تأخذ الفكرة "النوفمبرية" في الجزائر اليوم، أبعادا سياسية وفكرية ضخمة، إلى الحد الذي بدأت فيه الفكرة تتحول خاصة منذ اندلاع الحراك الجزائري، إلى تيار سياسي فكري قائم بذاته، يجمع بين ثناياه علاوة على الفكر الاستقلالي عن المنظومة الكولونيالية القديمة، أبعاد الشخصية العربية الإسلامية الجزائرية، ومشروع الدولة في بناء الدولة الديمقراطية الاجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية.
غير أن الصراع حول المرجعية الفكرية لبيان ثورة أول نوفمبر الخالدة، أول وثيقة صادرة عن الثورة التحريرية، بين مؤيد لها بقوة، ومعارض لها بإصرار، يقف اليوم في هذا الفاتح من تشرين ثاني (نوفمبر)، المصادف لإحياء الذكري الخامسة والستين من اندلاع ثورة الفاتح من نوفمبر المجيدة في الجزائر، مع حدث بارز يتعلق باقتران الجمعة الـ 37 من عمر الحراك الجزائري مع هذه الذكرى، ومحاولة المنظمين للحراك المتواصل، ربط فعاليات الحراك هذه المرة بالذكرى النوفمبرية، وليس بالفكرة النوفمبرية، مع محاولة استغلالها في الصراع القائم مع السلطة القائمة من أجل عرقلة مشروع الانتخابات الرئاسية.
والغريب في المعادلة الجزائرية الأصلية اليوم على أرض الحراك والتجاذبات، أن التيار النوفمبري الذي يرفع هذا الشعار، يتمركز في السلطة (المؤسسة العسكرية) وضمن تيار شعبي وطني عروبي واسع، وهو يقف بكل ما أوتي من قوة مع خارطة طريق الجيش، في الذهاب إلى الانتخابات الرئاسية المقررة في 12 كانون أول (ديسمبر) المقبل، بينما تقف القوى الأخرى (وهي خليط علماني إسلامي متعدد الخلفيات الأيديولوجية) ضد النوفمبرية كشعار وأحيانا كمرجعية، لكنه يأخذ من رمزية التاريخ الثوري، عبر اعتماده لحركة التصعيد انطلاقا من هذا الفاتح من نوفمبر، للدفع بأكبر التظاهرات (المليونية) ناحية التأثير في المشهد، تيمنا بالذكرى، وطلبا لما تقول هذه القوى (المعارضة)، حقها في الاستقلال مما تراه "الديكتاتورية"، بعد أن حقق مجاهدو الأمس "الاستقلال" عن الاستعمار.
فأي الفريقين أولى بروح نوفمبر الخالدة، وما هي الخلفيات الفكرية التي ينطلق منها كل طرف لخدمة مشروعه، نحو بناء الدولة الجزائرية الحديثة؟
"النوفمبرية".. مشروع مجتمع ودولة
عندما أطلق الرعيل الأول من مجاهدي ثورة التحرير الجزائرية في مثل هذا اليوم من الفاتح من تشرين ثاني (نوفمبر) 1954، ثورتهم المباركة، لم تكن الرصاصة الأولى التي لعلعت في جبال الأوراس، إعلانا فقط عن اندلاع ثورة مسلحة ضد الظلم والاستعباد، بقدر ما كانت بالموازاة، إعلانا لميلاد مشروع دولة، حمل معالمه بيان أول نوفمبر الذي وجهه مفجرو الثورة من مجاهدي جبهة التحرير الوطني إلى عموم الشعب الجزائري.
ومما جاء من مبادئ وأهداف البيان الخالد الذي يعد مرجعية فكرية وسياسية لمشروع الدولة الجزائرية الحديثة ما يلي:
تحقيق الاستقلال الوطني بواسطة:
1 ـ إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية.
2 ـ احترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني.
كما أكد البيان أن من أهم أهدافه الخارجية "تحقيق وحدة شمال أفريقيا في داخل إطارها الطبيعي العربي والإسلامي"، وقد جعل المجاهدون كلمة السر لاندلاع الثورة الجزائرية (عقبة ـ خالد)، بكل ما تحمله من مدلولات الانتماء للإسلام والعروبة.
