في التفكير يؤدي إلى انحدار في الأداء وفي القيام بالواجبات.
والمؤسف أن "التدني" الذي نشكو منه في أنظمة المحسوبية والقهر موجود بدرجة ما في تعليقاتنا وفي قيامنا بأعمالنا وفي فهمنا لأدوارنا، لهذا تفشل ثوراتنا بعد كل موجة تغيير، لأنها لا تجد إلا نسخة متكررة من موظفي النظام وعقلياته..
الثورة أن نكون غيرهم.. الثورة أن نحسن ما نقول ونتقن ما نعمل ونضع الأمور في نصابها.
وأعتذر لو لم يكن هذا المقال جيدا بمستوى ما رغبت في التعبير عنه، اعتبروه مقال بلح.. وأوعدكم المقال التالي يكون "أد الدنيا".. استنوني سنتين بس.. سنتين.
tamahi@hotmail.com