رغم الانقسام الحاد الحاصل في الشارع الجزائري بين المؤيدين لإجراء الانتخابية الرئاسية المقررة في 12 كانون أول (ديسمبر) المقبل، والرافضين لها، إلا أن ذلك لم يمنع من وجود حراك انتخابي، بالموازاة مع حراك الشارع الرافض لتلك الانتخابات، تماما كما لم يمنع من طرح التساؤلات حول برامج المرشحين الخمسة لهذه الانتخابات، بعد أن نجحوا في المرور عبر غربال اللجنة المستقلة للانتخابات، إثر استيفائهم كامل الشروط القانونية المطلوبة لدخول هذا الاستحقاق الرئاسي.
ولعل ما يستقطب الاهتمام أكثر ضمن تلك التساؤلات الكبرى المطروحة، علاوة على البرامج السياسية للمرشحين (عبد المجيد تبون، علي بن فليس، عز الدين ميهوبي، عبد القادر بن قرينة، وعبد العزيز بلعيد)، في انتظار ظهور نتيجة الطعون التي قدمها المقصيون إلى المجلس الدستوري، حول ماهية الخلفيات الفكرية والأيديولوجية لهؤلاء المترشحين، وهل لديهم مشاريع حقيقية حضارية بمنطلقات فكرية واضحة أم لا؟
ورغم أن الحملة الانتخابية لم تنطلق رسميا، ولم يشرع المرشحون بعد في تفصيل برامجهم السياسية للشعب، إلا أن الخطوط العريضة التي قدموها وأفصحوا عنها، تكشف بعض الإجابات القادرة على إزاحة غبار الضبابية عن وجه الرئيس الجزائري المقبل، وطبيعة توجهاته العامة، لما لذلك من أهمية كبرى في التأثير على واقع العالم العربي لما تحتله الجزائر من مكانة مرموقة داخله.
روح المرجعية القديمة حاضرة بقوة
أحدث إعلان السلطة المستقلة للانتخابات عن القائمة الرسمية للمرشحين لمنصب الرئاسة في 2 تشرين ثاني (نوفمبر) الجاري، صدمة هائلة في أوساط الجزائريين من بين المؤيدين للانتخابات وحتى بين المعارضين لها، لأنها أقصت كل الوجوه الجديدة التي حاولت أن تجرب حظها في مضمار السباق الرئاسي، بعد أن فشلت في جمع النصاب المطلوب من توقيعات المواطنين (50 ألف توقيع) لدخول المنافسة، الأمر الذي أنهى معه حديثا طويلا عريضا شغل الجزائريين منذ انتخابات الرئاسة التونسية الأخيرة، حول إمكانية إيجاد "قيس سعيد" جزائري، يخرجه الحراك أو تدفع به النخب المثقفة لتجاوز إشكالية سيطرة وجوه النظام السابق على المشهد.
وقد أدى إعلان القائمة الرسمية للمرشحين، إلى اعتماد مرجعية فكرية متقاربة للغاية، حيث ظهر أن بين المرشحين أربعة من الوطنيين القريبين جدا من مرجعية جبهة التحرير الوطني التي حكمت البلاد منذ الاستقلال، بينهم رئيسا وزراء من عهد بوتفليقة، هما عد المجيد تبون (مستقل) وعلي بن فليس (رئيس حزب طلائع الحريات)، وخليفة الوزير الأول السابق أحمد أويحيى (دخل السجن بعد استقالة بوتفليقة) على رأس التجمع الوطني الديموقراطي (الحزب الحاكم الثاني في البلاد) هو الشاعر والأديب عز الدين ميهوبي، الذي كان وزيرا للثقافة، وعبد العزيز بلعيد رئيس حزب جبهة المستقبل، الذي كان بدوره مناضلا قديما في حزب جبهة التحرير الوطني، قبل أن يستقل عنه ويؤسس حزبا جديدا سنة 2012.
أما المرشح الخامس عبد القادر بن قريبة، فهو الوحيد القادم من خلفية فكرية وأيديولوجية مختلفة (إسلامي)، كونه رئيس حركة البناء (الإخوانية)، الذي حاول استقطاب القاعدة الإسلامية مستغلا مقاطعة باقي الأحزاب الإسلامية للعملية الانتخابية، وخاصة حركة "حمس" الإخوانية والاستفادة من وعائها الانتخابي.