وقد شكلت هذه المبادئ، الإطار الجامع الذي التف حوله قبل 65 سنة معظم الجزائريين لبناء دولتهم، وعلى أساسه رسموا المنطلقات الفكرية لجزائر الغد، غير أن جزائريين آخرين تنكبوا الطريق، وحاولوا بعدها حرف مسار القطار عن سكته الصحيحة، عبر الترويج لمبادئ وأسس فكرية وأيديولوجيات أخرى مختلفة، مرتبطة ببعض النخب المتغربة، التي لا علاقة لها بالضرورة بنبض الشعب.
لقد كانت "النوفمبرية" بحق، مشروع دولة حقيقية كما رسمها المجاهدون، وحلم بها الشهداء، وقد استنبطت كل مقومات أصالة الشعب التي ظلت واقفة رغم محاولات الاستعمار طمسها طوال أكثر من قرن وثلاثين سنة من الاستعمار الاستيطاني، الذي كان يختلف عن باقي أشكال الاستعمار الأخرى، كونه كان يستهدف سلب الشخصية الجزائرية بمقوماتها وأبعادها، قبل أن يستهدف الأرض.
غير أن هذا المشروع تعرض في أثناء الثورة وبعد الاستقلال إلى محاولات اغتيال ممنهجة، انتهت به إلى أن تحول إلى مشروع مؤجل، بعد أن تصارعت حوله النخب المؤدلجة، والمصالح الذاتية مع المصالح الاستعمارية، إلى درجة تحولت معها الدعوات إلى بناء الدولة الجزائرية الديمقراطية في إطار المبادئ الإسلامية كأنها دعوة إرهابية، وتحول حلم "تحقيق وحدة شمال أفريقيا في داخل إطارها الطبيعي العربي والإسلامي"، كأنه دعوة (قومية بعثية)، بعد أن ازدادت التيارات العرقية المعادية سطوة ونفوذا، مستغلة في ذلك تغلغلها الواسع في دواليب الدولة ومراكز صناعة القرار.
"الصومامية".. هل هي المشروع المضاد؟
لعل من أسباب انتكاسة المشروع النوفمبري لبناء الدولة، هو ظهور ما يسمى بالمشروع "الصومامي" المضاد، الذي يتحدث عنه المؤرخون بكثير من الاختلاف والتضارب، حيث أدى مؤتمر الصومام (20 آب / أغسطس 1956) الذي أشرف عليه وهندسه الشهيد عبان رمضان، إلى محاولة إيجاد مرجعية فكرية مختلفة عن مرجعية بيان نوفمبر، غابت خلاله كل مظاهر الإشارة إلى البعدين العربي والإسلامي للثورة، ويرجح باحثون في التاريخ أن يكون اختيار مكان انعقاد مؤتمر الصومام، الذي يقع بمنطقة القبائل (الأمازيغ)، وما تمخض عنه من نتائج، إلى محاولات المستعمر آنذاك (تبقى في نطاق الفرضيات) اختطاف الثورة وتحويل مسارها وطابعها ومنطلقاتها الفكرية، ويستشهد البعض بحكم الإعدام الذي تعرض له عبان رمضان، من طرف قيادة الثورة (الباءات الثلاثة) بتهمة التواصل أو التخابر مع الاستعمار.
ومهما يكن أمر هذا المشروع الذي قيل كثيرا إنه وجد كمشروع مضاد للنوفمبرية، إلا أن الجماعات التي تبنته فيما بعد، وهي في الغالب جماعات الأحزاب العرقية غير العربية، والعلمانيون المتطرفون المعادون لثوابت البلاد، جعلت من المشروع الصومامي مناقضا للمشروع النوفمبري رغم انبثاقهما من ثورة واحدة، وباسم هذا المشروع ترفع اليوم الشعارات "اللائكية"، التي تسعى لبناء جزائر غير تلك التي تكون في إطار المبادئ الإسلامية، وباسمها ترفع الرايات الأمازيغية (رغم أن مؤتمر الصومام كان تحت الراية الوطنية الجزائرية الجامعة، ولم تكن الراية الأمازيغية معروفة حينها إطلاقا)، وباسمه تقوم تلك القوى بمحاولة إلغاء الهدف النوفمبري (تحقيق وحدة شمال أفريقيا في داخل إطارها الطبيعي العربي والإسلامي)، ليكون البديل عنه، هدفا آخر تماما هو تحقيق (وحدة تامازغا الناطقة بالأمازيغية غير العربية، التي تمتد في كامل شمال أفريقيا).
