في المقطع التالي، قام إسماعيل شبانة بأداء أغنية (أنا عشقت) لفنان الشعب سيد درويش في مقام حجازكار، وذلك ضمن قيامه بأداء كل الأغاني التي اشتمل عليها فيلم (سيد درويش) من إخراج أحمد بدرخان وإنتاج عام 1966.
لا نحتاج إلى بذل كثير جهد لندرك كم كان الصوت المؤدي لهذه الأغنية جميلا ومتّزنا، لا يحيد شعرة عن الخط النغمي الدقيق للّحن (لا يقع في النشاز).
اختار القدَر لإسماعيل شبانة هذا الدور الذي يكون فيه ظِلاّ لأهم شخصية في تاريخ الموسيقى المصرية الحديثة في فيلم يجسّد سيرة الشيخ سيد درويش، كما اختار له في الواقع أن يكون ظِلاًّ لشهرة أخيه الأصغر (عبد الحليم حافظ) التي طغَت على شهرته، وكأنّها مؤامرة محبوكة بعناية لإبقاء (شبانة) في الظل.
لم يأتِ الفيلم البيوغرافي إلا ليُكمل خيوطها التي بدأت في الواقع، منذ اختار العندليب الأسمر الأصغر أن يحترف الغناء. يبدو هذا صحيحًا جدًّا لدرجة أن صفحة متخصصة في إثبات بيانات الأفلام – كصفحة الفيلم على موقع السينما – لم تذكُر إسماعيل شبانة في أدائه أغاني الفِيلم، ولو من بعيد!
خروجًا من المجال العام لما هو شخصي بالنسبة لكاتب هذا المقال، أتذكر أبي جيّدًا وقد كان كثيرًا ما يدندن مَطلَع أغنية لا أذكر أبدًا أنه أخبرَني مَن مغنّيها الأصلي. كانت هذه أغنية (أكتر تلاتة باحبّهم). بالصدفة البحتة عرفتُ أنّها لـ(إسماعيل شبانة) من كلمات (صلاح فايز) ولحن (منير مراد).
اللحن في مقام العجم والكوبليه الثاني (بنتي الوحيدة) في مقام الكرد، بينما الثالث (أمّا شريكتي ف دنيتي) فيأتي في مقام الصبا. في هذا اللحن الخفيف الذي نفخ فيه منير مراد من تعبيريتِه الأخّاذة يقترب أداء (شبانة) من أداء شقيقه العندليب الأصغر، مبتعدًا عن استعراض قدراته الصوتية المتينة اللي نجد صداها في أدائه لأغنية (أنا عشقت).
وفي تقديري أنّ طبيعة الكلمات الأُسرية الدافئة للأغنية ترسم من بعيدٍ صورة للموقع الذي أراد القدَر أن يحتلّه (شبانة) في الغناء المصري، فهو في تلك المنطقة الدافئة التي لا تطمح إلى النجومية، كأنه بالفعل مُكتَفٍ بأن يغنّي لأسرته الصغيرة في دفءٍ قنوع!
وُلد (شبانة) في 6 ديسمبر 1919 في قرية الحلوات بالزقازيق بمحافظة الشرقية كما تخبرنا ويكيبيديا المصرية، أي أنّ قرنًا بالضبط قد مرّ اليوم على ميلاده، وكما قررت أماكن صُنع القرار الثقافي في مصر بدايةَ هذا العام الاحتفال بمرور قرن على ثورة 1919 باعتبارها رمزًا للاعتزاز بالهوية المصرية، فأضعف الإيمان أن نحاول أن نُعيد الاعتبار لصوت (شبانة) الذي لم يُواتِه الظرف التاريخي ليكون صوت تلك الثورة كـ(سيد درويش) الذي أدّى أغانيه في الفيلم المُشار إليه آنِفًا، كما لم يُهيّئ له القدَر أن يكون صوت الثورة التالية لها في 1952 كشقيقه الأصغر الذي أصبح أيقونة من أيقونات يوليو 52.
في أدائه (أنا هويت) لسيد درويش أيضًا، نجد (شبانة) يعطي كُل مقطع حقه من الفخامة أو الرقة، يجلو العُرَب شديدة اللطف فتكاد تضيء وهي بين حبلَي حنجرتِه. صحيح أنه ينتمي في الأغلب إلى طبقة الباص الأغلظ بين أصوات المطربين الرّجال، تمامًا كعبد الحليم، إلا أن هذا المستوى من الاتّزان أثناء انتقاله من قاع مداه الصوتي إلى قمّته وبالعكس، هو في رأيي مستوى يفوق بكثير ما كان عليه عبد الحليم نفسه.