مرشحون في ميزان الفكر
بسبب الأوضاع الخاصة التي تمر بها الجزائر، وغياب نقاش فكري حقيقي، يفرق بين البرامج والتوجهات والمدارس الفكرية، وانحصار الصراع بين قوى الدولة العميقة وبقايا النظام الأمني المخابراتي القديم، ونظام العسكرتارية الوطنية الجديدة، انحرفت بوصلة الصراع من الدائرة الفكرية إلى دائرة التموقعات والتحالفات المرتبطة بالصراع على السلطة ومراكز النفوذ، الأمر الذي جعل الفروقات الفكرية بين المرشحين قليلة جدا كونهم جميعا من تيار واحد مؤيد لخارطة طريق حل الأزمة الجزائرية حاليا، التي تقترحها المؤسسة العسكرية، وهؤلاء هم في الغالب من التيار الوطني، أو ما بات يصطلح عليه التيار النوفمبري المؤمن بمبادئ الثورة التحريرية الجزائرية، في مقابل غياب تام للتيار (الديمقراطي العلماني) الذي اختار المراهنة على مطلبه التقليدي حول ضرورة إنشاء المجلس التأسيسي وإعادة النظر في المرجعيات الفكرية والأيديولوجية لبناء الدولة الجزائرية برمتها (بما في ذلك نزع العربية والإسلام من الدستور)، وغياب شبه تام للتيار الإسلامي (بعضه حاول الترشح وفشل وبعضه الآخر أعلن رفضه العملية الانتخابية بصيغتها وأدواتها الحالية).
ويمكن إجمال الخلفيات الفكرية والأيديولوجية لهؤلاء المرشحين في الخطوط العريضة التالية:
عبد المجيد تبون:
أهم المرشحين للفوز بمنصب الرئاسة (مرشح حر لكنه يحظى بدعم غير معلن من قبل حزب جبهة التحرير الوطني)، وهو من التيار الوطني، لكنه يصنف نفسه من الديمقراطيين كما صرح بذلك في أحد الحوارات المتلفزة، تولى رئاسة الوزراء لمدة ثلاثة أشهر فقط عام 2017، قبل إقالته على خلفية ما وُصف بأنه صراع مراكز القوى المحيطة ببوتفليقة، ومواجهته بارونات الفساد حينها.
ولا يعرف لتبون خلفيات أيديولوجية صريحة، كونه يعد نفسه أحد الرجال الذين خدموا الدولة الجزائرية طوال 50 سنة، وقد وعد بتقديم برنامج اجتماعي اقتصادي أخلاقي يقوم على المصالحة بين الجزائريين، ورغم وعوده ببناء جمهورية جديدة، إلا أنه يرفض فكرة بناء "جمهورية ثانية" على النمط الفرنسي، لما تحمله من مدلولات مرفوضة في الشارع الجزائري، كما يرفض الاستمرار في نمط الحكم الفردي الذي كرسه بوتفليقة بصلاحيته الدستورية الامبراطورية.
علي بن فليس:
هو ثاني أقوى المترشحين لمنصب الرئاسة الجزائرية، ورئيس حزب طلائع الحريات المعارض، بعد أن انشق من صفوف حزب جبهة التحرير الوطني، وما يميز بن فليس عن غيره، أنه كان مدير الحملة الانتخابية للرئيس بوتفليقة العام 1999، قبل أن يتولى منصب رئيس الحكومة، ثم يشق عصا الطاعة على رئيسه وقتها بوتفليقة، ويدخل معه في منافسة رئاسية في موعدين من قبل، في 2004 و2014، إلا أنه كان ينتهي به الأمر منهزما بفارق كبير، وقد برر كل ذلك بالتزوير الشامل الذي يميز انتخابات الجزائر.
وبغض النظر عن خلفية ابن فليس الوطنية، ودعوته إلى ما أسماه "أخلقة" الحياة السياسية، واستقلالية القضاء، إلا أن دعواته الصريحة للاعتراف بالثقافة الأمازيغية (كونه من الأمازيغ الشاوية)، في محاولة منه على ما يبدو لاسترضاء القبائل الأمازيغية، قد جلب له مشاكل واضحة في بقية أنحاء الجزائر من غير الأمازيغ.
ومن التصريحات المثيرة التي أدلى بها قبل يومين فقط لإحدى القنوات الجزائرية وأثارت لغطا كبيرا قوله: "الراية الأمازيغية هي تاريخ الجزائر"، و"الراية الأمازيغية هي رايتنا الثقافية وكل الشعب الجزائري أمازيغي"! رغم أن هذه الراية ظهرت فقط قبل 50 عاما، ولم يكن يعرفها من قبل لا مجاهدو الثورة ولا أي جزائري آخر من قبل، ورغم أن قيادة الجيش كانت منعت حمل هذه الراية باعتبارها راية "غير وطنية".
