خاطرة حول غلاف مجلة "تايم" لنهاية عام

في عام 1927 أحست مجلة "تايم" الأمريكية بالحرج لأنها لم تضع صورة تشارلس ليندبيرغ على غلافها، رغم أنه صنع التاريخ بأن كان أول من عبر المحيط الأطلسي من بلاده ـ الولايات المتحدة ـ شرقا إلى أوروبا، فكان أن تداركت الحرج بأن وضعت صورته على غلاف عددها الأخير لتلك السنة، مشيرة إلى أنه كان "شخصية العام"، ومنذ وقتها تَكرَّس تقليد اختيار شخصية أثْرت الأخبار وأثّرَت فيها، في عدد تايم لنهاية كل عام غريغوري (ميلادي).

مالئ الدنيا وشاغل الناس

تتعامل مجلة "تايم" مع اختيار مثل تلك الشخصية بجدية شديدة، وهناك فريق عمل كامل تنحصر مهمته في رصد ما ينجزه ويفعله أناس من مختلف المشارب والملل والنحل والقارات على مدار كل عام لاختيار واحد منهم بنهاية السنة بوصفه مالئ الدنيا وشاغل الناس، وتشارك في الاختيار أسرة تحرير المجلة بكاملها، وشخصيات أخرى عامة مشهود لها برصد الوقائع، وفي السنوات الأخيرة، صار من حق قراء المجلة المشاركة في الاستطلاع الخاص بالاختيار.

صار غلاف "تايم لنهاية" كانون أول (ديسمبر) لكل عام حدثا عالميا يترقبه المشاهير، وكل يسيل لعابه للفوز بـ "شرف" أن تزين صورته واجهة المجلة، ولكن قد يفوز بذلك الشرف أشخاص لم يسعوا إليه كأسامة بن لادن المبغوض أمريكيا، ولكن ما عَنَى المجلة من أمره، أنه صنع الأحداث والأخبار والتاريخ.

وهناك ألف سبب للتشكيك في حياد لجنة جوائز نوبل في هذا الشأن أو ذاك، ولكن ـ وفي تقديري ـ لا مجال للتشكيك في موضوعية مجلة "تايم" فيما يتعلق باختيار شخصية العام، لأن الأمر يتعلق بما كان الذي وقع عليه الاختيار قد حظيَ باهتمام الصحافة لأمد طويل سواء كان شريرا مثل هتلر، أو طيبا مثل بيل غيتس.

انتصارا للمناخ

شخصية العام 2019 كانت الصبية السويدية بنت الخمس عشرة سنة غريتا ثونبيرغ، التي رابطت أمام برلمان بلادها لأيام متصلة قبل عامين رافعة لافتة تقول إنها مضربة عن الدراسة "انتصارا للمناخ" الذي صار عرضة لعدوان غاشم في الدول الصناعية الكبرى التي تبث مصانعها ومركباتها سموما تسببت في ظاهرة الإحماء الحراري.

وما أن خاطبت غريتا اجتماع الجمعية العمومية الأخير للأمم المتحدة منبهة قادة العالم إلى أنهم غافلون عن الدمار الذي يلحق بكوكب الأرض بسبب التغيرات المناخية، حتى ارتفع عدد من رفعوا شعار "الإضراب انتصارا للمناخ" إلى ما يفوق الأربعة ملايين في جميع القارات.

 

 

من المؤكد أن في العالم العربي كتائب من المبدعين وذوي الإنجازات الجديرين بالاحتفاء على مستوى العالم، ولكن ضعف الإعلام العربي يقعده عن صناعة الأَعلام المستحقين للترويج والتمجيد

وقد يقول قائل إن غريتا ظاهرة صوتية وإن العالم أعجب بها لكونها يافعة ذات "مخ كبير"، ولسان فصيح، ولكن معظم النار من مستصغر الشرر، و"يضع سره في أضعف خلقه"، وقد نجحت الصغيرة غريتا حتى الآن في حمل بضعة برلمانات أوروبية على إصدار تشريعات ملزمة بخفض انبعاثات الغازات الضارة بطبقة الأوزون، كما أن بابا الفاتيكان صاحب السلطة الروحية الكبيرة في الأوساط الكنسية، استقبلها وتعهد بدعم حملتها لحماية المناخ من العدوان.

وكانت غريتا ثونبيرغ المنافس الأقوى لرئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد للفوز بجائزة نوبل للسلام للعام الماضي، ولكن حداثة عهدها بالمضمار الذي دخلته حرمتها من الجائزة، بينما فازت بتلك الجائزة في عام 2014 الباكستانية سابقا والبريطانية حاليا، ملالا يوسفزي، وكل رصيدها النضالي في خدمة السلام أنها أصيبت بطلق ناري وهي في طريقها إلى المدرسة الابتدائية، في سياق حملة حركة طالبان لمنع وتحريم تعليم البنات، وسرعان ما تبنتها هيئة "بي بي سي"، وسرعان مع ظهرت على غلاف مجلة "تايم" للسنوات 2012 و2013 و2014، بعد أن خضعت للبرمجة لتقول ما كلاما ليس فيه جديد عن أهمية تعليم البنات.

وبالمقابل فإن السويدية غريتا تعاني من متلازمة أسبيرغر، وهي أحد أطياف التوحُّد، وقدرتها على الانفعال سرورا أو حزنا محدودة، وبالتالي لا توجد حولها شبهة "البحث عن الأضواء"، وفوق هذا فإن القضية التي انبرت للدفاع عنها والترويج لها تهم عموم أهل الأرض التي باتت مهددة بالفناء التدريجي، طالما أن رجلا جهولا مثل دونالد ترامب يمكن أن يصبح حاكما للدولة الأقوى في العالم والأكثر تلويثا للبيئة، ولكنه يعتقد أن ظاهرة الدفيئة خرافة، ويعارض جميع العهود الدولية الرامية لمنع التغيرات المناخية.

سلام الشجعان

وعودا إلى أغلفة مجلة "تايم" على مر التاريخ يلاحظ الإنسان أنه ما ظهر عليها عربي بسبب إنجاز شخصي، إلا عددا دون أصابع اليد الواحدة، أبرزهم الرئيس المصري الأسبق أنور السادات والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، وما كان ذلك إلا لأن كليهما قبل ما عرضته الولايات المتحدة بمسمى "سلام الشجعان"، فوقع السادات على اتفاقية كامب ديفيد، وقبل عرفات بوصفة غزة ـ أريحا، وفي كلا الحالتين كان الرابح الأكبر إسرائيل.

على مستوى الصحافة العربية يصعب التوافق عاما تلو عام على شخصية واحدة بوصفها الأكثر تأثيرا على أحداث اثني عشر شهرا متتالية، فهناك ـ مثلا ـ من يعتبر خليفة حفتر وحسن نصر الله وبشار الأسد أبطالا من ذوي الإنجازات الجديرة بالاحتفاء والتوثيق، بينما آخرون يرون فيهم الشر المطلق.

ومن المؤكد أن في العالم العربي كتائب من المبدعين وذوي الإنجازات الجديرين بالاحتفاء على مستوى العالم، ولكن ضعف الإعلام العربي يقعده عن صناعة الأَعلام المستحقين للترويج والتمجيد، بينما تنجح الآلة الإعلامية الغربية في صنع الشربات من الفسيخ، كما فعلت في أمر ملالا يوسفزي.