"ملأ الدنيا وشغل الناس".. صحيح أن ابن رشيق القيرواني قال هذه العبارة في المتنبي، وذلك في كتابه "العُمدة" في سياق الحديث عن مشاهير شعراء العربية في كل جيل. لكن للعِبارة إغراء يتجاوز سياقها المخصوص إلى كل حقل يبرز فيه شخص يُجبر العالَم على الانتباه إليه.
وحين يتعلق الأمر بالفلسفة، نستطيع في ثقة أن نعُد سارتر بين هؤلاء الذين ملأوا الدنيا وشغلوا الناس.
من بين الفلاسفة العظماء الذين عاشوا في القرن العشرين وكانت لهم مذاهبهم الفلسفية المعتبرة، إما امتدادا لتيارات فلسفية في القرن السابق أو إحياء لتيارات أقدم أو خلقا جديدا أو شِبه جديد، يكاد سارتر يكون الوحيد الذي يَسهُل أن نسمع عبارة منسوبة إليه في إحدى حلقات مسلسل رومانسي كوميدي مصري خفيف، لا أذكر إن كان (اللص الذي أحبه) أم (غاضبون وغاضبات)، حين تقول شيرين سيف النصر لشريف منير: "سارتر بيقول الجحيم هو الآخَرون"!
ربما كان العامل الأهم في هذا الانتشار الفريد الذي حققه سارتر خارج دوائر المهتمين بالفلسفة، إخلاصه في التعبير عن أفكاره أدبا، وبالتحديد في رواياته ونصوصه المسرحية. فلو كان مرَدّ الانتشار إلى مؤلفات فلسفية رصينة مثل كتابه الأشهر (الوجود والعدم L'Etre et La Neant) لتساءلنا لماذا لم يذِع مثله اسم (إدموند هوسرل) أو (مارتن هايدجر) مثلا.
ولو كان المُعول على اتساع المذهب الفلسفي، وتعدُّد اهتمامات الفيلسوف التي يتناولها ضمن نسقه الفكري الخاص، لتساءلنا، لماذا لا نسمع في المسلسلات الخفيفة اسم (هنري برجسون) رائد المذهب الحيوي، الذي ناقش اهتمامات كثيرة وترك بصمات كبيرة، لاسيّما في كتابه (الضحِك) الذي حلَّلَ فيه آليات عمل الكوميديا بكل أنواعها؟
لكن محض اهتمام سارتر الاستثنائي بالأدب جاء متسقا أصلا مع لب فلسفته الوجودية التي لا ترى للإنسان ماهية سابقة على وجوده. حيث مثّلَ الأدبُ بالنسبة لإرثِ سارتر الفكريِّ الجسد المتعيّن الذي عاشَت به أفكارُه وأثبتت وجودَها.
فكأنها لم تكن لها ماهيّة سابقة على هذا الوجود في مسرحياته ورواياته، ولم تكتسب ماهيتَها إلا بتردُّدها في ثنايا هذه الأعمال السرديّة التي تركها لنا.
نص الغرفة الواحدة
"الجحيم هو الآخَرون L'Enfer c'est les Autres" عبارة يقولها مسيو (جارسان) أحد أبطال مسرحية سارتر (الأبواب المقفلة Huis Clos) قُرب نهاية المسرحية. كتب سارتر النص سنة 1944، كما شهد هذا العام أول تجسيد لها على خشبة مسرح "يو-كولومبييه Theatre du Vieux-Colombier".
الذكرى الـ75 لمسرحيته
هكذا تحلّ الذكرى الخامسة والسبعون للمسرحية وعبارتها الأشهر هذا العام. ملخص المسرحية أن رجلا وامرأتين يجدون أنفسهم معا في حجرة بلا نوافذ، نورها مُضاء ولا يُطفأ أبدا، يقودهم واحدا وراء الآخَر إلى داخل هذه الحجرة خادم في فندق الجحيم.
