في الشهر الماضي، عرض الإعلامي المصري عمرو أديب، في برنامجه الخاص، لقاء مع بعض المهندسين المصريين العاملين في بناء السد التنزاني، المعروف بـ"محطة كهرباء جيوليوس نيرري". وأظهر عظمة شركة "المقاولون العرب" في بناء هذا السد الضخم، الذي لا يقل بتاتا عما تبنيه إثيوبيا (سد النهضة)، بل من الناحية الهندسية قد يكون أكثر تعقيدا؛ فالسد التنزاني هو من نوع السدود المقوسة، بينما "سد النهضة" من السدود الثقيلة. والفرق بينهما كبير جدا من حيث "طرق الإنشاء". هذا بالإضافة لبناء أربعة سدود "ركامية" يصل طولها لقرابة 16 كم.
جاءت حلقة الإعلامي عمرو أديب بمناسبة زيارة وزير الإسكان المصري عاصم الجزار لموقع السد ولقائه مع عدد من المسؤولين التنزانيين، إلى جانب إدارة شركة "المقاولون العرب" بموقع السد. كما امتلأت صفحات الجرائد المصرية جميعا بصور لوزير الإسكان المصري وهو واقف وسط حشد من المهندسين المصريين، أيضا بصور لمنشآت السد مثل الأنفاق والأجزاء المنخفضة لأساسات السد، التي بدأت تظهر تدريجيا لتعطي انطباعا بأن هناك "سدا" يبنى بالموقع.
المدقق لصور زيارة وزير الإسكان والإعلاميين المرافقين له، سيلاحظ أن صور الوزير ورفاقه تم أخذها من مسافة بعيدة ومن ارتفاع كبير، من المنشآت الأساسية للسد، تماما مثلما تفعل إدارة السدود عندما يتم ترتيب زيارة لتلاميذ أي مدرسة (ابتدائية أو ثانوية) لأي من السدود الكهرومائية، وليس "هكذا" تتم زيارة المسؤولين الفنيين لموقع أي سد كهرومائي. والسؤال هنا: لماذا لم ينزل وزير الإسكان المصري لموقع "السد" ويلتقط الصور مع العمال أو المنشآت التي تم فعلا بناؤها، فهكذا يفعل المسؤولون الفنيون عند زيارتهم لموقع العمل؟
الإجابة عن هذا السؤال وببساطة شديدة، هي أن من يبني "السد التنزاني" على "أرض الواقع" ليس المقاولون العرب، بل شركة صينية، كانت قد استلمت العمل في الموقع خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2020، وذلك بعد تهديدات الحكومة التنزانية بفسخ العقد مع المقاولون العرب بسبب "رداءة" جودة الأعمال وتأخرها الشديد، (نظرا لقلة الخبرة في هذا المجال). ثم تلا ذلك تكليف السيسي لرئيس الوزراء المصري "مصطفى مدبولي" يوم 4 أيلول/ سبتمبر بتنفيذ مشروع سد "جيوليوس نيريرى" في تنزانيا، ثم تم عزل رئيس شركة المقاولون العرب المهندس محسن صلاح، رئيس مجلس الإدارة السابق، يوم 23 أيلول/ سبتمبر.
قرارات السيسي بعزل رئيس شركة المقاولون العرب وتكليف الحكومة المصرية ببناء السد التنزاني؛ تعني ضمنيا الصرف على بناء "السد التنزاني" من ميزانية الدولة التي يترأس حكومتها الدكتور مصطفى مدبولي، وعليه فالدولة المصرية تصرف بشكل مباشر على بناء هذا السد من الخزانة المصرية، وكأنه "منشأة مصرية" على أرض تنزانيا؛ التي كانت من أوائل الدول التي وقعت على اتفاقية "عنتيبي" لتحرم مصر من ماء النيل، أيضا أول دولة صدّق برلمانها على تلك الاتفاقية العدائية للدولة المصرية.
لم تمض أسابيع قليلة حتى وصلت شركة صينية كانت تعمل في تنزانيا (في بعض منشآت البنية التحتية) لتتولى بناء السد نيابة عن "شركة المقاولون العرب"، التي صار دورها محددا تماما باستلام الأعمال المنتهية من "الصينيين" ثم إعادة تسليمها رسميا للجانب التنزاني. هذا بالإضافة لبعض الأعمال الصغيرة، مثل إنشاء طرق وجسور ترابية مؤدية للسد، ولكن بعيدا تماما عن جوهر البزنس الحقيقي، الذي هو "بناء السد".
ولعل هنا من المفيد أن نلقي بعض الضوء على العقد "المصري- التنزاني" لبناء هذا السد الكهرومائي، القادر على توليد قرابة 2100 ميجاوات/ ساعة. حيث أعلنت نتيجة "المناقصة الدولية" لبناء السد التنزاني تشرين الأول/ أكتوبر 2018، وفازت شركة المقاولون العرب مع شركة السويدي بالمناقصة، بقيمة 3.6 مليار دولار أمريكي.