عز الدين ميهوبي:
يعد ترشح عز الدين ميهوبي، لمنصب الرئاسة مفاجأة كبرى، باعتباره تولى رئاسة التجمع الوطني الديمقراطي بالنيابة بعد إدخال رئيس الحزب الوزير الأول السابق أحمد أويحيى إلى السجن بتهم الفساد التي طالت كثيرا من المسؤولين، بل إن جزءا من الحراك كان بسبب ممارسات أحمد أويحيى وتصريحاته المستفزة، أكثر مما كانت حول عجز بوتفليقة وفساد محيطه.
وتعد الخلفية الفكرية لعز الدين ميهوبي وزير الثقافة السابق، كشخصية أدبية معروفة بأشعاره وإنتاجه الأدبي الغزير، فيها الكثير من المفارقات، فهو كشخصية ثقافية له توجهاته العروبية الوطنية المعروفة، لكنه مسؤول لحزب يصنف أنه خليط استئصالي علماني وطني، لا يعتد كثيرا بالثوابت كالعربية والإسلام، بل إن تقرب ميهوبي للأمازيغ وعائلة المقتول معطوب الوناس، كان قد أثار عليه نقمة شريحة واسعة من المجتمع، لا تقل عن نقمه دعمه لإعادة بناء صدر تمثال عين الفوارة بعد تحطيمه، أو دعمه لفتى مواقع التواصل الاجتماعي "ريفكا".
ومع ذلك امتلك ميهوبي شجاعة مدهشة للترشح في وضع ما زال فيه الحراك على أشده منددا بكل رموز النظام القديم، وقد أعلن أنه "ابن الشعب"، وأن برنامجه الانتخابي سيبنى على ثلاث قواعد، هي التخطيط والحوكمة الرقمية والاستشراف.
بلعيد عبد العزيز:
أصغر المترشحين سنا، والأكثر حيوية، قادم من مدرسة جبهة التحرير الوطني التاريخية، قبل أن يستقل عنها بسبب بعض الخلافات وينشئ حزب جبهة المستقبل، شارك في انتخابات الرئاسة العام 2014 لكنه لم يحقق وقتها نتيجة جيدة، ناضل طويلا في صفوف اتحاد الطلبة، ولم يظهر لحد الساعة توجهات أيديولوجية أو فكرية واضحة، أهم ما طرحه بعد قبول ملفه للترشح مراهنته على إحياء الصحراء الجزائرية، وهو الذي قال: "معي ستصبح تمنراست عاصمة القارة الأفريقية لأنها تستحق ذلك".
عبد القادر بن قرينة:
يرفض رئيس حركة البناء (الإخوانية) وصفه بمرشح الإسلاميين، ويصر على أنه مرشح كل الجزائريين، رغم أن خلفيته الفكرية والأيديولوجية واضحة للغاية، فهو إلى جانب كونه إخوانيا، أحد أبرز الشخصيات العروبية المؤمنة بعروبة الجزائر، حيث يتولى عضو الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي، كما أنه عضو مؤسس في مؤتمر الأحزاب العربية.
ورغم أن ابن قرينة كان وزيرا للسياحة في زمن بوتفليقة سنة 1997، إلا أنه يطرح نفسه خارج منظومة الحكم القديم، كواحد من التيار النوفمبري وهو ما أكده خلال تجمع بقاعة متعددة الرياضات بالشراقة، ضمت أكثر من 5000 شاب وشابة في 2 تشرين ثاني (نوفمبر) الجاري، حين قال "إن حلم شباب الثورة كان بناء وتشييد دولةٍ جزائريةٍ سيدةٍ ديمقراطية اجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية".
كما يركز على ما يسميه الاستثمار في رأس المال البشري من خلال "كسب رهان جودة التعليم".
غياب التيار الديمقراطي العلماني
ويرى الكاتب والإعلامي عبد الحميد عثماني من صحيفة "الشروق"، أن الخلفيات الفكرية للمرشحين منحصرة في تيارين: إسلامي ممثلا في رئيس حركة البناء الوطني عبد القادر بن قرينة، ووطني ممثلا بباقي المرشحين الأربعة، مع تباينات فارقة وسط هذه الكتلة.