أما في أوبريت (سهرة في القشلاق/ صف الجهاد جمّعنا في الجهاديّة) فقد اجتمع صوتا الشقيقين مع أصوات صلاح عبد الحميد وسيد إسماعيل وإبراهيم حمودة مع كورال الرجال، من كلمات (محمد حلاوة) وألحان (محمد الموجي) في مقام الهُزام على إيقاع المقسوم، خروجًا إلى مقام البياتي في الكوبليه الأول (من قِبلي) الذي يؤديه (صلاح عبد الحميد)، ومقام الراست في الثاني (وانا من بولاق) الذي يؤديه (شبانة)، والنهاوند على درجة (فا) في الكوبليه الثالث (من وجه بحري) بصوت عبد الحليم، ثم البياتي من جديد في الرابع (مِ اسكندرية بلادي) بصوت (سيد إسماعيل)، ثم يختم (إبراهيم حمودة) في مقام العجم في كوبليه (الجهاد جمعنا في صف واحد).
ولا يفوتنا ذلك الاضطراب في أداء عبد الحليم للعُربة المركّبة على درجة (دو) – وهي غمّاز مقام نهاوند على درجة (فا)، أي أنها درجته الخامسة- حيث يكون عليه أن يتحرك سريعًا من (دو) صاعدًا إلى (دو دييز) ثم يعود إلى دو ومنها إلى (سي بيمول)، لكنه يفعل ذلك في اضطراب بيّن، وذلك في الثانية 4:45/4:46 ثم الثانية 4:53/4:54 من هذا التسجيل، وتحديدًا في كلمة (البلَد) من أدائه لجملة "شيخ البلد قال لي طالبينك القُرعة".
بالطبع لسنا في مقام تحليل صوت العندليب، لكنّ هذا الاضطراب حين يُقارَن بركوز وتمكُّن (إسماعيل شبانة) يثير تساؤلاً مشروعًا عن فارق النجاح الذي أحرزه كلٌّ من الشقيقين.
في لقاء تليفزيوني قديم بالملحّن والممثل الكبير الراحل (عبد العظيم عبد الحَقّ)، يلخص (عبد الحق) ما قُلناه عن اضطراب العندليب في قمة مداه الصوتي، واختراق (إسماعيل شبانة) لقمة هذا المدى في سلاسة، فيصف (شبانة) بأنه كان (صوت قَوِّيل):
كان (إسماعيل شبانة) متنوّعًا كعبد الحليم في تقديمه ألوانًا غنائيةً مختلفة، فقد غنى باللهجة الريفية أغاني كثيرة كما في (الدنيا قِسَم ونصيب) من فِلم (الأرض الطيبة) من إخراج (محمود ذو الفقار) وإنتاج عام 1954. والأغنية من كلمات فتحي قورة وألحان أحمد صبرة في مقام البياتي، ويؤديها (شبانة) كعادته في تلك المرحلة المبكرة أداءً مضيئًا متّزنا.
كذلك غنّى القصيدة الفصيحة، فهاهي قصيدة (أفديهِ لمّا أتى في ليلةِ العِيدِ) لصالح جودت، في لحن شجي في مقام الكرد على إيقاع السماعي الثقيل. لكن ربما كان نمط القصيدة الكلاسيكية الشبيهة في مفرداتها وتراكيبها بالموشحات الأندلسية مسئولاً عن قِلّة حظها من الشهرة، لاسيّما أنّ اللحن هو الآخَر عضَّد هذا الشبَه كثيرًا، ومن الجائز أن ينسحب هذا بدرجةٍ ما على طبيعة اختيارات (إسماعيل شبانة) في مجملِها، والتي كانت تنحاز إلى جوّ قديم سكوني رائق، لم تقربه عواصف الثورة التي غيّرت كل شيء، بعكس اختيارات عبد الحليم التي كانت بإيقاعاتها الأسرع وكلماتها المتخففة من التنميق الكلاسيكي أقربَ للذائقة الجديدة وقتَ صعود نجم عبد الحليم.
أما الأغنية التي تحدث عنها (عبد العظيم عبد الحق) فهي (قلبي حبَّك) أو (يا سلام)، ونجد فيها صوت (شبانة) بالفعل صاعدًا هابطًا مداه الصوتي العريض في مرونة استثنائية، متنقّلاً مع اللحن الثري ميلوديًّا بين المقامات كأنه في نزهة، لا يبدو عليه أثر للتكلُّف، من الكرد في المطلع إلى الراست في (فرّقوا بينك وبيني) إلى العجم في (طال غيابك عن عيوني)، وهكذا.
