نشر وزير الري الإثيوبي سيليشي بيكيلي السبت (2 أيار/ مايو 2020) أحدث صورة للممر الأوسط بسد النهضة، تظهر فيها عملية صب خرسانة "الممر" تمهيدا لبدء التخزين بسد النهضة مع فيضان آب/ أغسطس 2020. وعلى الرغم من أن الصورة تظهر ارتفاعا بسيطا للخرسانة الجديدة، إلا أنه وفقا لمصادر أخرى، فإن الواقع الحالي أكثر تقدما مما هو في الصورة المعلنة، مما يعني أن ما تم نشره صورة قديمة للممر الأوسط وليست حديثة. ووفقا لمتابعتي لتطورات البناء بسد النهضة، فإن الصورة الملحقة ربما قد تم أخذها في نهاية شهر آذار/ مارس 2020.
وفقا لأحدث البيانات الإثيوبية نقلا عن وزير الري الإثيوبي، فإن الحكومة الإثيوبية تنوي تخزين 4.9 مليار متر مكعب من تدفقات فيضان الصيف، أي خلال الفترة بين (حزيران/ يونيو- أيلول/ سبتمبر)، وأعتقد أن أفضل توقيت للتخزين سيكون بعد مرور التدفقات الضخمة لشهر آب/ أغسطس، حيث يصعب التخزين خلال ذاك الشهر نتيجة للظروف الإنشائية لسد النهضة غير المكتملة.
حجز إثيوبيا لقرابة 4.9 مليار متر مكعب يعني ضمنيا تمكين ملء بحيرة سد النهضة حتى منسوب 562، الذي هو منسوب أنفاق مياه التروبينات العشرة العلوية. وهذا بحد ذاته يمثل علامة استفهام كبيرة في موقف الحكومة الإثيوبية، وذلك لأن كلا من مصر والسودان وترامب والبنك الدولي، قد "وافقوا" خلال مفاوضات واشنطن على السماح لإثيوبيا ملء البحيرة حتى منسوب 595 وتخزين 18.5 مليار متر مكعب بدلا من 4.9 فقط.
من الناحية الفنية البحتة، من الممكن جدا أن يكون "حرص" الحكومة الإثيوبية على عدم التخزين والوصول لمنسوب 595 يرجع لمشاكل فنية في أساسات سد النهضة، ولذلك فمن المهم جدا أن يتم الملء بشكل تدريجي لمنسوب 562 مع "تنفيذ" نموذج محاكاة للتعرف على إجهادات خرسانة السد، التي تبين أنها تعاني وتطحن نفسها في أثناء الأحمال الهيدروليكية لفيضان عام 2019.
وعلى الجانب المصري، فلا زال وزير الري يندد ويشجب الموقف الإثيوبي من مفاوضات سد النهضة ورفض إثيوبيا التوقيع على اتفاقية واشنطن، على الرغم من توقيع مصر عليها. وفي ظل انشغال الإعلام المصري بموضوع فيروس "كورونا"، تسود حالة من التجاهل المتعمد لأي أخبار بشأن تطورات سد النهضة، حتى كاد المواطن المصري ينسى في دوامة مسلسلات رمضان و"رامز مجنون رسمي" أن هناك خطرا اسمه "سد النهضة" يهدد حياته، بل يهدد وجود الدولة المصرية من الجذور.
مواقف وزير الري المصري والحكومة المصرية تعكس بوضوح "عقلية الموظف" المصري، فهو يدير ملف سد النهضة وحقوق مصر في النيل وفقا لـ"توجيهات" الرئيس السيسي؛ فتبريرات وزير الري المصري تتلخص في جملة واحدة؛ أنه "لا مانع من التضحية بالنيل ومصر حتى يعيش السيسي". لا معنى آخر لتبريراته "الفارغة" غير أنه يدير ملف سد النهضة وفقا لتوجيهات السيسي، الذي وقع مع الحكومة الإثيوبية اتفاقية شهر آذار/ مارس 2015 لا يعلم أحد في مصر "بنودها وملاحقها وتفسيراتها"، تلك البنود التي مكنت إثيوبيا بكل "ثقة" من بناء سد النهضة دون أي اعتبار للدولة المصرية.