ويوضح عثماني عبد الحميد الوضع لـ "عربي21" بأن عبد القادر بن قرينة يقدم نفسه وحركته، من خلال تسويق الخطاب العقلاني وتكريس الممارسة البراغماتية في التعاطي السياسي مع الواقع، على أنه وريث شرعي للمنهج الإخواني الذي رسمه الراحل محفوظ نحناح قبل عقود، رغم أنّ حزبه الأصلي، حركة مجتمع السلم، يوجد اليوم في معسكر الرفض الانتخابي.
كما أنّ هناك تمايزا بين علي بن فليس وعبد المجيد تبون وعبد العزيز بلعيد وعز الدين ميهوبي، على ما يجمعهم في الظاهر، حيث ينتمي الأول والثاني إلى "الوطنيين" لكن بمسحة تجعلهم أقرب إلى العلمانيين، والكل يتذكر تحالفهم في رئاسيات 2004.
أما بشأن المرشح القوي عبد المجيد تبّون، فيرى أنه تكنوقراطي إداري أكثر منه مرشحا بخلفية فكريّة. بينما يبقى ميهوني محسوبا على التيار الوطني العروبي، رغم وجوده على رأس حزب هجين بين الوطنيين والديمقراطيين العلمانيين.
وبذلك يغيب التيار الديمقراطي العلماني، وفق التصنيف التقليدي المحدد لتوجهات الطبقة السياسيّة في الجزائر، عن رئاسيات 2019.
ويختم عثماني مداخلته باعتبار خطابات المرشحين حتى الآن لا تنطلق من رؤية حضارية، بل تركز على ملفات الساعة والقضايا الآنية للمواطنين، منوها إلى أنّ المرجعية النوفمبرية الكبرى لبناء الدولة الجزائرية جامع مشترك بينهم ظاهريّا، مع إضافات إخوانيّة وتفصيلات وطنية.
من جانبه اعتبر الكاتب والإعلامي محمد لواتي أن عز الدين ميهوبي أديب وليس مفكرا صاحب رؤية، وأن له انتماء عروبيا، أما عبد المجيد تبون وعلي بن فليس فلا رصيد فكريا لهما غير الرصيد الإداري، وهو رصيد تجاوزه الزمن برأيه، وكذلك الشأن بالنسبة لابن قرينة.
ولا يراهن محمد لواتي في تحليله لـ "عربي21" إلا على المرشح عبد العزيز بلعيد، الذي يعتبره قادرا على مواجهة المتغيرات، ومن ثم يمكن إدراجه في واقع متقدم في الانتخابات، منوها إلى أن برامج المرشحين ما زالت للآن قبل بداية الحملة الانتخابية في إطار العموميات، في انتظار أن تتضح الرؤية عند طرح تلك البرامج وقراءتها بتأنٍ.
مرجعيات هجينة
في المقابل، لا يعتقد الإعلامي عبد الرزاق بولقمح بوجود مرجعيات فكرية، وبدرجة أكبر مشروع حضاري للمرشحين للرئاسة الجزائرية لسببين على الأقل:
الأول أن الساحة السياسية في الجزائر خلال السنوات العشرين الأخيرة من الصعب وضع تصنيف لأحزابها وشخصياتها على أساس فكري أو إيديولوجي، عكس ما كان موجودا مع بداية عهد التعددية الحزبية مطلع التسعينيات وحتى في عهد الحزب الواحد بعد الاستقلال، حيث كانت هناك تيارات فكرية قوية تتصارع بداخله بين يساري وإسلامي ومحافظ وعلماني، قبل أن تتفرخ إلى كيانات سياسية مع فتح باب التعددية الحزبية.
وكان من السهل تصنيف قادة هذه الكيانات وفقا لتوجههم الفكري بين إسلامي معتدل ومتشدد ويساري راديكالي ويساري معتدل ومحافظين وعلمانيين، لكن في السنوات الأخيرة ومع ما أفرزته حالة الصدام في التسعينيات خلال الأزمة الأمنية، إلى جانب حالة التفكك التي مست عدة أحزاب ورحيل قياداتها التاريخية، أضحت هذه الأحزاب بمرجعيات "هجينة" تحاول من خلالها التأقلم مع الواقع الجديد داخليا وخارجيا، وتبحث لنفسها عن تموقع سياسي أكثر منه الدفاع عن مشاريع حضارية.
أما السبب الثاني، أن هؤلاء المرشحين للرئاسة يبدو دخولهم هذا السباق في ظروف جد دقيقة تحصيل حاصل لواقع معين، في بلاد تبحث عن مخرج من حالة فراغ بأقل الأضرار؛ أي بالبحث عن رئيس يحقق الحد الأدنى من الشرعية والقبول في الشارع لمرحلة انتقالية في إطار الدستور.