تحالف النوفمبرية ـ الجيش
وبينما ظلت النوفمبرية كامنة طوال العقود الماضية من الاستقلال، وقد تراجع صداها بشكل هائل خاصة بعد وفاة الرئيس هواري بومدين (27 كانون أول / ديسمبر 1978)، قبل أن يتم سحقها بشكل شبه كامل بعد انقلاب (كانون ثاني / يناير 1992)، كان لموقف الجيش الجزائري وقيادته الداعمة والمؤيدة للفكرة النوفمبرية بعد الإطاحة بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة (أجبر على تقديم استقالته في 2 نيسان / أبريل 2019 تحت ضغط الشارع وقيادة الجيش معا)، الأثر البارز في عودة الفكرة النوفمبرية، وظهور هذا التيار بين الجماهير المنتفضة وسط الحراك الشعبي بشكل كبير، حيث ظهر خلالها أنه يجمع بين صفوفه أغلبية الشعب، الملتزم بالمرجعية الفكرية لأول بيان من انطلاق الثورة ضد الاستعمار.
وقد أدى إعلان قيادة الجيش الجزائري التزامها بهذه المرجعية إلى عودة الاصطفاف الأيديولوجي والفكري للشارع الجزائري، حيث بينما اختار قطاع واسع من الجزائريين دعم المؤسسة العسكرية على أساس أنها كشفت مرجعيتها، وقامت بالإطاحة برموز العصابة التي لم تكن تؤمن بالمطلق بهذه المرجعية بل وتحاربها، اختار قطاع آخر من الشعب، إعلان المعاداة الصريحة للمؤسسة العسكرية ولهذه المرجعية، حيث تداخلت الخلافات السياسية مع الاختلافات الفكرية لتشكل المشهد الجزائري المعقد اليوم.
ظاهريا، الصراع في الجزائر بعد كل هذا هو صراع سياسي، بين أنصار الحل الدستوري الذي تتزعمه المؤسسة العسكرية، التي لا ترى من سبيل آخر لحل الأزمة غير التوجه للانتخابات الرئاسية، باعتبار الصندوق هو السبيل الوحيد والآمن لحل مشكلة الشرعية والمشروعية، وبين أنصار حل المرحلة الانتقالية (ومعهم دعاة المجلس التأسيسي)، الذين ما يزالون في الشارع إلى اليوم، للمطالبة بإلغاء الانتخابات المقبلة، بينما الصراع في أصله صراع فكري أيديولوجي، هو بين مشروعين لبناء الدولة، مشروع نوفمبر (العروبي \ الإسلامي)، ومشروع آخر يرفع اليوم شعارات الحرية والديقراطية، لكنه جمع حوله أنواعا من المتناقضات الأيديولوجية المتنافرة (من الصوماميين، دعاة الجزائر الأمازيغية، وبعض الإسلاميين)، الأمر الذي أحدث كل هذا القدر من الإرباك والضبابية، وجعل من فهم طلاسم الوضع الجزائري، متعذرا حتى على بعض الفاعلين داخله.
الحراك .. ورمزية نوفمبر
لهذا يبدو الحراك الجزائري الذي بدأ موحدا في الـ 22 شباط (فبراير) الماضي، وقد تغير لونه وطعمه ورائحته، بعد أن تنازعته الأيديولوجيات والخلفيات الفكرية للفاعلين داخله، فبينما كان النوفمبريون الباديسيون (نسبة إلى رائد النهضة الجزائرية عبد الحميد ابن باديس)، يسيرون في بداية الأمر، جنبا إلى جنب مع العلمانيين وأصحاب الرايات الصفراء الأمازيغية، وغيرهم من التيارات الموجودة على الأرض، انسحب النوفمبريون بشكل واسع إلا قليلا، بداية من الجمعة الـ12 من عمر الحراك، بعد أن اقتنع هؤلاء بأن جل مطالبهم قد تحققت (إزاحة بوتفليقة، والإطاحة برموز العصابة المعادية للفكر النوفمبري من على رأس السلطة والأمن وكبار رجال الأعمال والمال، والقبول بالذهاب للانتخابات الرئاسية باعتبارها الحل الأكثر أمانا)، بينما بقيت التيارات الأخرى في الشارع، للمطالبة بالمرحلة الانتقالية والمجلس التأسيسي، وتصر على ذهاب كل رموز النظام السابق، لكن من دون أن تتمكن من تغيير المعادلة السياسية التي يقودها الجيش، ويصر عليها بدعم من النوفمبريين.