إلا أنه يوم ذهب رئيس الوزراء المصري في منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2018 لتوقيع العقد مع رئيس تنزانيا، فوجئنا به يوقع على عقد بقيمة 2.9 مليار دولار وليس 3.6، مثلما أعلن في الجرائد العالمية في تشرين الأول/ أكتوبر 2018. وحتى هذه اللحظة لا يعلم أحد لماذا انخفضت تكاليف البناء من 3.6 مليار دولار إلى 2.9 مليار.
فوز شركة المقاولون العرب بتلك المناقصة الرخيصة جدا لبناء هذا السد، أثار جدلا حول العالم بسوق المنشآت العملاقة، وذلك لعدة أسباب؛ أولها أنه "أرخص" من أرخص سعر تقدمت به الشركات العالمية القادمة من الصين وتركيا والبرازيل وأوروبا بمسافة كبيرة جدا (غير مبررة)، ثم زاد الطين بلة أن السعر الثاني الذي تم التعاقد عليه أرخص من سعر المناقصة الدولية بقرابة 700 مليون دولار أمريكي.
في منتصف عام 2019، أي بعد قرابة ستة أشهر من وصول المقاولون العرب لموقع السد، أجرت عدة مؤسسات دولية ما يسمى بـ"دراسة الجدوى" لمشروع السد التنزاني، وذلك كمستند "روتيني" تحتاجه الحكومة التنزانية عندما تتقدم للبنوك الدولية للاقتراض من الخارج للصرف على بناء السد، حيث أكد المثمنون الأوربيون أن القيمة الحقيقية لبناء هذا السد التنزاني لا يمكن أن تكون 3.6 أو 2.9 مليار دولار، بل تعادل 7.58 مليار دولار.
كما اعترض المثمنون الأجانب على فترة بناء السد، حيث وافقت شركة "المقاولون العرب" على استكمال السد خلال 36 شهرا فقط، وفي حالة تأخير البناء سيكون من حق تنزانيا تغريم "المقاولون العرب" غرامة يومية تكافئ قيمة ما كان من المفترض إنتاجه من تروبينات السد. وعليه، فالمثمنون الأوربيون يقترحون مد فترة البناء لتصل على الأقل إلى ست سنوات بدلا من ثلاث سنوات. وهذا ما ترفضه تنزانيا وتؤكد أن من حقها "تغريم" المقاولون العرب يوميا حتى استكمال البناء. وعليه فيتوقع هؤلاء "المثمنون الأوربيون" أن القيمة الفعلية للسد بعد دفع الغرامات اليومية عن فترة التأخير "المتوقعة"، ستصل لقرابة 9.85 مليار دولار وليس 7.58 مليار فقط.
وصل ما دفعته تنزانيا للمقاولون العرب حتى منتصف أيار/ مايو 2021 قرابة 2.49 تريليون شيلينغ تنزاني (1.11 مليار دولار) من قيمة إجمالية تعادل 6.55 تريليون شيلينغ، أي قرابة 38.1 في المئة من قيمة العقد ذات الـ2.9 مليار دولار. وتم دفع تلك الأموال بعدما تأكد صرف شركة المقاولون العرب قرابة 969 مليون دولار على شراء تروبينات السد. فقط تم دفع 1.11 مليار دولار مقابل شراء التروبينات وتشغيل قرابة 5500 عامل وموظف ومهندس من مختلف الجنسيات، بما في ذلك الشركة الصينية التي تسلمت المشروع منذ شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي بسعر "السوق العالمي"، وليس بسعر شركة المقاولون البالغ 2.9 مليار دولار.
والسؤال هنا: لماذا تورطت شركة المقاولون العرب في بناء هذا السد الخرساني المقوس، بالإضافة لأربعة سدود ركامية يصل طولها لقرابة 16.2 كم؛ بهذا السعر المتدني جدا؟ ولماذا وافقت على استكمال البناء خلال ثلاث سنوات فقط لعمل يحتاج ست سنوات على الأقل؟ ولماذا وافقت على تخفيض سعر المناقصة الدولية من 3.6 مليار دولار ليصبح 2.9 مليار دولار فقط عند توقيع العقد؟ وأين ذهب هذا الفرق الضخم من الأموال؟
كل هذه الأسئلة مطلوبة الإجابة عنها من قِبل رئيس وزراء مصر، المسؤول الأول اليوم على الصرف من ميزانية الدولة المصرية لبناء سد بتنزانيا، أول بلد أفريقي وافق وصدّق على اتفاقية "عنتيبي" لحرمان مصر من حصتها المائية.