حين يتساءل كلٌّ منهم عن آلات التعذيب وعن النار الموقدَة وغير ذلك مما وصفَته الكتب المقدسة من تفاصيل العقاب الأبدي للخُطاة بعد الموت، يُجيبُهم الخادم بأن الأمر ليس على هذه الشاكلة إطلاقا، ويتركهم ليقيموا بينهم حِوارا.
الثلاثة هم (جارسان) من ريو دي چانييرو، و(إستيل ريجو) و(إيناس سيرانو). تدريجيّا يجد كلّ منهم نفسه محاصَرًا برفيقيه ليعترف بخطيئته الكبرى التي ألقَت به في الجحيم.
(جارسان) فرَّ من الحرب وآثر أن يواصل عمله صحافيا في جريدة تدعم السلام، كان ينوي افتتاحها بعد أن يعبر الحدود هاربا، كما كان يسيء معاملة زوجته المخلصة، فيعود كل ليلة إلي بيتهما تفوح منه رائحة الشراب والنساء، حتى أنه أتى بامرأة أخرى إلى البيت إمعانا في إذلال زوجته.
(إستيل) تزوجت في سن مبكرة رجلا غنيّا يكبرها بكثير، ثم خانته مع شاب عرَفَته وهي متزوجة، وحملَت من عشيقها طفلةً لم يشكّ زوجُها في نسبتها إليه، لكنها قررت أن تتخلص من الطفلة بإلقائها في البحيرة المجاورة لغرفتها في سويسرا.
أما (إيناس) فقد كانت سِحاقية مستغرقة في نزواتها الجنسية، حتى أنها أغوَت زوجة ابن عمها الشابة، وأقامت معها علاقة أفسدَت حياتها الزوجية. يستغرق الثلاثة في حوار طويل يصلون من خلاله إلى نتيجة مفادها أن كلاًّ منهم أداة تعذيب لرفيقيه، بالتالي، فالجحيم هو الآخرون.
كان طبيعيا أن تغري السينمائيين فرادة هذا النص المسرحي وثراء حمولته الفلسفية الجديرة بإعادة القراءة مرات ومرات. لكن الصعوبة الأبرز تمثلت بالتأكيد في الخلفية الواحدة لكل مشاهد المسرحية، فالحدث يجري في مكان واحد كما قلنا.
وهذا وإن كان مقبولا ومتعارَفا عليه على المسرح منذ ميلاده الرسمي عند الإغريق، إلا أنه يبدو ضد التقاليد السينمائية. فالسينما تحتفي بالحركة في المقام الأول، ولعل هذا يتضِح إذا تأمَّلنا الأصل اليوناني لكلمة سينما (كينِما) الذي يعني (الحركة)، فقد كانت أول العروض السينمائية تاريخيّا هي تلك التي تُظهر لقطات متتابعة تصوّر حركات الأشياء، كحركة دخول قطار إلى محطته، دون صوت.
وظلت السينما صامتة طويلاً، وحين قررت استخدام الصوت كانت أهميته أقل بكثير من الصورة والحركة. كذلك أكَّد (ألكساندر أستروك Alexandre Astruc) الناقد والمخرج الفرنسي في نظريته عن سينما المؤلف Auteur Theory على مفهوم (الكاميرا القلَم caméra-stylo) إذ يعتبر الصورة هي اللغة الأساسية للسينما ومِن ثَمّ يجب على المخرج أن يستخدم الكاميرا كما يستخدم الكُتّاب القلم.
وما زالت المهارة الأهم بين ما ينبغي على كاتب السيناريو أن يتدرب عليه من مهارات هي أن يستطيع بالكلمات أن يرسم صورة تُغني المُشاهِد عن الحوار. وهكذا تميز نص سارتر بهذه الصعوبة التي تُضاف إلى صعوبة تقليدية في طبيعة النص المسرحي على إطلاقه إذا ما أردنا تحويله إلى فيلم، وهي اعتماده المطلق على الحوار.