ويخلص الإعلامي عبد الرزاق بولقمح في تشريح الحالة لـ "عربي21"، إلى أنه في ظل حالة الاستقطاب الحاصلة بين رافض لهذا المسار ومؤيد له، من الصعب الحديث عن مرشح بمشروع حضاري ومرجعية فكرية، من منطلق أن تكريس هذه التصنيفات يكون بناء على نقاشات واسعة تسبق أي استحقاق وتفرز تكتلات للقوى على مختلف مشاربها، وراء مرشحين يحملون توجهاتها السياسية والفكرية، عكس ما نشهده الآن في قائمة متسابقين لا نكاد نلمس فروقا جوهرية في تكوينهم ومسارهم السياسي.
والرأي نفسه تقريبا، ذهب إليه حسان بن نعمان مدير دار نشر الأمة، في حديثه لـ "عربي21"، حين اعتبر أنه من الصعب الحديث عن مرجعية فكرية أو مشروع حاليا، على الأقل قبل الاطلاع على برامج المرشحين للرئاسة، فقد كان جلهم جزءا من النظام السابق ومؤيدين لمشروع بوتفليقة السياسي؛ فابن قرينة قريب من الحركات الإسلامية، وابن فليس عارض بوتفليقة وكان وزيره الأول في العهدة الأولى. الباقون وزراء في عدة حكومات، سيكون من الصعب عليهم جميعا التخلص من صورة المتعاون أو المتعامل مع النظام، مستدركا أنه ربما يكون الدكتور عبد العزيز بلعيد استثناء بحكم عدم استوزاره في تلك الفترة.
(يرحلون جميعا) مرجعية عربية
وهكذا، وفي الوقت الذي يتبنى فيه العالم الرؤية الحضارية، عبر مشاريع عملاقة تطرح خصوصا في الشرق الصاعد، حيث تروج روسيا للنظرية السياسية الرابعة لمفكرها "ألكسندر دوغين"، التي تلخص المشهد في كون "المستقبل هو للمقدس وليس للمستباح"، وتتفنن الصين في طرح "الحضارة الاشتراكية الروحية"، وقد جسدتها في دستور الحزب الشيوعي قبل سنتين، وتطرح تركيا أردوغان فلسفة الديمقراطية الحضارية، بديلا للديمقراطية الغربية اللائكية، ما زلنا نحن العرب لا نكاد نجد طرحا فكريا أو حضاريا لمفهوم الحكم لا عند السلطة القائمة ولا عند المعارضات بأشكالها "الأيديولوجية" البائدة، الأمر الذي زاد في غرقنا كعرب في السطحيات والمشاريع الوهمية التي يبنيها ويطرحها الآخر، خاصة تلك القادمة والمغلفة من مصانع الغرب التي تؤوب إلى الأفول.
وها هي الجزائر نموذج مؤلم، يترشح من يترشح لمنصب الرئاسة في زمن انتفض فيه الشعب من القهر، لكن المرجعية الوحيدة في غياب العقل والنخب التي تقود، هي سطوة الغوغائية ونظرية "يتنحاو قع" (يرحلون جميعا)، التي امتدت بلهجات لبنانية وعراقية سريعا كاللهب، في حين أن أرضا أنجبت مفكرا مثل مالك بن نبي، كان من المفروض أن تقدم نماذج راقية في المشاريع السياسية والحضارية المنتجة من تربة الوطن، لكي تكون سمادا صالحا لأمراض الوطن.
ومع ذلك، سيبقى الجزائريون في الانتظار، فلربما حدث في المنعرج ما يتجاوز نظرية "اللانظرية" التي أبهرنا بها قيس سعيد في تونس، التي حازت مشروعا وطنيا في "اللابرنامج"، ويبدو أنه حتى ذلك الشكل من الإبهار التونسي الخاص، صار في حكم المستحيل الآن جزائريا، ليس فقط في نوعية "مترشحين على عجل"، وإنما لأن الانتخابات في حد ذاتها هي محل جدل وتنازع، قد تفضي بأصحاب الشأن إلى الخطب "ب" التي ستغير كامل المشهد، بما في ذلك هذا الحديث السابق لأوانه، عن الفكر والحضارة في دنيا السياسة العربية.
"النوفمبرية" في الجزائر.. صراع سياسي بخلفية فكرية
غلق معابد البروتستانت في الجزائر.. كنائس أم "مخافر"؟
بعد انتخابات تونس.. الجزائر تبحث عن "قيسها"