وبينما استمر الوضع على هذا الحال، بين التجاذب والتدافع، ارتأت القوى الحراكية (غير النوفمبرية) التي ما تزال في الشارع، أن تستثمر في ذكرى الفاتح من تشرين ثاني (نوفمبر) اليوم، لإعطاء نفس جديد للثورة الشعبية، وإجبار منظومة الجنرالات - كما يقولون- على تسليم الحكم للشعب (وإن بقيت الآليات غير معلومة)، عبر الدعوة لمسيرات مليونية هي الأكبر من نوعها، والانطلاق في مرحلة جديدة من التصعيد، خاصة أن موعد الانتخابات الرئاسية كما سطرتها السلطة القائمة لم يعد يفصلنا عنها سوى حوالي 40 يوما.
وهذا يدلل بوضوح، أنه حتى تلك القوى التي لا تؤمن بمبادئ ومرجعية بيان الفاتح من نوفمبر، أو التي تؤمن بها، لكنها كفرت بها بعد أن رأت أن العسكر يستغلون المرجعية لصالحهم، من أجل البقاء في الحكم، يحاولون اليوم بدورهم الاستثمار في رمزية نوفمبر، لإدراكهم العميق، أنه التاريخ الذي انتصر للثورة وبالثورة، وأن ثورتهم اليوم من أجل تحرير الإنسان لن تكون مكتملة دون بركات نوفمبر الذي حرر الأرض.
الصراع هو حول طبيعة مشروع المجتمع
ويرى الدكتور إدريس بولكعيبات، في إطار هذا الاستقطاب الفكري والأيديولوجي الحاصل اليوم في الجزائر، أنه منذ بدء الحراك الشعبي ظهرت إلى العلن حالة من الاستقطاب والتخوين بين تيارين: الأول يستند إلى بيان تفجير الثورة التحريرية كمرجعية، والثاني يفضل الاستناد إلى البيان الذي صدر عن مؤتمر الصومام المثير للجدل، الذي رفضته بعض قيادات الثورة شكلا ومضمونا، حيث اعتبره الغائبون أو المغيبون انحرافا عن المسار وإقصاء متعمدا، وقد وضع عبان رمضان مهندس ذلك المؤتمر في نقطة التسديد بعد أن اتهم بالاستحواذ على المسار والمخرجات.
ويفسر الدكتور إدريس بولكعيبات خلفيات ذلك لـ "عربي21"، بالإشارة إلى أنه على الرغم من أن مؤتمر الصومام كان ضروريا لتنظيم الثورة بعد اتساع نطاقها، إلا أن ثلاثة بنود تحولت إلى قنابل وكانت السبب المباشر لتفجير خلافات عميقة، أدت إلى تصفية جسدية بين الرفاق لاحقا؛ وهي أولوية الداخل على الخارج، وأولوية المدني على العسكري، ومشروع مجتمع يقوم على بناء دولة ديمقراطية اجتماعية، مع إغفال إطار المبادئ الإسلامية، مشيرا إلى أن المدافعين عن بيان الصومام زعموا أن ذلك كان رسالة اطمئنان للأقليات المسيحية واليهودية، حتى لا توصم الثورة بالعرقية أو الدينية.
ولم يحسم هذا الجدل أبدا بحسب الدكتور بولكعيبات، وظل يخبو ثم يعود مع تجدد الأزمات السياسية والاجتماعية الدورية في الجزائر؛ فالتيار ذو المرجعية النوفمبرية يتهم الصوماميين بتهديم أركان الهوية الوطنية ببعديها العربي الإسلامي وبالانسلاخ، بينما يرافع التيار الصومامي من أجل التصحيح ببناء دولة حديثة، تتجاوز الدين وتعتبره مسألة فردية وشخصية.
الحراك يبعث الخلافات التاريخية
وأكد الدكتور إدريس بولكعيبات أن الحراك الشعبي كان فرصة للعودة بذلك الخلاف التاريخي حول مشروع المجتمع بين الطرفين، لأن الجزائر تمر اليوم بمنعطف حاسم سينتهي بلا شك بوضع دستور جديد للبلاد. ويعرض الطرفان مشروعين مختلفين للمجتمع، ولهذا سيشتد الصراع في قادم الأيام.