النسخة الفرنسية: فِلم لـ(چاكلين أودري)
تخصصت (أودري) في الأفلام المأخوذة عن اعمال أدبية ناجحة، فقد أخرجت النسخة الأولى من فِلم (چيچي Gigi) سنة 1949، مبنية على الرواية القصيرة التي تحمل نفس الاسم للروائية الفرنسية (كوليت) التي رُشِّحت لنوبل سنة 1948، كما أخرجت فِلم (مِحَن صوفي Les Malheurs de Sophie) مبنيًّا على رواية الكونتيسة دي سيجور بنفس الاسم.
في هذا الفِلم الذي احتفظ بعنوان مسرحية سارتر Huis Clos والذي أُنتج عام 1954، قام (فرانك فيلار Franck Villard) بدور (جارسان)، بينما قامت (جابي سلفيا) بدور (إستيل ريجو) وقامت العظيمة (أرليتي Arletty) بدور (إيناس) والكوميدي (إي? دونيو Yves Deniaud) بدور الخادم.
لتَخرج (أودري) من ورطة المكان الواحد، لجأت إلى حيلتين. أولا، مدّت أحداث المسرحية إلى الخلف قليلاً، فبدلاً من أن تبدأ الأحداث بدخول (جارسان) بصحبة الخادم إلى الغرفة، بدأت بدخوله مصعد الفندق.
هكذا نجد تتابعا افتتاحيا من المشاهد في المصعد وردهة فندق الجحيم والطرقة الموصِلة إلى الغرفة.
كذلك أضافت (أودري) عددا كبيرا من الكومبارس إلى تتابع المشاهد الافتتاحية، وهم إما نزلاء آخَرون في الجحيم أو موظفون في الفندق. ثانيًا، عمدت إلى ذكريات الشخصيات الثلاث وتأملاتهم فيما يحدث على الأرض بينما هم في الجحيم، فحوّلتها إلى مشاهد متفاوتة الأهمية، يشاهدونها معا من خلال ستار يُزاح عن أحد حوائط الغرفة فتتحول إلى شاشة سينما، وبهذا تخلق (أودري) أثرا لطيفًا من (الفِلم داخل الفِلم).
وخلال هذا الأثر الميتاسينمائي نشاهد مع أبطال الفيلم الثلاثة رفاقهم وهم يتحدثون عنهم بعد وفاتهم، فنشاهد رجال المقاومة في ريو دي جانييرو وهم يتهمون رفيقهم الراحل (جارسان) بالخيانة، وزوجته وهي تتلقى الإهانات من عشيقته ثم تتخلص أخيرًا من ذكراه قبل موتها، كما نشاهد الزوجة الشابة التي أغوَتها (إيناس) وهي تسترد عافيتها بعد أن حاولت الانتحار وتتخلص بدورها من ذكرى (إيناس) وتستأنف حياتها مع زوجها.
وأخيرا نشاهد صديقة (إستيل) وهي تحاول إغواء الشاب الخجول الذي أحّبّ (إستيل) وكان يظنها بريئة.
الخلاصة أن (أودري) استغلّت كل ما سمحت به إمكانيات الحوار الذي أبدعه (سارتر) لتُخرج لنا فِلمًا مكتنزا بالأحداث متنقلا بحرية في أماكن التصوير. والمفاجأة أن مَن أعَدّ السيناريو عن النص المسرحي كان (سارتر) نفسه بمشاركة (پيير لاروش)، وهو ما يؤكد لنا قيمة (الجسد) الفني الذي أراد سارتر لأفكاره أن تظهر من خلالِه.