تعاون (شبانة) كذلك مع الملحنين الذين اقترنت بصمتهم بصوت شقيقه العندليب، وبينهم (بليغ حمدي) في أغنية (أشتكي لكم منّه ليه)، وهنا نجد مسّ تلك العاصفة الثورية الموسيقية في اللحن، تلك العاصفة التي صبغت مُنجَز (عبد الحليم) بصبغتها ولم تمسّ (إسماعيل) إلا مسًّا خفيفًا، كما فعلَت هنا. يبدأ اللحن باندلاع الكمنجات في أعلى سلّم اللحن في مقام البياتي، لتهبط رويدًا رويدًا إلى ركوز المقام. هو لحن أكثر حيويةً من لحن (قلبي حبّك) مثلاً، ولا يخلو من تعبيرية صادقة، فالبداية الثورية للّحن – تلك التي تشبه لسان النار - كأنها تقدم معادلاً نغميًّا لاستنكار الكلمات: "أشتكي لكم منُّه ليه؟!".
لكنّنا حين نتأمل أداء (إسماعيل شبانة) هنا نجد أنه ليس ذلك اللامع كما كان في لحن (عبد الحق)، إذ لم يكن المجال مفتوحًا أمامه في لحن بليغ ليصعد ويهبط كما يحلو له. ربما في النهاية لم تكن الألحان الصاعدة مع الجو الثوري مناسبةً تمامًا لصوت (شبانة) الدافئ المستقرّ، ولذا قرَّر أن ينزوي أو تآمرت الظروف على إقصائه إلى الظل.
ربما يكون مناسبًا أن تنتهي هذه الاستعادة السريعة لإسماعيل شبانة بأثر غنائي قصير يمثل ركنًا مهمًّا من تركته الغنائية، ونعني بهذا الركن الأغاني الدينية والموشحات والمدائح. الأثر هو أغنية (الحسين بن علي) من فيلم (أموال اليتامى) للمخرج جمال مدكور من إنتاج عام 1952. القصيدة للشاعر صالح جودت واللحن لأحمد صبرة.
اللحن في مقام الهُزام في ميزان رباعي، والقصيدة في مجزوء الرَّمَل على وزن "فاعلاتُن فاعلُن"، والمهم هو الأداء الجبار من (شبانة) الذي يبدو أنه يجد ضالّته في مثل هذه الكلمات اللائذة بباب آل البيت وهذا اللحن البسيط القريب من بواكير الألحان المصرية المسجَّلَة، حتى قبل مجيء سيد درويش وتجريبِه واكتشافاته.
هنا ينطلق (شبانة) انطلاقًا لا نجد له مثيلاً في أيٍّ من الأمثلة السابقة. وربما لمحبته لهذا اللون الغنائي أثرٌ في إقصائه عن متن الأغنية المصرية بعد ثورة يوليو، فالأغنية الدينية وما يجري مجراها – رغم تجذرها في الوعي العام – تحتل هامشًا قصيًّا بالنسبة لمجمل ما يُكتَب ويُلَحَّن ويُغنَّى.
ختامًا، يبدو أن الانتشار والشهرة في عالم الغناء يعتمدان على تركيبة معقدة من العوامل التي يصعب اختزالها في المقدرة الأدائية للمغني أو طبيعة اختياراته من الكلمة أو اللحن وملاءمتها لصوته. فالمؤكد أن هذين العاملَين يتفاعلان مع الظرف التاريخي، وربما مع عوامل أخرى قد تبدو للوهلة الأولى تافهةً، كملامح وجه المغني، والمعروف عن حالته الصحية، ومدى اقترابه من صنّاع القرار، فضلاً عن موقفه من التجريب اللحني، إلى غير ذلك مما بحثه أو أهمله المهتمّون بمقادير نجاح المطربين.
ورغم أن كثيرين مثلي يعتقدون أن (إسماعيل شبانة) لم ينَل حقّه من الشهرة والنجاح في حياته، إلا أن عزاءنا أننا حين نتأمل مُنجَزه الحافل نكتشف كم كان فريدًا ودافئًا وسلسًا وجميلا. ربما لم تهزّه عواصف الثورة كما هزّت شقيقه العندليب، إلا أن ركوزه واستقراره يُشبعان فينا منطقةً تحنّ إلى هذا الهامش المستقِرّ، بعيدًا عن صخَب المتن.
رحيل رائد الدفاع عن اللغة العربية بمصر (شاهد)
فضاءات تشكيلية ثلاثة: وسام فهمي وأمينة الدمرداش وكاميلو أرياس