وأشار إلى أن الدساتير التي عرفتها الجزائر وهي كثيرة، ترفع من شأن الإسلام بجعله دينا للدولة، وما مطالبة التيار الرافض بشدة للانتخابات القادمة بالذهاب إلى مجلس تأسيسي بديل عن الانتخابات ويكون كامل الصلاحية؛ حيث يخول له وضع دستور جديد وبناء جمهورية جديدة أو ثانية، إلا رغبة في إحداث انقلاب شبيه بانقلاب بيان الصومام على بيان أول نوفمبر، وهذا ما تعنيه الدعوة إلى بناء جمهورية ثانية وإحداث القطيعة مع الجمهورية الحال، بما يعني أننا أمام حالة يعيد فيها التاريخ نفسه.
أما الكاتب والإعلامي عبد القادر حريشان، فأوضح أنه حدث في وقت سابق في التسعينيات عندما قال سعيد سعدي (زعيم التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية البربري)، إن مرجعيته هي مؤتمر الصومام وليس بيان نوفمبر، وقد أجبناه وقتها، لكن ذلك بقي في قناعاتهم الدفينة، نظرا لما حدث لعبان رمضان مع الباءات الثلاثة.
ويؤكد عبد القادر حريشان لـ "عربي21"، أن ما يحدث الآن مع الحراك هو عودة الشعارات القديمة نفسها بقوة، وانظر إلى شعار "تنحية الباءات الثلاثة" حاليا (بن صالح، بدوي، بعليز)، التي تقابلها فيما يبدو رموز من حقبة تاريخية واضحة (بلقاسم كريم، عبد الحفيظ بوصوف، أحمد بن طوبال)، وهنا يكمن ضعف الحراك الذي كان باستطاعته تحقيق الكثير لو لم يتدخل فيه تلك الشعارات، ولولا أن تيارا بعينه استولى على الحراك من جميع الجوانب، مما أعطى لقائد الجيش قايد صالح الفجوة التي دخل منها ليزعزع الحراك ويشق وحدته.
ورغم أن حريشان يعتبر أن الفرصة مازالت قائمة لاسترجاع الموقف بمعالجة هذه الأخطاء لتمكين الحراك من مواصلة مساره، إلا أنه يعتقد أن داخل الحراك هناك من هم ضد النوفمبرية فعلا، وإن كانوا ليسوا جميعا ضدها، وأن هنالك فرصة تاريخية لكي يتخلى البعض عن رفع ما يفرق من شعارات بدل الشعارات الوحدوية الجامعة.
نوفمبر جل جلاله فينا
الآن يتشكل الخطر القادم، في استجلاب خلافات التاريخ ووضعها كعصي غليظة على سكة المستقبل، الآن تتطاحن المرجعيات الفكرية المتضاربة، بينما الهدف هو بناء دولة الحق والعدل والحرية والظاهر أننا مازلنا في أوطاننا العربية، أسرى (بأتم معنى الكلمة) للماضوية، ونحن نحاول بناء أجنحة المستقبل، وللأيديولوجيا بدل قيم العيش المشترك.
لكن في المقابل، كيف نبني دولة الحق والعدل، إذا ما انسلخنا عن جذورنا وأصلنا؟ ألا نكون بذلك قد بنينا دولا بلا روح ولا هوية؟
سيكون من الحكمة اليوم، أن نبحث في إيجاد أرضيات ومرجعيات جامعة، وها هو نوفمبر العظيم، "نوفمبر الذي جل جلاله فينا" كما صدح بذاك شاعر الثورة الكبير مفدي زكريا، أليس نوفمبر هذا "الذي بث فينا اليقينا"؟ كيف يكون اليوم مثار خلاف واختلاف وفرقة؟
ليكن نوفمبر، بمن يراه مرجعية فكرية، ومن يراه فكرة رمزية، طريق وحدة متجددة للجزائريين، ذلك أنه بالفعل لولا نوفمبر، ما كانت الجزائر (ولا رحنا للنصر نسوق السفينة)
(وتعلو السياسة طوعا وكرها
لشعب أراد فأعلى الجبينا
ولولا التحام الصفوف وقانا
لكنا سماسرة مجرمينا).
حملات النظافة في تونس.. فعل ثقافي بغطاء اجتماعي (1 من 2)
بعد انتخابات تونس.. الجزائر تبحث عن "قيسها"
الديني والسياسي في الانتخابات التونسية.. حزب الرحمة نموذجا