كان أداء الممثلين الأربعة الأساسيين في الفِلم نموذجا لما يمكن أن نتصوره من قراءة النص. فجاء فرانك فيلار تجسيدا للخشونة الممزوجة بالشاعرية، تلك التي نتوقعها من صحفي مثقف يخون زوجته ويبرر لنفسه خيانة وطنه بحِيَل دفاعية نفسية معقدة, بينما كانت (جابي سلفيا) على قدر ما نتوقعه من النموذج الذي رسمه (سارتر) لإستيل في نصّه: شابة على قدر معتبر من الجمال ضئيلة الجسد ومهتمة بمظهرها إلى أبعد الحدود.
والحقيقة أن (جابي) تذكّرنا بملامح الممثلة المصرية (ماجدة الخطيب) إلى حدّ بعيد. أما (أرليتّي) فقد جسدَت نموذج المرأة القوية التي تتبنى موقفًا سلبيًّا من الرجال Misandrist وتحاول اتخاذ شريكاتها من الفتيات النحيلات، وقد تضافرَت بِنية أرليتّي بادية القوّة مع قدرتها البالغة على التعبير الصوتي مع ابتسامتِها الواسعة الساخرة المربكة – التي تذكّرنا بابتسامة الممثلة المصرية الراحلة تحية كاريوكا – لجعلها التجسيد المثالي لنموذج (إيناس).
أخيرا، كان (دونيو) تشخيصا موفقا للغاية للخادم، فقد كان بجسده المترهل ومخارج حروفه التي أزرى بها تقدُّم سنّه وسقوط أسنانه وقت إنتاج الفيلم، فضلاً عن ابتسامتِه اللامبالية، معادلا بصريّا للعبث الجهنمي الذي أراده سارتر.
والحّقّ أن نص (سارتر) يجعل الخادم أساسا بلا جفون، كما يلاحظ (جارسان) ضمورَ أجفانِه، وهي إشارة إلى فقدان النوم والقدرة على إغماض الأعيُن في الجحيم، كما لو كان (سارتر) يلتقي دون قصدٍ مع الآية القرآنية من سورة (ق) التي تصف أهل النار وهم يرَون الأشياء على حقيقتِها: "لقد كُنتَ في غفلةٍ من هذا فكَشَفنا عنكَ غِطاءَكَ فيَصَرُكَ اليومَ حَديدٌ". لكنّ (أودري) لو كانت لجأت إلى أي ماكياچ أو حيلة تقنيةٍ أخرى لإبراز هذا المعنى لأخرجَت لنا فلم رعب صارخًا، وهو أمر لم تُرده بالتأكيد.
* نسخة تليفزيون بي بي سي لـ(فيليپ سايل):
هنا لم يستحضر المخرج البريطاني الشهير من حياة أبطاله الثلاثة إلا لقطات محدودة عرَضها في بداية التمثيلية، بهدف تلخيص أسباب دخول الثلاثة إلى الجحيم، ثم انتقى منها أقلّ القليل ليعرضه كذكريات لحظية أثناء زمن الحدَث وتأملات لما يحدث على الأرض في محيط معارف الأبطال الثلاثة، وجاءت هذه اللقطات كلها صامتة. كذلك جاء ديكور غرفة الجحيم فقيرًا للغاية مقارنةً بديكور فيلم أودري.
ولم يحاول المخرج إثبات إخلاصه لإمكانيات الإنتاج التليفزيوني، فجاءت التمثيلية معتمدة على الحوار فقط. وليس أدَلَّ على اقتصاد (سايل) مِن اللقطات التي يعمد فيها إلى إظلام الشاشة حول وجه كلٍّ من أبطاله الثلاثة في اللحظات التي يرَون فيها ما يحدث على الأرض لمعارفهم وأصدقائهم. استعار (سايل) في هذه اللقطات تقنيات المسرح البسيطة ليخلق حالة المونولوج عند أبطاله. هكذا كان جحيم هذا الفيلم أقرب روحًا إلى جحيم سارتر الأصلي باقتصاده الشديد في العناصر غير الحوارية من الدراما.
