مع إغلاق عقدها الثامن، رحلت المغنية الفرنسية ماري لافوريه (1939- 2019) بداية الشهر الجاري في بلدة جينولييه، في الريف السويسري الهادئ، هناك حيث اختارت أن تقضي سنواتها الأخيرة بعيداً عن الأضواء الباريسية وضجيجها، وهي التي عاشت سنوات شبابها تنافس كبريات الفنانات من جيلها مثل داليدا وباربرا وميريل ماتيو وفرانسواز هاردي.
ومع رحيل كل واحدة منهنّ يذكر الجمهور ذلك "الزمن الجميل" بما كنّ يقترحنه من أغان، وخصوصاً حضورهن الأنثوي قبل موجة الفنون الشبابية، والتحولات العميقة التي طرأت على صورة الفنانات، من صانعات للأغاني الحالمة إلى نجمات الفيديو كليب الديناميكيات.
وعلى الرغم من هذه العزلة الاختيارية في سنواتها الأخيرة، فإن رحيل لافوريه لم يمر مرور الكرام فقد احتفت بها معظم وسائل الإعلام الفرنسية وحضر عدد كبير من محبيها جنازتها في وسط باريس، كما كانت فرصة للعودة إلى ريبرتوار سنواتها الذهبية بين عقدي الستينيات والثمانينيات، حيث أثّثتها بأغان أحبها الجمهور، ولا يزال، مثل: "عُد عُد" و"لقد نزل الثلج في يسترداي" و"حبّي.. صديقي" و"كم وددتُ أن تفهم"، كما تميّزت بحسن إعادة غناء أعمال لغيرها منتحتها لمسات من دفء صوتها مثل "الحنان" لـ بورفيل، و"تحدث بصوت هامس" عن لحن نينو روتا الذي أنجزه لفيلم "العراب" الأميركي.
لم يكن اسم ماري لافوريه سوى اسم مستعار أتاح لها بناء صورة "الفنانة الرومانسية"، إذ يبدو أن منتجيها في سنوات صعودها الأولى قد نصحوها بالتخلي عن اسمها الحقيقي؛ مايتينا دوميناش، والذي يشير إلى أصولها الباسكية، مما يعيق نجوميتها التي توقّعها كثيرون مع ظهورها الجماهيري الأول وهي في عمر العشرين ضمن برنامج موسيقي في إذاعة "أوروبا 1"، قبل أن تتسارع خطوات نجاحها طوال عقد الستينيات الذي أنتجت فيه ست ألبومات وضعتها على إحدى قمم الأمجاد الفنية ومكرّسة إياها كإحدى نجمات مرحلة ما بعد إديث بياف، الفنانة الفرنسية التي تكاد تكون الصوت النسائي الأبرز في بلادها لثلاثة عقود متتالية، حيث رحلت بياف في 1963.
على نفس النسق واصلت لافوري مسيرتها الفنية في السبعينيات منتجة سبع ألبومات غنائية، وقد دعمت حضورها الموسيقي بظهور متواتر في الأفلام السينمائية، ورغم أن معظم أفلامها كانت خفيفة إلا أنا كرّستها لرمز من رموز المرحلة معبّرة على الصيغة المعاصرة للفتاة الحالمة بالحب مع النجاحات المهنية والاجتماعية.
في الثمانينات، تقلّص الإنتاج الموسيقي لماري لافوريه بشكل واضح. بدا أنها مكتفية بنجاحات عقدين من الزمن، وقد يكون ذلك بسبب ما لمسته من جمهور حفلاتها حيث يطلب الحاضرون دائما نفس الأغاني التي عرفوها بها.
ولعلّ أبرز حدث في ذلك العقد هو إصدار كتابها "أساطير حياتي الشخصية" في 1981، والذي قدّمت فيه نصاً لطيفاً أحبّه النقاد وجمهور القراء دون أن يعتبروه سيرة ذاتية، فقد حرصت لافوريه على عدم قول كل شيء بخصوص حياته مكتفية بتقديم نفسها كفتاة دائمة الشباب، ولعل أكثر ما أثار المتابعين هو سردها لوقائع من علاقاتها العاطفية ومنها زواجها أكثر من مرة. ستعود المغنية الفرنسية للكتابة في بداية الألفية ضمن نفس الرؤية التي قدمتها في كتابها الأول، فنشرت بالخصوص كتاب "أسحاري الصغيرة.. وصفة لنكون شبابا".
غير أن هذه الكتابات أسقطت معلومة أساسية ستؤثّر في صورة لافوريه كثيراً حين كشفتها في ظهور تلفزي سنة 1998. حينها عادت المغنية الفرنسية بالذاكرة إلى سنوات طفولتها الأولى والتي تزامنت مع أحداث الحرب العالمية الثانية والاحتلال النازي لفرنسا، وقد كشفت أنها قد تعرّضت للاغتصاب وهي لا تزال طفلة تحت سن السادسة، وظلّت تعاني الكثير من الآلام النفسية جرّاء هذه الواقعة، معتبرة أن "دوامة الفن" ساعدتها في مغالبة هذا الألم.
مثّلت تلك التصريحات صدمة للرأي العام، وقد أثارت الكثير من التعاطف مع ماري لافوريه. من يصدّق أن تلك الفتاة ذات العيون الحالمة والصوت الدافئ تخفي طوال مشوارها سراً بهذا الحجم؟ ومن يصدّق أن التي منحت للعشاق أكثر من أغنية يتبادلونها كانت تفعل كل ذلك من أجل أن تتجاوز وجع جرحها العميق؟
الفرنسي دوبوا بعد حصوله على جائزة "غونكور": "أمر لا يصدق"
جحيم سارتر: كيف عالج التلفزيون والسينما أبوابه المقفلة؟
حي بن يقظان: أربع قصص بأهداف أيديولوجية مختلفة (2-4)