لم تفض الاجتماعات التي دارت خلال الأيام الماضية بين النظام
المصري وإثيوبيا إلى تحقيق أي تقدم ملموس، لا سيما أن الطرف الإثيوبي يلعب على عامل الوقت لفرض الأمر الواقع وبسط سيطرته على
النيل الأزرق، ومن ثم ملء وتشغيل سد النهضة دون أدنى مراعاة للمصالح المائية للطرف المصري، وكان رد النظام المصري في بيان خارجيته مؤسف لتأسفه من الموقف الإثيوبي.
وحاول الطرف المصري تعليق أزمة السد على الجانب الإثيوبي وإظهاره على أنه محور الشر في الكون والمتسبب في حالة الجفاف المنتظرة، والتي سيتبعها لا محالة مجاعة في ظل التزايد السكاني الرهيب الذي تشهده مصر الآن.
يريد النظام المصري تصوير الأزمة على أنها في ملء السد والخلاف على ملئه؛ في ثلاث سنوات كما تريد إثيوبيا، أم 12 سنة كما يريد النظام في مصر. ورغم رفض الجانب الإثيوبي هذا المقترح بالكلية، لأنه يتنافى مع هدف المشروع وهو توليد وتصدير الطاقة الكهربائية، فإن النظام المصري أكد أنه سيشارك في الاجتماع المقرر أن تعقده وزارة الخزانة الأمريكية مع وزراء الخارجية والمياه للدول المعنية بالأزمة في واشنطن، أيام 13 و14 كانون الثاني/ يناير القادمين، وهو ما يطرح تساؤلا حول جدوى هذه السفريات وتحميل الخزانة المصرية أعباء الرحلات السياحية التي تقوم بها تلك الوفود التي في النهاية لا تنتج طحينا، كما لا نسمع منها جعجعة.
الأزمة يا سادة ليست في الرحلات المكوكية ولا ملء السد، الأزمة الحقيقية في تلك السياسة الفاشلة التي تُقاد بها مصر من منتصف عام 2013، والتي أودت بمصر إلى التهلكة في شتى المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية والمصرفية والعلاقات الدولية. فلم يحدد النظام بوصلته بالاتجاه الصحيح في ظل حالة التخبط التي يعيشها، كما السارق الذي لا يدري أي وجهة يسلكها كي يخفي سرقته، أو كتاجر المخدرات الذي يريد أن يبيض أمواله وسمعته، فخرق كل ثوابت السياسة الخارجية وخرق معها ثوابت الأمن القومي المصري المتعارف عليها منذ مئات السنين، فضيع مقدرات البلاد ورهن إرادته لمن يمنحه الشرعية ووضعه ضمن المجتمع الدولي، حتى ولو في مؤخرة الصفوف، كتابع لدويلة تحركه كيف تشاء.
لو سألنا أحد قادة النظام المصري الحالي عن الهدف من إرسال جنودنا إلى
ليبيا، سيجيب لحماية حدودنا من الإرهاب. وهذه فرية لا يمكن لعاقل أن يصدقها، فحدودنا تقف على الطرف الآخر منها مليشيات اللواء المنقلب خليفة
حفتر، المدعوم بالأساس من النظام المصري وكفيله الإماراتي. فمنذ ست سنوات والطائرات المصرية والإماراتية تقتل المدنيين وتهدم عليهم بيوتهم دون رحمة، إذن فلا حاجة لدخول الجيش المصري، فالطائرات تقوم بالواجب. وإذا سألته عن حقيقة هذا التدخل ستعرف أنها آبار النفط في شرق ليبيا، والتي يرفض أي ليبي حر أن تسرق من قبل غريب حتى ولو كان عربيا، ومن ثم فإن الحكومة الشرعية ترفض أن يسرق حفتر مقدرات بلاده لصالح النظام في مصر أو الإمارات، من أجل أن يتحصل على شرعية لن ينالها إلا من سراق مثله.
إنما أنشئت الجيوش للدفاع عن أمن دولها برا وبحرا وجوا في الدرجة الأولى وحماية الدولة من الاعتداء الخارجي، والمحافظة على الحدود البرية والمياه الإقليمية، والمجال الجوي للدولة، كما يتدخل الجيش خارجيا إذا كان الأمن القومي للدولة مهددا. في النهاية الدور الوظيفي الطبيعي للجيش هو حماية مصالح الأمن القومي للبلاد، أما في حالات الدول الاستعمارية التمددية، فإن الجيش يتمدد ليحيف على حقوق جيرانه محققا أطماع الحاكم في كثير من الأحيان، وفي بعضها لتحقيق مكسب لبلاده من خلال إيجاد منفذ بحري مثلا للدولة إن كانت حبيسة، أو أن يكون تدخل الجيش من أجل نهب ثروات دولة جارة صديقة، فإن تدخله هذا لن يعود إلا بالخراب؛ إن لم يكن على المستوى القريب، فإن الأجيال القادمة من الدولة المعتدى عليها ستحمل الضغائن للدولة المعتدية دون النظر لمن فعل ولماذا فعل ومن جنى ومن لم يرفض.
إن الدور الحقيقي لجيش مصر ليس في ليبيا لسرقة مقدرات الشعب الليبي الشقيق، وقوته البحرية التي استعرضها في البحر المتوسط أولى بها البحر الأحمر على سواحل إريتريا حتى نسمع زئير مدافعنا لإثيوبيا التي ستعطشنا، أو في القاعدة العسكرية الإماراتية في إريتريا أو حتى في الصومال، في تدريبات مشتركة مع القوات الإماراتية المرابطة فيها، أليست الإمارات صديقة؟ أم هي ادعاءات؟ بالطبع هي ادعاءات، فالإمارات كانت من أوائل الدول التي مولت سد النهضة بإيعاز من الكيان الصهيوني، لضرب مصر في أهم شرايين حياتها.. نهر النيل.
أعيدوا جنودنا من ليبيا وأرسلوهم إلى إثيوبيا بدلا من أن تنوحوا أو تتسولوا الوقت من إثيوبيا، والجفاف قادم لا محالة.. كونوا يوما رجالا واتخذوا موقفا يذكركم به التاريخ، بدلا من اللعنات التي تصب عليكم كل يوم. فبعد إفقار الشعب تعملون على تجويعه، وبعد وقف إطلاق النار الذي تم عبر الهاتف بين الرئيس أردوغان والرئيس بوتين والذي وافق عليه حفتر مرغما؛ أصبح موقفكم سخيفا.. أعيدوا جنودنا وكفاكم طمعاـ وانظروا للشعب مرة واتركوا شهوتكم في نهب المال من الداخل والخارج، فنقطة ماء خير من بئر بترول.