وربما تكون الإمكانية السينمائية التي ميزت إخراج (سايل) هنا هي اللقطات القريبة لوجهي إستيل وإيناس حين تقوم الأخيرة بدور المرآة للأولى في محاولة لإغوائها، وقد أحسن استغلالها تماما لإبراز انفعالات الشخصية السحاقية.
بعكس (أودري)، اختار (سايل) لدور الخادم ممثلا شابّا أقرب إلى النحول، يتميز بابتسامة صفراء باردة وملامح منذرة. المفاجأة أنّ دور (جارسان) الذي قام به الكاتب المسرحي والممثل البريطاني صاحب نوبل الأدب (هارولد پنتر Harold Pinter) ليس الدور الوحيد الذي لعبه كاتب في هذه التمثيلية، فقد تقمصت دورَ (إيناس) هنا الكاتبة والممثلة (چِان آردِن Jane Arden) زوجة مخرج العمل (سايل).
أما دور (إستيل) فقامت به (كاثرين ووديل). والحقيقة أن طريقتهم في تشخيص النماذج الثلاثة اختلفت تمامًا عن أبطال فيلم (أودري)، فلم يكن (هارولد پنتر) ذلك العصبي حاد المزاج ظاهر الخشونة كما كان (فرانك ?يلار) في الفيلم الفرنسي، وإنما كان شخصية مُصمتة لا تفصح عن انفعالاتها بسهولة.
أما (چِان آردِن) فقد ذهبت بشخصية السحاقية في اتجاه ربما لم يكن في حسبان (سارتر)، فهي تسرح كثيرًا وهي تتكلم، وحين تعود من شرودها لتواجه زميليها في الجحيم تعود محملة بطاقة انفعالية متفجرة غضبًا في حالة (جارسان) وعذوبة شديدة في حالة (إستيل).
هكذا ربما أفاضت (چِان آردِن) على الشخصية السحاقية من روح المثقفة المهمومة، وهذا فضلا عن طريقة حديث (آردِن) التي تشبه إلقاء الشِّعر على المسرح معظم الوقت. أخيرا جاء أداء (كاثرين وود?يل Katherine Woodville) استثنائيّا في تشخيص دور المرأة اللعوب المصممة على إغواء الرجل الوحيد في الغرفة، فهي هنا مقتحمة تماما، بعكس (جابي سلفيا) في الفيلم الفرنسي حيث كانت أقرب إلى نموذج المينيون Mignonne التقليدية التي تغوي بضآلتها وإحجامها الأنثوي.
النسخة الأرجنتينية A Puerta Cerrada:
هنا أضاف المخرج (پدرو إسكوديرو Pedro Escudero) لمسات موحية بجو سحري جحيمي، كأن يُغلَق باب الغرفة من تلقاء ذاته بمجرد أن يخرج الخادم ويترك (جارسان) وحيدا، وينفتح كذلك من تلقاء ذاته وهو قادم برفقة (إيناس)، وكالنافذة التي تنفتح لإيناس فترى فيها فلورنس، ولا يرى جارسان خلفها إلا حائطًا مصمتا.
توسع (إسكوديرو) في تصميم غرفة الجحيم، فأضاف حمّامًا ودولابًا فارغًا لم يكونا موجودين في الأصل، وهو بذلك حاول إثراء مشاهده وحشدها بالمزيد من التفاصيل والتنويعات البصرية بهدف مقاومة ملل الجمهور من الغرفة الواحدة. هذا بالإضافة إلى استفادته من تيمة الأشياء الدنيوية التي أوجدها سارتر في جحيمه وأفقدها وظائفها، كفتاحة أوراق الكتب الموجودة في غياب الكتب.