تبريرات وزير الري المصري لفشل المفاوضات مع إثيوبيا تضع اللوم كله على "المفاوض" الإثيوبي دون أي "نقيصة" في الدور المصري. بل إنه يعلن في حوار مع عمرو أديب أنه كان يعلم منذ بداية المفاوضات رفض إثيوبيا التوقيع على أي "اتفاقية" تغل يديها في مياه النيل الأزرق، الذي يساهم بقرابة 32 مليار متر مكعب من ضمن الحصة المصرية ذات الـ55.5 مليار متر مكعب.
والسؤال هنا لوزير الري "الهُمام"، رئيس فريق المفاوضين المصريين "حامي حمى نهر النيل": لماذا لم تطلب سيادتك الخروج من اتفاقية مبادئ سد النهضة مبكرا، وسحب إثيوبيا للمحافل الدولية للحفاظ على حقوق هذا الشعب في قطرة المياه؟ ألم يكن هذا أشرف للدولة المصرية عن موقفها الحالي "الرخو"؟ لقد سكت وزير الري المصري عن ضياع حقوق هذا الشعب في مياه النيل فقط للفوز بــ"رضى السيسي"، حتى ولو كان الثمن هو نهر النيل نفسه.
على مدار خمس سنوات يكرر الإعلام أكاذيبه لتخدير الشعب المصري، مدعيا أن السيسي ذا الخلفية "العسكرية"، هو "المخلّص" الذي أرسله "الرب" لإنقاذ مصر والحفاظ على شريان الحياة لها، وأن حصة مصر لن ينقص منها "قطرة مياه واحدة".
وفي نهاية المطاف، يتبين لنا أن "المخلص" وحكومته قد وقعا على اتفاقية واشنطن، مشترطين على إثيوبيا ضرورة الحفاظ على منسوب بحيرة ناصر عند منسوب 165 فوق سطح البحر، وهذا يعني بقاء بحيرة ناصر بمستوى تخزين يكفي الدولة المصرية لفترة أقل من 8 أشهر فقط، ومن بعدها تصل مياه البحيرة لمنسوب التخزين الميت، بينما كان الهدف من بناء السد العالي هو الحفاظ على تدفقات دائمة من بحيرة ناصر تحمي مصر خلال فترات الجفاف، التي قد تمتد لقرابة سبع سنوات مثلما حدث خلال الفترة بين 1981 و1988 وليس فقط ثمانية أشهر.
وعلى الرغم من "تدني" المطلب المصري، إلا أن الحكومة الإثيوبية قد رفضت هذا الطلب (الهيدروليكي)، وأعلنتها صريحة بأنها (لا تبني سد النهضة) لخدمة (السد العالي)، وأن فكرة الترابط (الهيدروليكي) لن تتم بينهم.
بل ما زاد "الطين بلة"، أن مصر قد وافقت ضمنيا على حصول إثيوبيا على حصة ثابتة من التدفقات عند موقع سد النهضة تقدر بـ17.5 مليار متر مكعب، وهذا هو سر الرقم 31 مليار متر مكعب، الذي تصر إثيوبيا على تمريره عبر بوابات سد النهضة بعد اكتماله، حيث تطلب إثيوبيا حجزا دائما من تلك التدفقات يعادل 17.5 مليار من ضمن 48.5 مليار متر مكعب، هي متوسط تدفقات النيل الأزرق عند موقع إنشاء سد النهضة (48.5 – 17.5= 31 مليار متر مكعب).
ومعلوم أنه وفقا للقانون الدولي للأنهار، فإن لدولة المنبع حق الاستفادة من مياه الأمطار التي تسقط على حوض النهر، وهي تُقدر بقرابة 330 مليار متر مكعب على حوض النيل الأزرق، يذهب جزء منها لتغذية المياه الجوفية وري النبات، وجزء يتبخر، وتتبقى قرابة 83 مليار متر مكعب يعرف بــ"Runoff" تجري بمجرى النهر، تستحوذ إثيوبيا على جزء كبير منه قبل الوصول لموقع سد النهضة عند الحدود الإثيوبية- السودانية، حيث يتناقص ليصل فقط إلى 48.5 مليار متر مكعب، وهذا هو حق دول "المصب" أي السودان ومصر.
فحق الدولة المصرية في نهر النيل هو حق مكتسب منذ يوم نشوء مجري النيل قبل 25 مليون عام مضت؛ أضاعها السيسي ووزير الري المصري الذي "تهاون" في حق الشعب المصري تنفيذا لتوجيهات السيسي. فماذا بعد "إغلاق الممر الأوسط"؟. الله أعلم.