هنا أوجد (إسكوديرو) جهاز راديو لا يُخرج إلا نغمات مشوشة تمامًا حين يحاول (جارسان) تشغيله (لكنه يُخرج موسيقى واضحة مونوفونية حين تشغّله إستيل)، وهاتفًا يرتمي عليه (جارسان) بمجرد أن يراه حيث يعلق عليه آماله في كسر عزلة الغرفة، ليجد رسالة مسجلة تتكرر في آلية حين يرفع السماعة.
كما أوجد مرآة – بعكس النسختين السابقتين المخلصتين لغياب المرايا في النص الأصلي – لكنها محطمة تمامًا ولا تعكس صورة الناظر إليها، ثم تلتئم المرآة حين تنظر إليها (إيناس) لكنها ترى فيها عشيقتها (فلورنس).
مشاهد الذكريات وتأمُّل الأحداث الأرضية تبرز في فيلم إسكوديرو بشكل مفاجئ ولا ترتبط بمقدمة محددة كالنظر إلى أحد الحوائط في النسخة الفرنسية أو إظلام الشاشة حول وجه الأبطال كما في الإنجليزية. كذلك أكثرَ إسكوديرو من استخدام الإضاءة الخافتة Low Key Lighting في المشاهد المتعلقة بتأملات جارسان ورفيقتيه، معمقًا بذلك الأثر الحُلُمي الذي تُحدِثه هذه النسخة من الجحيم.
بدا أبطال الجحيم الأرجنتيني أكثر عُصابية من زملائهم الفرنسيين والإنجليز، فالممثلة القديرة (ماريا أورليا بيسوتّي Maria Aurelia Bisutti) التي قامت بدور إيناس، و(إلزا دوريان) في دور إستيل و(كارلوس براون) في دور جارسان، ثلاثتهم تميزوا بالتحولات الانفعالية العنيفة في تجسيدهم لأبطال هذا الجحيم. ولعل ماريا بيسوتّو تحديدًا تذكّرنا بالفنانة المصرية القديرة الراحلة سناء جميل في قدرتها على التمثيل بصوتها وعلى تجسيد التحول الانفعالي العنيف، حتى أن ملامح وجهيهما متشابهة بدرجةٍ ما، وإن كانت أيضًا تشبه الفنانة (تيسير فهمي) بدرجةٍ كبيرة!
لعبت الموسيقى التصويرية دورًا مميزًا في هذه النسخة، فقد جاءت بالكامل مونوفونيةً في مقام صغير - ومنها ذلك الجزء الذي أذاعه الراديو حين شغّلته إستيل - كأنها تجريد لحالة الميلانخوليا والعذاب النفسي الشديد الذي يعانيه نزلاء هذا الجحيم.
في الختام:
مثّلت هذه التناولات الثلاثة لجحيم سارتر ثلاث رؤى إخراجية متفاوتة في إخلاصها لطبيعة الوسيط الذي تعمل من خلاله، فبينما سعت النسختان الفرنسية والأرجنتينية إلى استغلال إمكانيات السينما غير المحدودة في إثراء العمل، أدارت النسخة الإنجليزية ظهرَها لإمكانيات التليفزيون، حتى أن المخرج (فيليپ سايل) رأى نفسه مضطرًّا لاستعارة تقنيات المسرح وهو يصنع دراما تليفزيونية! في تقديري أن النسخة الإنجليزية ربما تكون الأبعد عن الذائقة العربية لهذا السبب.
إلا أن اللافت هو إخلاص النسخ الثلاث للنص الأصلي في إطاره العام وتفاصيل حِواره، وهي ملاحظة تشير إلى سطوة النص المتفرد الذي أبدعه سارتر المحتشد بالإشارات الفلسفية.
وفي تقديري أن نصًّا ثريا كهذا سيظل مفتوحًا للقراءة والتأويل والتجسيد عبر كل الوسائط الممكنة، كما ستظل الرؤى الإخراجية المختلفة التي استعرضناها سريعًا درسًا متجددا في كيفية تعامل السينما والتليفزيون مع النصوص الدرامية غير المكتوبة أساسا لهما.